معني اسم الله تعالى المدبر
عباد الله:
حديثنا اليوم عن اسم الله المدبر,
والمدبر يعني أن الله -عز وجل-
هو الفاعل الحقيقي في هذا الكون
وأن ما نظنه هو الفاعل من البشر أو غيرهم ما هو إلا سبب,
فلو لم يرد الله أمراً لن يحدث أبدا
, والمدبر يعني -أيضاً- أن الله -سبحانه وتعالى-
يدبر شؤون عباده المؤمنين
, بما هو أصلح لدينهم ودنياهم.
فاذا أردت الفلاح في الدنيا والآخرة ادعو الله أن يدبر لك
فأنت ليس بيدك شيء, إلا السعي دائماً بالأسباب,
والله ولي التدبير لك وللمخلوقات جميعاً.
يظن كثير من الناس أن التفكر في ما خلق الله من سموات وأرض وبحار وأنهار وإنس وجن للاعتبار,
وينسون ويغفلون عن التفكر في تدبير الله -تعالى- لهذا الخلق, كيف يدبر شأنهم؟!
وكيف يرزقهم؟!
وكيف يهديهم؟!
وكيف يضلهم؟!
وكيف ييسر أمورهم؟!
وغير ذلك من التساؤلات؛ إنه المدبر لكل هذه التساؤلات.
عباد الله:
إن تدبير الله خير من تدبيرك لنفسك, إن الإنسان قد يدعو الله فيما يحب,
فإذا وقع ما يكره فعليه الرضا والتسليم فيما قد الله
فان اختيار الله أفضل وأكمل.
وإذا رجعنا لتدبير الله -عز وجل- في كثير من قصص الأنبياء -عليهم السلام- كيف دبر الله -عز وجل- رسله؟
! فهذا موسى -عليه السلام- أوصى الله إلى أمه أن ألقيه في اليم في البحر داخل صندوق, ثم وصل الصندوق إلى فرعون, فلماذا لم يقتله وهو طفل صغير وستكون نهاية موسى -عليه السلام-؟!
لكنه تدبير الله -عز وجل- جعله يربيه في قصره, حتى أصبح شاباً كبيراً, ثم دعاه للإسلام بعد أن أصبح نبياً؛ فرفض دعوة موسى -عليه السلام- والإيمان بالله.
وهذا يوسف -عليه السلام- يتشاورون في قتله فلم يقتلوه؛ إنه تدبير الله, ثم يرميه إخوته في الجب -أي البئر-,
فلم يهلك بل حفظه الله حتى جعله الله -عز وجل- وزيراً في مصر؛ إنه تدبير الله
, (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ)[يوسف: 56].
وهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يريد المشركون أن يقتلوه, يتآمروا عليه ويجتمعوا حول بيته في مكة, لكن الله -عز وجل- أعمى أبصارهم, وخرج من بين أيديهم بعد أن جعل علياً في فراشه
أنه تدبير الله -عز وجل-, ويطارده الكفار في كل مكان حتى في المكان الذي يختفي فيه بجبل ثور مع صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- حتى إن صاحبه أبا بكر يقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا”
, لكن الله أعمى أبصارهم وبصائرهم؛ فيرد الرسول -عليه الصلاة والسلام- على أبي بكر ويقول: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”
رواه البخاري ( 3380 ) ومسلم ( 4389 ) .
إنه تدبير الله -عز وجل-.
وهذا ما يقودنا إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-
روى الترمذي (2516) وصححه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: " كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: ( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ )
قال الترمذي رحمه الله : "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ "
وقال ابن رجب ـ عن طريق الترمذي هذه ـ : "حسنة جيدة"
انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1/483)
وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
وهذا الحديث حديث حسن المعنى جدا ، مشهور متداول عند أهل العلم ، وله طرق وشواهد عديدة
وقد صححه أيضا من أهل العلم :
الحافظ عبد الحق الأشبيلي في "أحكامه" (3/333).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" بين النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الجملة أن الأمة لو اجتمعت كلها علي أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، فإذا وقع منهم نفع لك
فاعلم أنه من الله ، لأنه هو الذي كتبه ، فلم يقل النبي صلي الله عليه وسلم : لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك ؛ بل قال: ( لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ) .
فالناس بلا شك ينفع بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا، ويساعد بعضهم بعضا، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان ، فالفضل فيه أولا لله عز وجل ، هو الذي سخر لك من ينفعك ويحسن إليك ويزيل كربتك .
وكذلك بالعكس ، لو اجتمعوا علي أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقا بربه ، ومتكلا عليه ، لا يهتم بأحد ، لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق علي أن يضروه بشيء
لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ؛ وحينئذ يعلق رجاءه بالله ويعتصم به ، ولا يهمه الخلق ولو اجتمعوا عليه .
ولهذا نجد الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا علي الله وتوكلوا عليه ، لم يضرهم كيد الكائدين ، ولا حسد الحاسدين: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) آل عمران/120 "
انتهى من "شرح رياض الصالحين" (1/ 491-492) .
وقال ابن كثير
: يدبر الأمر ـ أي: يدبر أمر الخلائق: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض { سبأ: 3} ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلظه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين
ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، في الجبال والبحار والعمران والقفار:
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين {هود: 6}
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين {الأنعام: 59}. اهـ.
وقال الألوسي:
وقوله تعالى: يدبر الأمر
استئناف لبيان حكمة استوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته، والتدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود، والمراد به هنا: التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر
والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش، فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق، والنمط اللائق حسبما تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة
ويدخل فيما ذكر ما تعجبوا منه دخولا ظاهرا، وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ما اقتضته حكمته
ويهيئ أسبابه بسبب تحريك العرش، وهو فلك الأفلاك عندهم، وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه، وقيل: لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم ... اهـ.
ولعلنا نلاحظ في حياتنا كثيراً من الأقدار التي نراها شراً لنا, إلا أننا عندما نفكر في نتائجها نراها قد أصبحت خيراً,
وما ذلك إلا من تدبير الله لنا,
فعلينا أن نثق في تدبير الله لنا, وندعو الله -عز وجل- ونقول: “يا مدبر دبر أمورنا إلى خير”.
نسأل الله أن يدبر أمورنا إلى خيري الدنيا والآخرة
إنه ولي ذلك والقادر عليه
الشيخ محمد صالح المنجد