معني اسم الله تعالى القيوم
أيها المؤمنون:
ما من مخلوق إلا وهو محتاج في وجوده واستمراره إلى غيره
فلا حياة للبشر بدون أرض يحيون عليها وهواء يستنشقونه وطعام وشراب وكساء…
وكذا كل الكائنات الحية
كذلك هذه الأرض التي تقلنا في حاجة إلى الجبال التي تعمل عمل الأوتاد في تثبيتها
قال -تعالى-: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل: 15]
والسموات السبع الشداد وإن تخيل متخيل أنها قائمة بلا عمد
فإن القيوم -عز وجل-
هو من يمسكها كي لا تتدمر
قال -تعالى-: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج: 65]
وقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) [فاطر: 41]
وكذا كل شيء في هذا الكون
لهو في حاجة إلى من يقوم به ويتولاه ويمسكه وإلا هلك
باستثناء واحد فقط لا ثاني له
فليست به حاجة إلى سواه
ولا يعتمد في حياته ودوامه على شيء ولا على أحد
بل هو يقوم بأمر كل الخلائق
ومن دونه هلكت جمعاء
ذلك هو الحي القيوم الواحد الأحد الصمد -سبحانه وتعالى-.
عباد الله:
إن من أسماء الله الحسنى: “القيوم”
ومعناه: كامل القيام بأمر نفسه وبأمور غيره
تام التدبير لأرزاق المخلوقات وآجالها وأعمالها وأحوالها
الذي لا يحتاج في قيامه إلى شيء
ويحتاج إليه كل شيء.
هذا، وقد اشتمل هذا المعنى الإجمالي على أمرين:
الأول: أنه -تعالى- قائم بذاته لم يُقِمْهُ غيره
ولا يفتقر في قيامه ودوامه إلى شيء
لأن قيامه -عز وجل- قيام أزلي أبدي لا أول له ولا آخر له.
الثاني: أنه -تعالى- قائم بكل أمور مخلوقاته في الدنيا والآخرة؛
يحفظهم ويرزقهم ويدبر أمورهم ويصرف أحوالهم ويحصي أعمالهم ويحشرهم ويحاسبهم…
يقول ابن القيم في النونية:
هــــذا ومــــن أوصـــافـه القـيــوم والـ
قـيــوم في أوصــافـه أمـــران
إحداهـمــا الـقــيــوم قـــام بــنــفــسه
والكون قام به هـما الأمــران
فالأول اســتــغـنــاؤه عـــن غـيـره
والفقر من كــــــل إليه الثــاني
والوصف بالقيوم ذو شأن كذا
موصوفه أيضًا عظيم الشان
أيها المؤمنون:
لقد ورد اسم الله القيوم في القرآن ثلاث مرات
ولم يأت في هذه المرات الثلاثة إلا مقترنًا باسم الله الحي
وفي هذا تأكيد واضح على حقيقة هامة
وهي أن قيوميته -عز وجل- مستمرة دائمة باقية لا تزول
كما أنه -سبحانه وتعالى- حي لا يموت
وأنه -جلا وعلا- لا تنقطع قيوميته ولا تنتهي أبدًا
ولا يغفل عن مخلوقاته طرفة عين
فقيوميته -عز وجل- كاملة
وقد سمعنا القرآن في أول ذكرٍ لاسم الله القيوم في آية الكرسي
وهو يقول: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة: 255]
فالنوم والسنة توجبان الغفلة وانقطاع القيومية
لذا فهما محالان على الله -عز وجل-
وقد روى أبو موسى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
قام فينا رسولُ اللهِ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – بخمسِ كلماتٍ :
قال : إنَّ اللهَ لا ينامُ ، ولا ينبغي له أن ينامَ
ولكن يخفضُ القسطَ ويرفعُه
يُرفعُ إليه عملُ اللَّيلِ قبل عملِ النَّهارِ
وعملُ النَّهارِ قبلَ عملِ اللَّيلِ
حجابُه النُّورُ
لو كشفها لأحرقت سبُحاتُ وجهِه ما انتهَى إليه بصرُه من خلقِه
أخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195)، وأحمد (19632) باختلاف يسير
وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/177) واللفظ له
وأما المرة الثانية ففي سورة آل عمران
وهي قوله -تعالى-: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران: 2]
وأما الثالثة
فقوله -سبحانه-: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه: 111].
وكما أن النوم والسِنة محالان على الله -تعالى
- لأنهما يضادان قيوميته الدائمة التي لا تزول
فكذلك محال عليه -عز وجل- أن يموت
لأن الموت أشد مضادة للقيومية
لذا وصف -تعالى- نفسه في المرات الثلاث بـ”الحي” مع “القيوم”
وقد قال -عز من قائل-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) [الفرقان: 58].
يقول ابن القيم:
والحــي يتـــلـــوه فأوصاف الكما ل
هـمــا لأفــق سمائـــها قطبان
فالحي والقيوم لن تتخـــلف
الـأوصــــــاف أصلًا عنــــهما ببيان
وله الحياة كمالها فلأجــل ذا
ما للممات عــليه من سلطان
وكذلك القيوم من أوصــــــافه
ما للـــمـــنــام لــديـــه مــــن غشيان
أيها المؤمنون:
لقد اختلف العلماء في اسم الله الأعظم
وتعددت الأدلة على أن “الحي القيوم” جزء من اسم الله الأعظم إن لم يكن هو ذاته
فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك حين قال:
أنَّهُ كانَ معَ رسولِ اللَّهِ صلّى اللَّه عليه وسلم جالسًا ورجلٌ يصلِّي
ثمَّ دعا اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ لا إلَهَ إلَّا أنتَ المنَّانُ بديعُ السَّمواتِ والأرضِ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ يا حيُّ يا قيُّومُ
فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ لقد دعا اللَّهَ باسمِهِ العظيمِ الَّذي إذا دعيَ بِهِ أجابَ وإذا سئلَ بِهِ أعطى
رواه الترمذي ( 3544 ) وأبو داود ( 1495 ) والنسائي ( 1300 ) وابن ماجه ( 3858 )
وصححه الألباني في " صحيح أبي داود "
عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اسْمُ اللَّهِ الأَعظَمُ فِي سُوَرٍ مِنَ القُرآنِ
ثَلَاثٍ : فِي " البَقَرَةِ " وَ " آلِ عِمرَانَ " وَ " طَهَ " ) .
رواه ابن ماجه ( 3856 )
وحسَّنه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .
أيها المؤمنون:
إن قيومية الله -تعالى- على هذا الكون وما فيه من كائنات أثمرت إبداعًا وصيانة وحفظًا له ولمن فيه
وهذي بعض مظاهره:
أولًا: النظام المتقن والترتيب الدقيق: فالأفلاك تدور في مدار محدد منذ خلقها الله وإلى يوم القيامة لا تحيد عنه
قال -تعالى-: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40]
ومن الأفلاك العظيمة إلى الذرة التي لا ترى بالعين المجردة،
وفيها تدور -كذلك- “الإلكترونات” الموجبة
والنيوترونات” السالبة حول نواة الذرة
لا تتخالف ولا تتصادم…
فسبحان الحي القيوم الذي أبدع هذا النظام وحافظ عليه بقيامه بأمره.
ثانيًا: التوازن الفريد بين مكونات الكون والكائنات: فالليل يعقبه نهار
والنهار يتلوه ليل
للتوازن بين الراحة والعمل
وقد امتن الله -جل وعلا- علينا بهذا قائلًا: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ
* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص: 71-73].
ومثل هذا التوازن نلحظه في كل جوانب هذا الكون
فالنباتات تأخذ “النيتروجين” وتطرد الأكسجين
والإنسان عكس ذلك
وفي الغابات تأكل الحيواناتُ النباتات ثم تخرجها سمادًا لهذه النباتات
وفيها تفترس الوحوش ضعاف الحيوانات للحفاظ على السلالات القوية…
ثالثًا: قيام الدنيا والآخرة على العدل والقسط:
ففي الحديث الذي مر من قليل يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
“إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه” (مسلم)
قال ابن قتيبة:
“القسط الميزان، وسمي قسطًا لأن القسط العدل، وبالميزان يقع العدل“.
الشيخ محمد صالح المنجد