الإسلام الديمقراطي المدني .. الشركاء والمصادر والاستراتيجيات
منذ الحادي عشر من سبتمبر قام العديد من الكتاب والعلماء وصناع القرار والباحثين بتأمل دور الإسلام في المجتمعات المسلمة ؛ في الوقت الذي يتم فيه إعادة رسم الحدود الجيواستراتيجية والثقافية والاجتماعية في كل من واشنطن و لندن ، وهي استراتيجية يحاول الغرب من خلالها أن يسيطر على « الأصولية الإسلامية » بمساعدة المسلمين ( المعتدلين ) ، لقد ورد ذلك في تقرير تم تمويله بواسطة أحد المراكز الفكرية الأمريكية المحافظة .
إن هذا التقرير وهو بعنوان : الإسلام الديمقراطي المدني : الشركاء والمصادر والاستراتيجيات ، قد تم إعداده بواسطة « مؤسسة راند » ، ومقرها في الولايات المتحدة ، وبتمويل من مؤسسة ( سميث ريتشاردسون ) المحافظة ، وهي مؤسسة تمويلية تقدم ما يزيد على مائة مليون دولار للمنظمات البحثية والجامعات [1] .
ويعد هذا التقرير الأحدث في سلسلة من الأوراق السياسية المتخصصة التي تهدف إلى تشديد الهجمة العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية على العالم الإسلامي . وفي جلسة الإيجاز التي عقدت في صيف العام 2002م ، لمجلس كبار المستشارين في البنتاجون ، وصف ( لورينت موراويس ) المحلل السابق في « مؤسسة راند » ، المملكة العربية السعودية بأنها « نواة للشر ، والمحرك الرئيس ، وأشد الخصوم خطورة » على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط . وقال :
" إن على الولايات المتحدة أن تطلب من المملكة العربية السعودية أن تتوقف عن دعم الإرهاب ، أو أن تواجه بمصادرة حقولها النفطية وأرصدتها المالية في الولايات المتحدة . كما طالب ( موراويس ) بشن حملة إمبريالية من عدة مراحل على الشرق الأوسط ، ابتداءً بالعراق ( المحور التكتيكي ) ومروراً بالمملكة العربية السعودية ( المحور الاستراتيجي ) وأخيراً مصر ( الجائزة ) " [2] .
إن تقرير الإسلام الديمقراطي المدني قد كتبته ( شاريل بينارد ) وهي عالمة اجتماع قد نشرت روايات تتضمن موضوعات تطالب بمساواة المرأة بالرجل منها : « مقاومة المغول وشجاعة المحجبة » وتسخر فيها من المظاهر الدينية وتصور المرأة المسلمة بأنها مضطهدة وتعيش تحت وطأة حكم شيوخ مستبدين ومصابين بجنون العظمة .
وبالرغم من اعتراض الملايين من المسلمات على حظر الفرنسيين المثير للجدل للحجاب ، في المدارس الحكومية الفرنسية ، فقد ركزت ( بينارد ) في تعليق لها مؤخراً في صحيفة ( كريستيان ساينس مونيتور ) على أن القانون الجديد يعتبر دفعة إيجابية لحقوق المرأة : حيث إن الحجاب في العالم الإسلامي هو شيء ترتديه المرأة أو البنت ؛ لأنها مجبرة على ذلك وهو رمز للتقييد والإكراه بالتهديد .
وبالرغم من أن عالمة الاجتماع ( بيرنارد ) تعتبر نفسها مرجعاً في القوانين الإسلامية ، فهي تذكر من بين أشياء أخرى ادعاء صادراً من أحد الكتاب المصريين المغمورين الذي يقول إن الحجاب ليس إجبارياً في الإسلام ، بل إن ذلك ناتج عن قراءة خاطئة للقرآن [3] .
ومن الطريف أن « شاريل بينارد » متزوجة من « زلماي خليل زاده » ، الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش ، وكبير مستشاري الأمن القومي المسؤول عن الخليج العربي و جنوب شرق آسيا . ويعتبر خليل زاده - الأمريكي من أصل أفغاني - الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد ويعرف بآرائه المتطرفة [4] ، وقد تمكن خلال الثمانينيات من أن يؤمن لنفسه منصباً دائماً في مجلس تخطيط السياسة بوزارة الخارجية ، وقد عمل في هذا المنصب تحت إدارة « بول وولفويتز » العقل الموجه لفكر المحافظين الجدد .
ثم عمل مساعداً بوزارة الدفاع في إدارة بوش الأولى إبان حربها على العراق عام 1991م . وبعد الانتخابات الرئاسية عام 2000م اختاره ( ديك شيني ) نائب الرئيس ليرأس اللجنة الانتقالية لشؤون الدفاع .
ويعرف خليل زاده بكونه جزءاً من جهود الولايات المتحدة منذ مدة طويلة للحصول على مدخل إلى احتياطيات النفط والغاز في آسيا الوسطى ؛ حيث كان يعمل مستشاراً للطاقة لدى شركة شيفرون ، كما عمل مشرفاً لدى شركة النفط الأمريكية العملاقة ( ينوكول ) والتي كانت ترغب في بناء أنبوب للغاز يربط بين تركمانستان و باكستان عبر أفغانستان . كما أن خليل زاده يعرف عنه تودده للمجموعات المناوئة لصدام و حركة طالبان قبل الغزو الأمريكي وبعده لكلا البلدين .
لقد عبرت ( شاريل بينارد ) عن نواياها في تقرير الإسلام المدني الديمقراطي ؛ حيث إن الهدف هو بناء نموذج جديد من الخطاب الإسلامي غير الفعّال يكون مصَمّماً ليتماشى مع الأجندة الغربية لفترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر ، وبتركيزها على أكثر المصطلحات وضوحاً لم تدع الكاتبة مجالاً للشك فيما يخص الطموحات العظيمة في مشروعها . وتضيف قائلة : « إن تحويل ديانة عالَم بكامله ليس بالأمر السهل . إذا كانت عملية بناء أمة مهمة خطيرة ، فإن بناء الدين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها » [5] .
وتوضح ( بينارد ) بقولها : إن الأزمة الحالية للإسلام تتكون من مكونين رئيسين هما : « عدم قدرته على النمو ، وعدم الاتصال مع الاتجاه السائد في العالم » . ومن وجهة نظر الكاتبة فإن العالم الإسلامي هو سبب مشكلة الحضارة ، « لم يتمكن من مواكبة الثقافة العالمية المعاصرة » .
حيث إن الكاتبة تستخدم مرة أخرى ما ذكره أحد المستشرقين القدامى عن تصويره للمسلمين بصورة نمطية تقول مرة أخرى « إن المسلمين هم الوجه الآخر للبربريين وأن أسلوب حياتهم يتناقض مع أسلوب الحياة لدى الغرب . فإذا كان الغرب الحديث حركياً ، فإن العالم الإسلامي راكد لا يتحرك .
وبينما الغرب يحترم حياة الإنسان والحرية ، فإن الإسلام مصاب بداء الاستبداديين والإرهابيين و « حرب الأحاديث » [6] التي لا تنتهي ، وشباب متعصبين يلبسون المتفجرات ويقدسون الموت ويشجعون المفاهيم التدميرية ( النهلستية ) مثل الشهادة . ولم تأتِ الكاتبة إلى ذكر الدعم الغربي للأنظمة الاستبدادية العلمانية ولا إلى برامج إسرائيل التي لا تنتهي ضد الفلسطينيين ، ولا إلى التطهير العرقي الذي يمارس ضد المسلمين في أوروبا الشرقية و الشيشان ، وبالطبع إهمال القصف الأمريكي العنيف لأفغانستان والعراق .
ومن أجل إيجاد صلات وثيقة مع القوى المحبة للغرب ، يقترح التقرير تحديد أربعة اتجاهات فكرية في المجتمعات المسلمة للمناقشة في التحكم بقلوب المسلمين وعقولهم ، وهي :
1 - المتشددون الذين « يرفضون قيم الديمقراطية والحضارة الغربية المعاصرة » .
2 - التقليديون الذين « يشككون في الحداثة والابتكار والتغيير » .
3 - الحداثيون الذين « يريدون من العالم الإسلامي أن يكون جزءاً من التقدم الذي يسود العالم » .
4 - العلمانيون الذين « يريدون من العالم الإسلامي أن يتقبل فكرة فصل الدين عن الدولة » .
ويقول التقرير إن فئتي أنصار الحداثة والعلمانيين هما أقرب هذه الفئات للغرب ، ولكنهما بشكل عام في موقف أضعف من المجموعات الأخرى ؛ حيث ينقصهم المال والبنى التحتية والبرنامج السياسي . ويقترح التقرير استراتيجية لدعم أنصار الحداثة والعلمانيين ؛ وذلك عن طريق طباعة كتاباتهم مقابل تكاليف مدعومة ؛ وذلك لتشجيعهم للكتابة لمزيد من القراء وطرح وجهات نظرهم في مناهج المدارس الإسلامية ، ومساعدتهم في عالم الإعلام الجديد الذي يهيمن عليه المتشددون والتقليديون .
كما يقترح التقرير أيضاً أن يتم دعم التقليديين ضد المتشددين ؛ وذلك من خلال ممارسة الولايات المتحدة سياسة « تشجيع عدم الاتفاق » بين الطرفين . ومن الاستراتيجيات المقترحة أيضاً في هذا التقرير ، مواجهة ومعارضة المتشددين من خلال تحدي تفسيرهم للإسلام ، ومن خلال فضح ارتباطهم بمجموعات وأنشطة غير قانونية . وذهبت ( بينارد ) إلى أبعد من ذلك ؛ حيث دعت إلى تقوية الصوفية ؛ لأنها تمثل تفسيراً أكثر خمولاً واعتدالاً للإسلام .
إن ما يلفت الانتباه في أغلب محتويات التقرير هو عدم التعامل مع المسلمين كأناس عقلاء لهم مخاوفهم المشروعة ، بل يتم تقسيمهم إلى مجموعات للتحليل بناءً على انجذابهم نحو القيم والمفاهيم الغربية ؛ حيث يتم استخدام هذه المجموعات الفرعية كرهان من أجل تكريس هيمنة الولايات المتحدة وهي سياسة « فرق تسد » .
ويتم تصوير المسلمين على أنهم شعوب لا صلة لها بالحقيقة ، بل هم يعانون من الجمود الفكري ، ومنخرطون باستمرار في جدل روحي عفا عليه الزمن ؛ وذلك بدلاً من مواجهة المشاكل المعاصرة من تهميش واضطهاد تفرضه عليهم أنظمة مستبدة مدعومة من الغرب ، أو مصممة وفق المتطلبات الإمبريالية في أقاليمهم .
وبناء على اعتقاد الكاتبة ، فإن العنف والاحتجاج الإسلامي ليس ردة فعل على عدم العدالة ، بل هو تعبير عن حالة الأمية ، والغالبية غير المتعلمة التي تقودها فئة منظمة من المتشددين لديها إمكانيات مالية ضخمة ؛ حيث قيل لنا إن المتشددين هم الخطر الحقيقي ؛ لأنهم يمثلون النسخة العدوانية والتوسعية للإسلام الذي لا يهاب ممارسة العنف ، وأن وحدتهم المرجعية هي ليست الدولة أو المجموعة العرقية ، بل هو المجتمع المسلم ، أي الأمة ، وأن تمكُّنهم من السيطرة على عدد معين من الدول الإسلامية سيشكل خطوة في هذا الطريق ، ولكنه ليس الهدف الرئيس .
ومما يدعو إلى السخرية أن استخدام العنف للحصول على أهداف سياسية ولفرض السيطرة على عدد من الدول الإسلامية ، يدل على التشدد ؛ إذن فالسياسة الخارجية للولايات المتحدة في العالم الإسلامي هي تطرف جامح بامتياز .
ومن العجيب أن الكاتبة تعترف بأن الكثير من العلمانيين المهمين في العالم الإسلامي لا يحبون أو حتى أنهم يكرهون الولايات المتحدة ( الغرب ) أشد الكره . ومرة أخرى ، فإن السبب وراء هذا العداء ليس هو الوجه القبيح لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ، بل إن الأسباب هي أساليب تفكير ضالة تتجسد في الأفكار اليسارية ، والقومية الحاقدة والمعادية لأمريكا .
إن تلميحات ( بينارد ) واضحة : فعندما يكره المسلمون أو يلجؤون إلى العنف ؛ فهو لأنهم بطبيعتهم متطرفون أو ضالون ، ولكن عندما يأتي الغرب المتحضر والمستنير والكريم ، إلى ممارسة نفس الأساليب أو يناصر نفس الأهداف ، فإن سلوكه هذا إما أن يتم تجاهله ، أو المسارعة إلى تسويغه .
وفي النهاية ، فإن أفكار ( بينارد ) ليست سوى نظرية ميكيافيلية تسعى إلى فرض الهيمنة الغربية والثقافة الإمبيريالية من خلال السياسة القديمة « فرق تسد » . إن نموذج الإسلام الذي تناصره ( بينارد ) هو ذلك النموذج الخامل الضعيف الذي يمكن اختراقه بسهولة ومن ثم تشكيله لكي يتناسب مع أجندة الغرب .
إن النموذج الذي تعوِّل عليه ( بينارد ) هو تركيا ، والتي تعتبرها « واحدة من أنجح الدول الإسلامية » وذلك نسبة لسياستها العلمانية العدائية . لقد تم اختيار حكومتين إسلاميتين عبر الانتخابات في تركيا في السنوات الأخيرة ، حيث إن الأخيرة منهما رفضت السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية قبل الحرب على العراق .
إن الكاتبة لا تحاول فقط تشويه بعض المفاهيم الأساسية في الإسلام مثل الجهاد ، والشهادة ، والحجاب فحسب ، ولكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ؛ فهي تتساءل عن مدى صحة القرآن نفسه ، عندما تقول وبكل وقاحة « بأن اثنين على الأقل من سور الكتاب المقدس للمسلمين مفقودة » [**] . إن إطلاق مقولات شنيعة كهذه ضد القرآن دونما استشهاد أو دليل ، ليس بالشيء البغيض فحسب ، بل هو ممارسة لثقافة بائسة . وأعتقد لو أن عبارات كهذه قيلت في حق اليهود لقاموا بمقاضاتها بتهمة معاداة السامية .
إن مقترحات ( بينارد ) بالرغم من مسحتها الخبيثة المعادية للإسلام ، ومضامينها التي تدعو إلى الفرقة في العالم الإسلامي ، إلاّ أنها ليست بالشيء الجديد في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية .
قبل عقدين من الزمان عندما انبعث التشدد الشيعي في إيران ، اعتُبر أكبر تهديد للحضارة الغربية ، حيث إن المئات من المسلمين السنة التقليديين كان يتم تسليحهم بواسطة الولايات المتحدة ليجاهدوا ضد الاتحاد السوفييتي . فقد كان الافتراض السائد حينها أن الحركة الوهابية من الإسلام السني هي تيار محافظ بالفطرة ، ولذلك هو الحليف الطبيعي للولايات المتحدة ضد الشيوعيين والمتشددين الشيعة [7] ، أما اليوم ، فالصوفية ، وأنصار الحداثة ، و العلمانيون ، وبعض الشيعة ، يُنظر إليهم على أنهم القوة الموازنة للمتشددين السنة . وفعلاً نرى أن التاريخ يعيد نفسه بطرق ملتوية .
*
منقول
(*) باحث في العلاقات الدولية .
(1) بول رينولد (منع صراع الحضارات) قناة بي بي سي الإخبارية 29 مارس 2004م .
(2) جاك شافير ، (مركز القوة الذي هز البنتاجون) سليت MSN 7 أغسطس 2002م .
(3) شاريل بينارد ، (الحرب الفرنسية على الحجاب الإسلامي ، دفعة إيجابية نحو حقوق المرأة)
مؤسسة راند ، 5 يناير 2004م .
(4) (الخبير في الشؤون الإيرانية خليل زادة يتبنى سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأدنى) خبير
إيران ، 7 يناير 2002م .
(5) شاريل بينارد ، (الإسلام المدني الديمقراطي : الشركاء والمصادر والاستراتيجيات) مؤسسة راند .
(6) انظر الملحق : (حروب الحديث) حيث تشير الكاتبة إلى تحريف الحديث النبوي (كوسيلة تكتيكية)
من أجل كسب المناظرات ضد المتشددين .
(**) لعلَّ مقالتها هذه مقتبسة من مصادر الشيعة التي تقول بأن هناك سورة اسمها : (سورة الولاية)
قد انتزعت من القرآن الكريم ، وأن القرآن زيد فيه ونقص منه ، انظر : الخطوط العريضة ، محب
الدين الخطيب ، طبعة الدار السلفية ، مصر .
(7) توني كارين (الشيعة الذين تعتقد الولايات المتحدة أنها تعرفهم) موقع Time com 11 مارس
2004م .