الولاء و البراء عند سيد قطب الرد اربيع المدخلي
أساليب سيد قطب في كتاباته تغرس في نفوس من يقلدونه الحقد الشديد والكراهية والبغضاء للمجتمعات الإسلامية؛ لأنه يحكم عليها بأنها مجتمعات جاهلة لابد من مواجهتها بالجهاد لاستئناف حياة إسلامية وليدة جديدة، وإنشاء مجتمع إسلامي يبدأ من الصفر في هذه المجتمعات.
فإذا تحدث عن موقف الإسلام من أهل الذمة، بل وغيرهم؛ يتكلم بأسلوب ناعم رقيق رخي ودِّيٍّ، يزعم فيه أن الإسلام يشرع موادة الكفار الذين لا يحاربوننا من الذميين وغيرهم؛ يهوداً كانوا أو نصارى أو مجوساً أو شيوعيين؛ فكل من لم يحاربنا؛ فالإسلام يشرع موادتهم ومحبتهم ورحمتهم وحمايتهم وحماية عقائدهم ومعابدهم، والدفاع عنهم.
وبهذا يكون قد جنى على الإسلام جناية كبيرة، وسعى في تمييع وتضييع مبدأ الولاء والبراء، وقال على الله ما لم يقل، بل قال بضد ما قاله الله وقرره في محكم كتابه وبضد ما قاله رسول الله في سنته وما قرره علماء الإسلام.
وسيد قطب يجاري في هذا الذي ينسبه إلى الإسلام أفراخ الاستعمار من الكتاب والأحزاب الضالة التي ضيعت الإسلام، وهدمت مبدأ الولاء والبراء في نفوس المسلمين وبلاد الإسلام.
ومع تشدد سيد قطب وتكفيره للمجتمعات الإسلامية وتقرير معاداتهم وبغضهم ومفاصلتهم، ودعوة أتباعه إلى ما يسمى بالعزلة الشعورية؛ فإنه مع ذلك يدعو إلى موادة الكفار على مختلف مللهم إذا لم يحاربونا، وينسب ذلك إلى الإسلام، فيقول:
"والإسلام لا يكفل لأهل الذمة دماءهم فقط كما يقول الرسول : "من قتل معاهداً؛ لم يرح رائحة الجنة"، ولا أموالهم وحرياتهم فقط: "من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا حجيجه"، ثم يدعهم في عزلة اجتماعية، مكتفياً بحماية أرواحهم وأموالهم وحرياتهم…
كلا؛ إنما هو يفسح في رحابه وبين أهله أن يعيشوا مواطنين محترمين، تربط بينهم وبين المسلمين صلات المودة والتبادل الاجتماعي والمجاملات العامة، فلا يعزلهم في أحياء خاصة، ولا يكلفهم أعمالاً خاصة، ولا يمنعهم الاختلاط بالمسلمين، على نحو ما يمنع البيض والسود في أمريكا والملونون في جنوب إفريقيا.
إن الذميين في الإسلام يودُّون ويوادُّون، ويعيشون في جو اجتماعي طلق، يدعون إلى ولائم المسلمين، ويدعون المسلمين إلى ولائمهم، ويتم بينهم ذلك التواد الاجتماعي اللطيف… اليوم أحل لكم وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لهم( )"( ).
انظر كيف يلح سيد في حديثه عن الإسلام على قضية الموالاة بين المسلمين أولياء الله وبين أعدائه الذميين من أهل الكتاب وغيرهم، والله تبارك وتعالى قد حرم الموادة بين المؤمنين والكافرين في نصوص كثيرة قاطعة؛ مثل قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ… الآية( )؛ فأين يذهب سيد قطب عن هذا الأمر البدهي؟!
قال سيد قطب:
"على أن المهمة التي أناط الله بها الأمة المسلمة، ليست هي مجرد هداية الناس إلى الخير الذي جاء به الإسلام وحماية العقيدة الإسلامية وأصحابها، إنما هي أكبر من ذلك وأشمل… إنها كذلك حماية العبادة والاعتقاد للناس جميعاً، واستبعاد عنصر القوة المادية من ميدان الاعتقاد والعقيدة، وحماية الضعفاء من الناس من عسف الأقوياء، ودفع الظلم أياً كان موقعه وأياً كان الواقع عليه، وكفالة القسط والعدل للبشرية كافة، ومقاومة الشر والفساد في الأرض بحكم الوصاية الرشيدة التي ناطها الله بهذه الأمة؛ إذ يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( )، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( )"( ).
وقال أيضاً: "وتبعاً لهذه الفكرة [أي: عدم القهر بالمعجزات] لم يشأ من باب أولى أن يجعل القهر المادي وسيلة للإقناع، أو لحمل الناس على اعتناقه بالإكراه، ولم يضق ذرعاً باختلاف الناس في المنهج والعقيدة، بل اعتبر هذا ضرورة من ضرورات الفطرة، وغرضاً من أغراض الإرادة العليا في الحياة والناس: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ( )، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ( )"( ).
كيف يقول سيد: "ولم يضق ذرعاً (يعني: الإسلام) باختلاف الناس في المنهج والعقيدة، بل اعتبر هذا ضرورة من ضرورات الفطرة"؟!
نعوذ بالله من القول على الله بلا علم، بل القول بما يصادم كتاب الله وسنة رسوله .
قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ( ).
فلم يقبل الله من الناس جميعاً إلا الإسلام الحق الذي هو دينه في الرسالات كلها، ولم يجعل الله الاختلاف في الدين من ضرورات الفطرة، بل الله فطر الناس على الإسلام:
قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا( ).
وقال رسول الله : "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"( ).
ومن حديث عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك"( ).
وكم في القرآن العظيم من الآيات الكريمة التي تذم المشركين واليهود والنصارى والمنافقين.
وقد شرع الجهاد في القرآن والسنة لإدخال الناس جميعاً في دين الله، ولتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، وشرعت الجزية على أهل الكتاب بعد دعوتهم إلى الإسلام؛ لإذلالهم، حتى يعطوا الجزية على يد وهم صاغرون.
فأين ما يقرره سيد مما يقرره الله ورسوله؟!
إن سيداً لا يفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؛ لذلك تراه يحتج بالآيات التي تتحدث عن إرادة الله الكونية الشاملة لخلق الخير والشر والإيمان والكفر، فلا يخرج عنها شيء في هذا الكون، فهي تتحدث عما أراده الله قدراً ونفذه فعلاً وواقعاً، ولم يفهم الآيات الدالة على أمر الله الشرعي وإرادته الشرعية المرادفة لمحبته ورضاه، فلقد كلف الله عباده شرعاً أن يعبدوه ويطيعوه ويطيعوا رسله، وأمرهم جميعاً باتباع ما أوحاه وأنزله في كتبه.
قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ( ).
وقال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ( ).
وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا( )
وقال: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ).
وقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ( ).
إلى غير ذلك من الآيات التي تأمر الناس جميعاً بتوحيده وعبادته وطاعته، وتتوعد وتستنكر الكفر والضلال والمعصية، وتدل على أن الله يبغض ذلك ويمقته ويمقت أهله ويبغضه الرسل وأتباعهم المؤمنون ويبغضون أهله.
ويقول سيد قطب:
"ومع أن هذا النص [أي: قول الله في سورة الحج من آية 39 – 41] يكشف عن السبب المباشر في الإذن للمسلمين بالقتال؛ فإن بقيته تبين حكماً عاماً في مشروعية القتال، وغاية الله من نصر من ينصرهم فيه، وذلك هو ضمان حرية العقيدة عامة للمسلمين وغير المسلمين، وتحقيق الخير في الأرض والصلاح؛ فهو يقول: إنه لولا مقاومة بعض الناس وهم المؤمنون لبعض الناس وهم الظالمون؛ لهدمت صوامع وبيعٌ وصلوات ومساجد، والصوامع معابد الرهبان، والبيع كنائس النصارى، والصلوات كنائس اليهود، والمساجد مصليات المسلمين، وهو يقدم الصوامع والبيع والصلوات في النص على المساجد توكيداً لدفع العدوان عنها؛ فهي إذن دعوة إلى ضمان حرية العبادة( ) للجميع واحترام أماكن العبادة جميعاً، ثم وعد بالنصر الذي يؤدي إلى تمكين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر العابدين لله الباذلين أموالهم للعفاة…
فالإسلام لا يريد حرية العبادة لأتباعه وحدهم، إنما يقرر هذا الحق لأصحاب الديانات المخالفة، ويكلف المسلمين أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع، ويأذن لهم في القتال تحت هذه الراية، راية ضمان حرية العبادة لجميع المتدينين… وبذلك يحقق أنه نظام عالمي حر، يستطيع الجميع أن يعيشوا في ظله آمنين، متمتعين بحرياتهم الدينية، على قدم المساواة مع المسلمين، وبحماية المسلمين"( ).
أقول: إن الجهاد شرع لإعلاء كلمة الله، ولإظهار دين الله على الأديان، لا لحماية الكفر، ولا لحماية حرية العقائد الكافرة، ولا لحماية معابد الكفر قبل حماية المساجد!.
إن فيما يقوله سيد قطب تمييعاً للإسلام، وتشبيهاً له بمناهج اللادينيين من الديمقراطيين وغيرهم…
قاتل الله السياسات المائعة التي تميع الإسلام استرضاء وتملقاً لعواطف النصارى واليهود، وتودداً وتحبباً إليهم، بينما لا نرى في تعاملهم مع المسلمين إلا الجبروت والشدة والتكفير.
ويقول سيد:
"إن قوة الإسلام قوة محررة، تنطلق في الأرض لتدك قواعد الظلم والاسترقاق والاستغلال، وهي لا تنظر من هذا المجال لجنس ولا لون ولا لغة ولا لأرض، الناس سواء، كلهم ناس، أما فكرة القومية الضيقة التي اعتنقتها أوروبا، والتي انتقلت إلينا عدواها في حدودها الضيقة الهزيلة السخيفة؛ فلا يعترف بها الإسلام، لأنها تخالف نظريته الكلية عن وحدة البشرية.
حيثما كان ظلم؛ فالإسلام منتدب لرفعة ودفعه، وقع هذا الظلم على المسلمين أو على الذميين – أي: الذين أعطاهم الإسلام ذمته ليحميهم -، أو على سواهم ممن لا يربطهم بالمسلمين عهد ولا اتفاق"( ).
ويقول:
"فإذا استسلم من يطلب السلام؛ فهؤلاء هم الذميون؛ أي: الذين أعطاهم الإسلام ذمته وعهده لحمايتهم ورعايتهم، وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بنص الإسلام الصريح"( ).
ويقول:
"وعندما يؤدي الإسلام واجبه في هداية البشرية، وينهض بتكاليفه في دفع الظلم والفساد عنها؛ لا تبقى له سلطة تعسفية على فرد أو قوم، ولا تبقى في صدره إحنة على طبقة أو جنس، وهي روح له من إقرار السلام في الأرض، ومن تأليف الأجناس والألوان، ومن إشاعة السماحة والود والتراحم بين بني البشر"( ).
أقول: إن الإسلام برئ كل البراءة مما ينسبه سيد إلى الإسلام!
فلا والله؛ ما سوى الإسلام بين الذميين الكفار أعداء الله ورسوله والمؤمنين وبين أوليائه المؤمنين.
قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( ).
ولا كلفنا الإسلام بحماية كفار مجرمين ليس بيننا وبينهم عهد ولا اتفاق!!
أفنضحي بدماء المسلمين وأموالهم وقوتهم لحماية الشيوعيين؟!
لا والله؛ ما أمر الله ولا شرع محبة أعدائه ومودتهم!
قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( ).
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ( ).
ونقول فيهم كما قال نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا… إلى: وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا( ).
قال ابن القيم عن الخليفة الآمر بعد أن حكى استفحال أمر النصارى وطغيانهم:
"ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية، فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن يُنزلوا بها من الذلة والصغار، وأمر أن لا يُولوا شيئاً من أعمال الإسلام"( ).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله بعد كلام طويل فيه بيان تعامل الخلفاء عمر بن عبد العزيز والمنصور والمهدي والرشيد إلى الآمر مع أهل الذمة بما يستحقون من الإذلال، وساق آيات كثيرة في بيان غضب الله عليهم، وبيان خبثهم وحقدهم على المسلمين، وآيات في تحريم موالاتهم؛ قال رحمه الله:
"فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله تعالى الواجبة أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون، ومن الأحكام الدينية: أن تعم جميع الذمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها، وأن يتعمد في ذلك على سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها، وألا يسامح بها أحد منهم، ولو كان في قومه عظيماً، وألا يقبل إرساله بها، ولو كان فيهم زعيماً، وألا يحيل بها على أحد من المسلمين، ولا يوكل في إخراجها عنه أحداً من الموحدين، وأن تؤخذ منه على وجه الذلة والصغار؛ إعزازاً للإسلام وأهله، وإذلالاً لطائفة الكفار، وأن تستوفي من جميعهم حق الاستيفاء"( ).
إلزام الذميين بلبس الأغيار:
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله نقلاً من كلام الآمر بأمر الله:
"وقد رأى أمير المؤمنين لقيامه – بما استحفظ من أمور الديانة، وحفظ نظامها، ولانتصابه لمصالح أمة جعله الله رأسها وإمامها، ولرعاية مايتميز به المسلمون على من سواهم، ولجعل الكفار يعرفون بسيماهم – أن يعتمد كل من اليهود والنصارى مايصيرون به مستذلين ممتهنين؛ لأن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ( )، فلتستأد جزية رؤوسهم أجمع من غير استثناء من حزب المشركين لأحد، ولينبه في استخراجها والحوطة عليها إلى أبعد غاية وأمد، وليفرق بين المسلمين وبينهم في الحسبة والزي؛ ليتميز ذوو الهداية والرشد من ذوي الضلالة والبغي، وليوسموا بالغيار وشد الزنار، وإزالة ما على المسلمين من تشبههم بهم من العار، ثم أمر بأن يغيروا من أسمائهم وكناهم ما يختص به أولوا الإيمان، ثم هددهم بالنكال الشديد إن لم ينفذوا ذلك، ثم أمرهم بصبغ أبوابهم باللون الأغبر والرصاصي، ثم قال: ولا يمكنوا من ركوب شيء من أجناس الخيل والبغال، ولا سلوك مدافن المسلمين ومقابرهم في نهار ولا ليل، ولا يفسح لأحد منهم من المراكب المحلاة، وليمنعوا من تعلية دورهم على دور من جاورهم من المسلمين"( ).
وقال سيد قطب في تفسير قول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ… الآية( ):
"إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله؛ إخوة متعارفين متحابين، ليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه هذا؛ إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم؛ فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حال الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة؛ انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع، ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم"( ).
ويقول:
"وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع.
وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء، أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء، وفيما عدا هذا؛ فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين"( ).
ويقول:
"وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء؛ رخص الله لهم في مواده من لم يقاتلوهم في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم"( ).
نبذة عن الولاء والبراء في الإسلام:
تذكر ما قدمناه قبل قليل:
وقال الله تعالى: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ( ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية( ):
"نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك، فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ( )؛ أي: ومن يرتكب نهي الله في هذا؛ فقد برئ من الله؛ كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ… إلى أن قال: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ( ).
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا( ).
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ… الآية( ).
وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( )".
وقال أبوعبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية( ):
"قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء. ومثله: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ( ). ومعنى: فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ( )؛ أي: فليس من حزب الله، ولا من أوليائه في شيء".
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ( ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية( ):
"ينهى الله تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم؛ يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة؛ أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل"( ).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسير هذه الآية( ):
"أي: يا أيها المؤمنون، إن كنتم مؤمنين بربكم ومتبعين لرضاه ومجانبين لسخطه؛ لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ، وإنما غضب عليهم لكفرهم، وهذا شامل لجميع أصناف الكفار، وقد يئسوا من الآخرة؛ أي: قد حرموا من خير الآخرة، فليس لهم منها نصيب، فاحذروا أن تتولوهم فتوافقوهم على شرهم وشركهم، فتحرموا خير الآخرة كما حرموا".
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في هذه الآية أيضاً( ):
"هذا نهي من الله، وتحذير للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والله وليهم، ومن يفعل ذلك التولي؛ فليس من الله في شيء ؛ أي : فهو برئ من الله، والله بريء منه؛ كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ( )، وقوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة؛ أي: إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين؛ فلكم في هذا الحال الرخصة في المسالمة والمهادنة، لا في التولي الذي هو محبة القلب الذي تتبعه النصرة".
وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ( ).
قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية:
"أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة؛ إلا كان عاملاً على مقتضى إيمانه ولوازمه من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه، وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان؛ أي: رسمه وثبته وغرسه غرساً لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه ولا الشكوك…"( ).