"الفتوى"، مهما كانت منزلة مُخْرِجها، ودرجة أهليته؛ ولو كانت محل إجماع بين أهل الإفتاء، تظل رأياً لصاحبها، يصحُّ فيه قول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
و"الأجرأ على الإفتاء"، "أجرأ على النار"؛ فإذا أراد "المفتي" أن يقي نفسه عذاب النار فإنَّ عليه أن يزن كل كلمة يقولها في فتواه، وأن يجتهد في جعلها، على ما يُقدِّر في نهاية مطافه الطويل الشاق، مستوفيةً لشروط نيله الثواب، وإلاَّ وجب عليه أن يكون "مفتياً سلبياً"، أي أن يقول "لا أعلم"، فإنَّ "من قال لا أعلم فقد أفتى".
لا بدَّ من قول ذلك؛ لأنَّه استوقفني قول صالح القسنطيني سائلا نور الدين 17 في ضيف تحت المجهر:<يلاحظ عن أخي نور الدين قلة علمه بأمور العقيدة فما هو السبب؟؟>>..
الناس في المجتمع المسلم أخي صالح في ميل متزايدٍ إلى طلب الفتاوى؛ وهذا الميل هو جزء من ميلهم الأوسع إلى أن يزنوا كل تصرُّف "فردي أو جماعي" بميزان الحلال والحرام، فتلوين كل منحى من مناحي حياة الأفراد والجماعات بلون الدين الإسلامي، والذي هو شمولي الطبيعة، هو ما يستأثر باهتمام كثير من الناس، أو أكثريتهم.
ومن هذه "الحاجة السلوكيةـ الدينية" التي في اشتداد وتعاظم، يَنْفُذ إلى عقول الناس كثيرٌ من المُغْرضين في "فتاواهم"، والمتَّجرين بها، والذين، عن وعيٍ أو عن جهلٍ، يريدون لفتاواهم أن تكون مُسيِّراً لكثيرٍ من المسلمين "والشباب منهم على وجه الخصوص" بما تشتهي مصالح وأهداف قوى تلبس لبوس الدين توصُّلاً إلى سَتْر عدائها للشعوب الإسلامية، بمصالحها وحاجاتها الواقعية الحقيقية غير الوهمية.
في فتاواهم تَصْغُر العظائم، وتَعْظُم الصغائر، فالأمور والمسائل التي تضرب جذورها عميقاً في المصالح والحاجات العامة والأساسية للمسلمين، أفراداً وجماعات، لا مكان لها في فتاواهم على فيضها وكثرتها وتكاثرها؛ فلم نسمع قط أنَّ أهل الإفتاء قد توفَّروا على إخراج فتوى يؤكِّدون فيها للعامة من المسلمين أنَّ الديمقراطية ليست من الكفر في شيء، إنْ لم تكن من الإيمان، وكأنَّ لهم مصلحة تقضي بالتصالح مع ذوي المصلحة في إبقاء شعوبنا ومجتمعاتنا بمنأى عن الديمقراطية بخيرها وشرِّها.
إننا في "عصر السرعة"؛ ولكننا لم نرَ من أثرٍ لهذه السمة لعصرنا إلاَّ في "الوجبات السريعة"، وفي "الفتاوى السريعة"، التي يطهونها لنا شيوخ الافتاءفي دقائق معدودات، لعلَّ المتضورين جوعاً إلى الفتاوى من أبناء مجتمعنا "يهتدون"!
لا تستغربوا الأمر، فنحن أبناء مجتمع دمَّروا جهاز المناعة في رأسه وقلبه حتى أنَّ نانسي عجرم فازت بلقب "القوَّة المؤثِّرة الأكثر من سواها" في العالم العربي.
ما أعلمه علم اليقين أنَّ ما يتحدى المفتي على أن يفتي فيه، وتحتاج "الرعية" إلى سماع رأيه "أو رأي الشرع عَبْر رأيه" فيه، هو مسألتي "الرئيس الأبدي"، في دنينا، ولو تأبَّد حكمه بفضل "عهدة تِلْوَ العهدة"، لماذا لم يتجرأ المفتي على التكلُّم بالكلام غير المباح؟!
إنَّ خير خدمة يمكن أنْ يسدوها، الآن، إلى الدين ومجتمعاتهم هي أنْ يتوفَّروا على إصدار فتوى في شأن "الإصلاح الديمقراطي الشامل"، يقيمون فيها "الدليل الشرعي ""غير النصِّي""" على أنَّ الإسلام "يُحلِّل"، و"لا يُحرِّم"، الحقوق والحرِّيات الديمقراطية، الفردية والجماعية، وحقوق الإنسان، والحقوق والحرِّيات المدنية، ووجود "الآخر"، جسداً وفكراً، وقيام "الحكومة التمثيلية" و"المعارَضة" في كل أوجهها.