اكتملت آخر ليالي الشتاء ، و مع هذا الإكتمال انطوت آخر صفحة عبوس من صفحات هذا الفصل المطير ، و بدأ الدفء يدب في الأرجاء و بدأت الحركات الخافتة تنبعث من تحت الأرض ، و من داخل الشرنقات المتجمدة ، و من داخل المغارات المظلمة و المتوارية تحت طبقات التراب ، ها هو الربيع يندفع بقوة و حماس جنوني ليطيح بصمود الشتاء ، و ليبسط على الأرض سحره ، و ها هو الحبور ينفجر من براعم النباتات زهورا مختلفة الألوان، و ها هو السكون يبين عن فوضى كبيرة من الموسيقى و الزقزقات و التغاريد و الخرير ،إنها قوة الأرض الساكنة تنفجر بما يعدل ملايير القنابل النووية و لكن من أجل صقل وجه الأرض بالحياة لا لتدميره . اعتدت و أنا ابن الريف أن أرى أمام البيت بركة من الماء الراكد خلفتها مياه الشتاء ، و لطالما وطـأتها خطأ بقدمي خلال ظلمة الليل ، و طالما شربت منها الخراف و النعاج في عقب رجوعها من رحلة الرعي ، و طالما استحمت فيها الكلاب الشاردة و بعدها القطط الهزيلة ، اليوم نقص مستوى الماء من البركة ،و لم يتبق منه إلا قطرات قليلة تتفرق هنا و هناك ، و سيطر على أرجائها طبقة باهتة من الوحل و الطين ، فجأة لمحت طيرا أسمر يحوم في خفة حول البركة، يحط و يطير مسرعا حاملا في منقاره كومة من طين الأرض ، نعم يا صديقي إنه طائر السنونو ، ذو المنقار الأصفر و الصدر الأبيض المتوج بهالة بنية تشبه الحناء ، الطائر الرشيق ذو الأجنحة السمراء و الذيل القصير ..... تتبعته و هو يطير في السماء ثم يحط قريبا في بيت الجيران ، و لكنه قبل أن يحط حام طويلا و في اتجاهات كثيرة،و عبثا حاول أن يستقر و لكنه سرعان ما ارتفع من جديد و كأن شيئا يمنعه أو يخيفه . حط بعد عناء فوق أعلى السور و من هناك أنشج في تغريدة غامضة تشبه البكاء الحزين ، لم يتوقف عن تغريده الحزين لفترة طويلة و كانت كومة الطين لا تزال بمنقاره لا تفارقه ، بينما انظم إليه فوق السور سنونو آخر اتضح لي بعدها أنهما زوج يبحث عن مكان ملائم يصلح لبناء عش الزوجية و هناك دفعني العجب للتساؤل : ما سر هذا السنونو الحزين ؟ ما سر هذا الخطاف و ما يبكيه ؟ تقدمت بخطوات يدفعها الفضول إلى بهو الجيران و هناك ألقيت نظرة فرأيت على حائط البهو هالة بنية من الوحل، و على الأرض آثار لعش مهدوم ، فهمت من توي ما حدث فقد قام أصحاب البيت مستعينين بعصا طويلة بهدم العش الطيني و اسقاطه أرضا ، و هذا لطرده بعيدا عنهم .... صار فؤادي مكلوما من فرط وجدي على الخطاف الحزين و تساءلت من جديد : لماذا يهدم كثير من الناس أعشاش السنونو ؟ لماذا يزعجونها و هي الضعيفة الرشيقة ذات الوجود المهظوم ؟ ... هل يقبل أحد من الناس أن يهدم بيته ظلما ؟؟ .... في اليوم الموالي و قبل أن أجد لسؤالي جوابا لفت انتباهي أن زوج السنونو شرع في بناء عشه في بهو بيتنا ..... هناك احتوتني سعادة غامرة لا تصفها الشفاه فهممت بالكتابة .