وقف فؤاد أمام المرآة ينظر إلى وجهه ، و كان يبدو باسما و حائرا في آن واحد ، عيونه البنية القابعة تحت نظارات طبية ، و وجهه المستدير المكلل بلحية سوداء منتظمة ، و قوامه المائل إلى النحافة ، كل ذلك كان يشير إلى أنه بطل محظوظ بحق، القصة كلها ابتدأت بقطرة دم واحدة ، الدم الذي ينتشر في عروقنا ، فيمد بكل سخاء أجسامنا بالطاقة و الهواء و الغذاء ، هم بالخروج من البيت فألقى على نفسه نظرة أخيرة ، تفحص جيوبه و تأكد أنه يحمل معه بطاقة التبرع بالدم ، و خرج كعادته مسرعا قافزا من على السلالم ، في الشارع كانت الحركة متوترة ، و الطرقات مكتظة بالسيارات المستعجلة ، و على الأرصفة مشى الرجال و السيدات بملابسهم الشتوية الجميلة الباهرة ، رأى فؤاد شرطيا ينظم حركة المرور بصفارة ، و رأى أولادا يقطعون الطريق ، رأى متسولا ينام متكورا تحت شجرة من أشجار الزينة المغروسة على جانبي الطريق ، مر بقربه رجل يتكلم عبر الهاتف فسمعه يخوض في شجار مع صديقته التي رفضت القدوم لموعد مضروب ، وصل إلى مقر جمعية المتبرعين بالدم ، أقبل رئيس الجمعية يضمه بذراعين مفتوحين و هتف مسرورا :
- ها قد جئت أخيرا ..... و الله كنت سأكلمك .
فقال فؤاد و هو يخفي انزعاجه :
- تعرف أنني لا أخلف المواعيد .
فقال الأخر مذكرا :
- أعرفك جيدا يا فؤاد ، و لكن اعذرني فنحن في زمن تخلف فيه المواعيد على نية مبيتة .
فقال فؤاد :
- أنذهب للمستشفى ؟؟
و بسرعة قال الرئيس :
- على بركة الله فالمرأة تنتظر .
انطلقا في سيارة صغيرة إلى مشفى المدينة ، و كان الرئيس يحكي في مواضيع عديدة و لكن فؤاد بدا غير مستوعب لما يقوله صديقه ، غاص ذهنه في متاهات من التأمل ، و امتزجت عواطف الرقة و الرثاء و الأمل في قلبه و ساءل نفسه بصوت خفيض : هل نعمة أن يجري في عروقك دم نادر ؟؟
انتبه فجأة لصوت فرملة السيارة ، و سمع صديقه يطلب منه النزول ، دخلا بسرعة للمشفى ، و في قسم الولادة كانت المرأة لازالت تنزف ، و دمها من الفئة النادرة و المتبرعون قليل ..... و عندها خطر فؤاد كبارقة أمل تشق صخور اليأس ، علت أصوات قلقة داخل الصالة : لقد جاء المتبرع أخيرا ، الحمد لله .
كان كأنه كتلة من الحياة و الأمل تمشي على رجلين ، نظر إلى المرأة الممددة على سرير ذي لحافات بيضاء أحالها النزيف الدامي إلى حمراء كلون الحرية ، اقشعر بدنه ، لم يلحظ وصول الأطباء إلى الصالة ، لم يشعر بوخزة الإبرة في ذراعه ، لم يشعر بسريان دمه عبر الأنبوب البلاستيكي أبدا ، كان بداخله شعور واحد فقط هو ضرورة انقاذ المرأة ، و مساعدتها على الخوض في الحياة من جديد ، مساعدتها لا إرضاء لنفسه المتورمة من كثرة الضياع ، لا إرضاء لنفسه الراغبة في الزواج منذ أربع سنوات كاملة ، و لكنه نداء الواجب ، كان عليه أن يرضي ضميره بداخله ، كان عليه أن يجيب على السؤال الذي يحطم شموخ كبريائه في كل يوم : هل نعمة أن يجري في عروقك دم نادر ؟؟
كان عليه قبل كل شيئ أن يرضي ربه و يقوم بما هو صحيح .
مرت اللحظات بسرعة ،نجح الأطباء في وقف النزيف ، و وفر فؤاد للأطباء كمية كافية من الدم اللازم لعلاج المرأة ... مرت أخيرا تلك اللحظات العصيبة ، مرت بعد خوف و قلق على حياة المرأة ، و أي خوف و أي قلق ؟؟ إنهما من النوع الذي لا يرحم ، إنهما من النوع الذي يقتل باحترافيه كبيرة .
اجتمع أهل السيدة حول فؤاد ، و من القلوب شكروه ، حتى زوجها القاسي بكى و هو يشكر فؤاد ، لم يملك فؤاد حبس الدموع أيضا ، و راح الزوج يقول بامتنان :
- أخي فؤاد ، لقد أنقذت زوجتي ، و ساعدتنا في الخلاص من هذه النكبةالمريرة ، أطلب ما تشاء و كلي سمع و طاعة .
فقال الآخر بإيمان :
- لا تتعب نفسك يا أخي ، أنا لم أفعل شيئا خلا الواجب ..... و إن كان أحد يستحق الشكر فهو بارئ الدم .
تعجب الرجل و قال يائسا :
- إذن فأنت لا تريد شيئا مقابل صنيعك ؟؟
فأجابه فؤاد بما يقطع حيرته :
- لا شيئ البتة .
************************************************** **********************
و بعد عامين ، كان فؤاد يسير " ببرويطته " وسط المدينة متجها لشراء كيسين من الإسمنت ، لم يتزوج لحد الآن و لم ينتهي بعد من بناء غرفتين شرع في بنائهما منذ سنوات ، الأشغال تتقدم ببطء ، و الأسوار لم ترتفع إلا قليلا ، ينقصه الكثير بعد لينتهي من البناء ، و ليس انتهاء البناء بزوال لمشاكله ، فبعد ذلك سيصبح مطالبا بالزواج أكثر من أي وقت مضى، فحجته بعدم وجود المسكن ستصبح واهية حينها ،هذا كان تفكيره و هو يجر " البرويطة" ذات العجلة المهترئة .... فجأة تتوقف سيارة فخمة من أمامه ، و ينزل منها رجل عظيم الهيبة .... راح الرجل بود و امتنان يعانق فؤاد ، و يسأله عن حاله ، و عن صحته ، فؤاد المندهش لم يفهم شيئا و قال بحماقة :
- عذرا سيدي ... و لكنني لا أعرفك .
فقال الرجل :
- لا يهم فانا أعرفك ........ و لكن أنظر إلي جيدا .
نظر إليه في تمعن بعيون تكاد تنطبق ثم قال أسفا :
- لم أذكرك يا سيدي .
و قال الرجل بسرعة : أنا زوج السيدة التي كانت يوما ستموت ، و أنت الرجل الذي تبرع لها بدمه .
فرد الآخر في حينه :
- كيف حال زوجتك ؟؟ و حال ابنها ؟
- هي في صحة جيدة .... أما الصبي فقد تجاوز العامين من عمره .
- الحمد لله على سلامتهما .
تحدثا قليلا ثم قال الرجل :
- إلى أين يا فؤاد .
- ذاهب لشراء كيسين من الاسمنت .
- فهل تسمح لي بمساعدتك بأن أحملهما عنك في سيارتي ؟
- لا ...لا .... لا يصح ... سيارة مثل هذه لا يصح أن تحمل الاسمنت .
و بعد اصرار الرجل نزل فؤاد عند رغبته ، رميا " البرويطة" ، و حملا الاسمنت و انطلقا عبر الطريق المؤدية للبيت و خلال مسيرهما علم الرجل أن فؤاد مقبل على زواج ، و انه في حيرة من أمره .
و عند وصولهما ، قال فؤاد مازحا :
- هذا هو مشروعي الذي أعمل عليه منذ ستة سنوات ، مشروع لبيت يتكون من غرفتين .
ضحك الرجل و هتف متفائلا :
- مشروع جميل ، و لا ينقصه إلا بعض المساندة .
فطلب منه فؤاد توضيحا لمعنى المساندة ، و في الحين صاح الرجل بلهجة حازمة :
- مساندة صغيرة ، كأن أتكفل انا بشراء الاسمنت الذي تحتاجه ، و توفير الآجور و البلاط و الحديد و الرمل ، و أن أشتري لك تجهيزا للمطبخ و أثاثا لغرفة النوم ، ثم إن بناء مسكن من غرفتين لا يروق لي ، فما رأيك أن نجعله بيتا من ستة غرف بدور أو دورين ، و هكذا ستتمكن من العيش في فسحة من أمرك .... و لا تشغل بالك بمهر العروسة و لا بمصاريف العرس فهذا كله سيكون على حسابي الخاص .
تجمد فؤاد في مكانه من فرط الحيرة، و لكنه استجمع أنفاسه و قال معتذرا آخر الأمر :
- عرض كهذا لا يرفضه إلا مجنون ، و هذا المجنون يقف أمامك الآن يا سيدي .
ابتسم الرجل و أخرج من جيبه مصحفا صغيرا ، و راح يحلف بأغلض الأيمان حتى وافق فؤاد أخيرا على عرضه .
********************************************
بعد ستة أشهر وفى الرجل بوعوده ، و سرعان ما ارتفعت الأسوار ، و امتلأت الغرف بالأثاث و المعدات .... و أقيم لفؤاد عرس شهدت لضخامته السماء ، اختفى الرجل فجأة من حيث ظهر ، و لم يترك عنوانا و لا رقم هاتف لشكره ، في حين كان فؤاد في سعادة غامرة ........ وقف أمام المرآة ينظر لنفسه من جديد و كان السؤال القديم يتردد بداخل صدره كالمارد المكبل بالسلاسل: هل نعمة أن يجري في عروقك دم نادر ؟؟أخذ فؤاد نفسا عميقا و تنهد بقوة تركت على المرآة هالة من الضباب و قال مستيقنا :
- نعمة و رب الكعبة ...... و رب الكعبة إنها لنعمة .