رياح التحرّر العربي تعصف بقوس الأزمات
نصر شمالي
2011-05-20
أطلق الإستراتيجيون الأمريكيون على منطقة شرق السويس، أو شرق المتوسط ، اسم 'قوس الأزمات'، وقد قصدوا بهذه التسمية تحديداً قوس الهلال الخصيب، الذي اقتصر في الماضي على بلاد الشام والعراق. وبالطبع، فإن لهذا القوس امتداداته شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حيث مثل هذه المصطلحات نسبية وقياسية، وحيث لا يمكن رسم قوس محدّد بدقة، يتضمن لوناً واحداً، بشرياً أو جغرافياً، لأن جغرافية البلدان المعنية، وكذلك مصالحها الإنسانية المتداخلة المعقدة، يصعب حصرها ضمن خطوط وحدود ملموسة قاطعة، وبالتالي فإن الحدود السياسية لا تستطيع إعاقة تداخل هذه البلدان.
لقد غدا قوس الأزمات المذكور بؤرة الفعالية المركزية، في المنطقة الواقعة ما بين قزوين والأطلسي، بعد أن وضع الأمريكيون آسيا الصغرى ووادي النيل والمغرب العربي تحت عنوان ما يسمّونه 'الشرق الأوسط'، الذي قرّروا ابتلاعه بكامله، فما الذي نجده عندما نتأمل في بلدان هذا القوس وفي البلدان الشاسعة التي ألحقت به؟ إننا نجد شعوباً إسلامية عموماً، تجمعها ثقافة حضارية عريقة مشتركة، وتربط بينها عادات وتقاليد وذكريات عميقة مشتركة، وأيضاً معاناة معاصرة مشتركة، تقف وراءها قوة أجنبية أطلسية صهيونية مشتركة.
إن جميع الشعوب التي مركزها هذا القوس تتطلع الى الخلاص من النكبات التي تدمّر حياتها، والتي جلبتها لها تلك الجهة الأجنبية الأطلسية الواحدة. ولكن، إلى هذا الحدّ ثم يبدأ الافتراق، حيث حكومات هذه الشعوب المنكوبة، وعلى مدى القرن العشرين، لم تفعل ولم تسمح بفعل ما من شأنه بلورة تصور رسمي مشترك لسبل الخلاص، فتركت بلدانها متناقضة متعادية لأسباب تافهة، وجعلتها تفتقر الى الحدّ الأدنى من التماسك والتكتل والإدارة المشتركة بصورة رسمية. ولعلّ ذلك الأداء الرسمي لم يكن إهمالاً أو عجزاًَ فقط، بل كان متعمّداً في معظم الحالات، خاصة في العقود الأربعة الأخيرة.
لكن هذه الأزمات، التي طبعت بطابعها على مدى القرن العشرين هذه المنطقة التي سماها الأمريكيون 'قوس الأزمات'، ليست جميعها، وفي الأساسيات منها، مجرّد إفرازات محلية. صحيح أن الأطلسيين وجدوا دائماً مناخاً ملائماً وذرائع محلية مساعدة لسياساتهم العدوانية منذ اقتحموا هذه البلدان، لكنهم حرصوا منذ البداية، عن سابق تصميم وتصور، على رعاية السلبيات وتنمــــيتها وإشاعتـــها وإيصالها الى حالة الأزمات المفتوحة الغامضة المستعصية.
إن تعميق التناقضات والخلافات، وتوليد المزيد والمزيد منها، وتأجيج التناحر والصراعات داخل كل بلد ومع جيرانه، كان في صلب الاستراتيجيات الاستعمارية الأطلسية، باعتباره يتفق تماماً مع مصالحها وسياساتها الإجرامية، وقد نجحوا بالفعل في خلق حالات معقدة، غامضة، يصعب الخروج منها بخطوة واحدة وخـــلال فتــــرة زمنية محدّدة واحدة، سواء بين العرب أنفسهم أم بينهم وبين جيرانهم، وبعد أن استفحلت مثل هــــذه الأزمات المفتــــوحة الغــــامضة لم يعد ضرورياً بقاء جيوش الاحتلال، وصار ممكناً إدارة الأزمات من بعيد ، من عواصم المستعمرين، وإبقائها مفتوحة على اللانهاية اعتماداً على الإدارات المحلية التابعة.
حتى الأمس القريب بلغ المشهد الرسمي أقصى حالات القتامة والتعقيد، من حيث تخبط وتناقض الإدارات العربية وتعدّدها، ومن حيث تضارب مواقف الإدارات الإسلامية، ومن حيث احتمالات وقوع تقسيمات جديدة سوف تفرز بدورها إداراتها وتعقيداتها الجديدة، وكانت الأمثلة كثيرة، في باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وفي البلاد العربية عموماً.
في البلاد العربية أخذ النظام الرسمي على عاتقه، على الرغم من تناقضاته، مهمة خطّ الدفاع الأول عن المصالح الأمريكية/الأطلسية، يليه خطّ الدفاع الثاني الإسرائيلي عندما يقتضي الموقف تدخّله، ثمّ خطّ الدفاع الثالث الأمريكي/الأطلسي الذي رأيناه يأخذ على عاتقه مهمة احتلال العراق التي لا يمكن أن يقوم بها الخطّ الأول الرسمي العربي ولا الخطّ الثاني الإسرائيلي. وقد جرى العمل بهذا الترتيب منذ أواسط عقد السبعينيات الماضي، أي منذ انطلاقة ما يسمّى بالطفرة النفطية، أو الحقبة النفطية.
لقد تكفّل النظام الرسمي العربي بمهمة إدارة الأزمات ميدانياً بالنيابة، وهي الأزمات التي هدفت إلى إبقاء شعوب الأمة في حالة من الانهاك والضياع والغياب، والتي ينبغي أن تكون مفتوحة على اللانهاية، فلا تتوقف أبداً، وبالفعل فإنّ القادة العرب، الذين نالوا الموافقة والدعم الأمريكي/الأطلسي كي يبقوا وورثتهم في سدّة الحكم إلى الأبد، نجحوا إلى حدّ كبير جدّاً في القيام بأعباء مهمتهم الرهيبة، بحيث تحولت مصر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى بلد خال تقريباً من المواطنين وإن هو اكتظّ بالسكان!
كانت تلك عقوداً من الزمن عصيبة ورهيبة، بدأت منذ أعلن هنري كيسنجر، في أواسط السبعينيات وبداية الحقبة النفطية، أنّ ثلاث جهات لا يحقّ لها التدخل في شؤون المنطقة العربية، هي: الاتحاد السوفييتي، وأوروبا الغربية ومعها اليابان، والعرب، وكان المقصود بالعرب، هم الأمة وليس النظام الرسمي الذي كان لأعداء الأمة وليس لها، وضدّها لا معها، فهذا النظام أخذ على عاتقه الحيلولة دون تدخّل الأمة في شؤون نفسها. أمّا الاتحاد السوفييتي وأوروبا الغربية فكانت الحيلولة دون تدخلهم من اختصاص الولايات المتحدة والصهيونية العالمية.
غير أنّ الوضع بدأ بالانقلاب رأساً على عقب منذ انتكاسة الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق أمام بسالة وفعالية المقاومة العراقية، ثم انتكاسة العمليات العسكرية الإسرائيلية، بعمــــقها الأطلسي، ضــــدّ لبنان وضدّ قطاع غزّة، أمام بسالة وفعالية المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، الأمر الذي مهّد للانتفاضات الثورية التي تعيشها البلاد العربية اليوم، وليس من شكّ في أننا لو دققنا في الأسباب التي أطاحت بالرئيسين السابقين، التونسي والمصري، لوجدنا أنّ من أهمّ أسبابهما احتلال العراق والمقاومة، والحرب ضدّ لبنان وقطاع غزّة والمقاومة.
إنّ تواطؤ الرئيس المصري في إحكام الحصار ضدّ قطاع غزّة كان الأبرز، وإن لم يعلن ذلك، بين الأسباب التي جعلت الشعب المصري يخلعه.
لقد اختلف الوضع في قوس الأزمات اليوم إلى حدّ كبير، فرياح التحرّر العربي تعصف بخطوط الدفاع الثلاثة: خطّ الدفاع الرسمي العربي الذي تتهاوى أنظمته المستبدة التابعة، التي أريد لها أن تكون أبدية، وخطّ الدفاع الإسرائيلي الذي واجه قبل أيام، في ذكرى النكبة الفلسطينية، حدثاً لا سابق له، وسوف يتكرّر متصاعداً، باندفاع الشبان العرب العزّل لاختراق حدوده الحربية من جميع الجهات، وخطّ الدفاع الأمريكي الأطلسي، الذي ترتعد فرائص حماته بالوكالة وأصحابه بالأصالة، وهم يرون الانتفاضات الشعبية الثورية تتصاعد على تخوم حقول النفط، حيث غطاء الدولار النفطي البديل عن الذهب.
' كاتب سوري