التوحيد جوهر الإسلام و مظهره، و لُبابه و قشوره، و دعامة التعاليم التي جاء بها، بل هو رباط بنائه، و لون طلائه، و مقعد أصوله و فروعه...
و ليس الإسلام بدعاً في الدعوة إلى توحيد اللَّه.
فرسل اللَّه –قاطبة- بُعثوا بهذا الإيمان الخالص، و جمعوا الناس عليه، و حذَّروهم من كل شائبة تُعكِّر صفوه و تطفئ رونقه : ] وَ ماَ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَناَ فَاعْبُدُونِ [(1).
غير أن جماهير غفيرة من البشر أبت إلا أن تزيغ عن هذا الصراط، و أن تتشبث بأوهام سخيفة، باعدتها عن اللَّه، و أحلَّتها البوار.
فكان كل نبي سبق، يجيء بالحق، و يناشد الأمم أن تثوب إليه، حتى جاء خاتم المرسلين محمد بن عبد اللَّه r.
فصدَّع صرح الشرك، و خطَّ في شغاف القلوب عقيدة الإيمان باللَّه الواحد.
و كان القرآن الكريم -ولا يزال- النداء العالي لهذا اليقين الحق، و المجادل القوي عما يعرض له من شُبه أو يلتبس به من تخليط...
و من المؤسف، أنَّ المسلمين أصابهم مس من داء الأمم السابقة، فظلموا رسالتهم الجليلة بما شابوا به عقيدة التوحيد، و بما أقحموه عليها من بدع و خرافات.
و هي بدع و خرافات، تشبه ما انزلق إليه الأولون، أو هي ترديد لما كان من لغو... حذوك النعل بالنعل :
] كَذَلِك قَال الَّذينَ من قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياَتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [(2).
و الابتداع قد يأتي بالشيء و ضده معاً، ليُفسد العقيدة الوَسط.
فتسوية المخلوق بالخالق شِرك يُفسد عقيدة التوحيد، و كذلك إفناء الخَلق في الخالق، ضلال لا أصل له في هذه المِلَّة، و إن كان ظاهره أنه غلو في تقدير اللَّه، و إغراق في مبدأ التوحيد.
* * *
* وحدة الوجود :
كنا نظن أنَّ هذه الخرافة قد انتهت بانتهاء أصحاب الشطحات الذين اشتهروا في التصوف القديم.
إلا أنَّ نفراً من عُصاة المسلمين في عصرنا هذا عندما يتركون حياة المجون، و يرغبون في العودة إلى اللَّه و تصيبهم لوثات غريبة.
فيحسبون أنَّ من تمام توبتهم تغليب ذات اللَّه على كل ما يعرض لهم من أشخاص و أشياء.
فتراهم يخرجون من أنفسهم، و يسلخون العالَم من خصائصه العتيدة.
و قد تردد على ألسنتهم كلمة "الحلاج" عندما سُئِلَ: مَن في الجبة ؟ قال : اللَّه…
و لما كان من المتعذر بناء سلوك عملي على هذه الفكرة، فإن الجانحين إليها يكتفون بنوع من الجبر الذي يشل الإرادة، و التسليم لم تفد به الأحداث، ثم الحديث عن اللَّه الكامن في كل شيء حديث استكانة و ذوبان...
و قد أصيب جمهور المسلمين برشاش من هذه الخرافة، و أوقف نمو المنطق المادي في بلاد الإسلام، و خلط بالإلهيات أموراً كثيرة، لا تمت إليها بسبب.
إنَّ العالم شيء يغاير اللَّه –برغم ما يقوله فريق من المتصوفة- و للَّه عَزَّ و جَلَّ ذاته و أسماؤه، و حقوقه التي فُصِّلت تفصيلا في كتبه المنزَّلة.
و هناك فرق كبير، بين وحدة الوجود، و وحدة الشهود.
إنَّ المرء قد يستغرق في النظر إلى مسألة ما استغراقاً يُذهله عما حوله.
و ربما نودي –و هو غارق في بحار الفكر- فلا يسمع النداء.
فهل هذه الصورة من صور الانحصار الذاتي، تعني فناء ما حول الإنسان، لأن الإنسان غائب عنه بفكره ؟
و الشمس تطلع فتغمر بأشعتها الساطعة أرجاء الكون فلا يمكنك أن ترى في الأفق البعيد أو القريب نجماً، حتى إذا عاد اللَّيل و نشر ظلامه أخذت النجوم المختفية عن العين تلوح فرادى و جماعات..
هل غلبة أشعة الشمس عليها تعني لمن لا يراها أنها معدومة ؟
إنَّ من المؤمنين الأخيار مَن يعيشون في أنوار اللَّه معيشة رفيعة، رسخوا في مقام الإحسان حتى ألفوا أطواره الزاهية.
و مقام الإحسان –كم عرَّفه رسول اللَّه r : "أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(1).
و هذا الإلف يصح أن نُطلق على حقيقته وحدة الشهود.
و هي منحى يغاير تمام المغايرة، وحدة الوجود، و إن اختلط الأمران على القاصرين.
و أكثر الذين يعتنقون فكرة ما، أو تُسيِّرهم عاطفة خاصة، يقيسون ما يلقاهم من شئونها، ألا ترى الرجل الغزل يقول :
لا أرى الدنيـا على نور الضُّحى*بل أرى الدنيـا على نور العيـون
فليس بعجيب أن يوجد مؤمنون تستوي على مشاعرهم عاطفة دينية، تجعل نشاطهم كله محصوراً في مرضاة اللَّه، و تجعل نظرهم للأمور من هذه الزاوية الخاصة وحدها.
بل في هذا يُساق الحديث المشهور عن رسول اللَّه r، أن اللَّه قال : "مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. و ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، و ما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه.
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و يده التي يبطش بها، و رجله التي يمشي بها، و لئن سألني لأعطينَّه، و لئن استعاذني لأعيذنه".
فالحديث يشير إلى مرتبة التفاني في إرضاء اللَّه تفانياً يجعل حواس المرء و جوارحه مسخَّرة في طاعة اللَّه وحده.
و لا يعني -البتة- أنَّ إدمان العبادة ينتهي بحلول أو اتحاد كما يتصوره بعض السُّذَّج، أو ينتهي على القليل بطور خارق للنواميس المعتادة كما صوَّر ذلك المتصوفة في حديث مكذوب : "عبدي، أطعني أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون".
* * *
(1) الأنبياء : 25.
(2) البقرة : 118.
(1) رواه البخاري و مسلم