مطالعاتي الأدبية وقفت على صورة أدبية تكررت بشكل حرفي أثار حيرتي عند كل من الأديب الأمريكي " جون شطاين بك " في روايته الشهيرة " عناقيد الغضب " ، وعند الأديب السوري " زكريا تامر " في قصته " ثلج آخر الليل " من مجموعته " ربيع الرماد " .
الصورة تتعلق بوصف الهيئة التي كانت عليها اليدان عند أحد شخوص الرواية و القصة . فرحت كلما صادفت صورة قريبة لها وقفت عندها متأملا زاوية التناول .
نبدأ بصورة اليدين عند شخصية الأم في رواية" عناقيد الغضب " :
man baissa les yeux et regarda ses mains qui gisaient dans son giron comme deux amants epuises " P318 Stienbeck Les raisins de la colere
قرأت الرواية مترجمة من الإنجليزية إلى الفرنسية ، أي : " أطرقت أمي و نظرت إلى يديها الممددتين في حجرها كعاشقين منهكين " الصورة نفسها تتكرر في قصة " ثلج آخر الليل " حين يصف الكاتب جلسة العائلة مساء واجمة تحت صاعقة خبر هروب البنت من البيت ، يتعلق الوصف بوالد يوسف
: " ... بينما جلس والده صامتا ، ترن الكآبة على وجهه المتغضن ، ويلتمع في عينيه سخط خفي ، ويداه مرتميتان بوجوم على ركبتيه كصديقين متعبين عجوزين ..."إ
ن صورة اليدين عند شطاين بك و زكريا تامر طبق الأصل ، لكن أيهما الأصل و أيهما المستنسخ ؟ أم تراه توارد الخواطر ، أو كما تقول العرب قديما " وقد تقع الحافر على الحافر " في إشارة إلى إمكانية تتطابق الأفكار و الصور بين الأدباء من غير علم مسبق بينهما بموضوع كل منهما مشبهين العملية بفارس سلك طريقا ثم سلك فارس آخر نفس الطريق و بالصدفة وقع حافر الفارس الثاني في نفس موقع حافر الفارس الأول من غير قصد مادام الطريق أي السياق واحدا .
طبعا الصورة الأصل عند الروائي شطاين بك ، فالرواية كتبت عام 1940حين كان عمر القاص زكريا تامر تسع سنوات .
أنا أستبعد فرضية "وقوع الحافر على الحافر"هذه ، و أميل إلى تأثير المخزون القرائي في الكتابة ، فالأديب يمر في قراءاته بصور عديدة ، تعجبه بعضها و تترسب في أعماقه ، ثم يوظفها في نصوص لاحقة وفي غالب الأحيان بصورة آلية غير واعية .
في حين هذه الصورة " هيئة اليدين " عند أديب آخر تختلف تماما .
لنقرأ مثلا هذا المقطع لمحمود درويش من قصيدته الشهيرة " جندي يحلم بالزنابق البيضاء "
" ... كخيمة هوى على الحصى ومات
كانت ذرعاه
ممدودتين مثل جدولين يابسين"
صورة الذراعين كانت عميقة التعبير ، شبههما الشاعر بجدولين يابسين لأن الذي سقط تحت رصاص الجندي كان مزارعا بسيطا ، وما جدوى الزرع بلاجداول متدفقة ، أي : بلا سواعد تفلح الأرض ؟
في نص أدبي آخر نجد لليدين وصفا جميلا يذهب بهما بعيدا عن دلالات الصور السابقة .
لنقرأ هذا الوصف ليدي البطل في رواية أمين معلوف " موانئ الشرق " :
" استلطفت أيضا يديه اللتين تحومان بلا هوادة و تدوران دون انقطاع أو تتعانقان طويلتين و رقيقتين يخال النظر إليهما أنهما لم تمارسا عملا قط ، وأن صاحبهما لم يعرف بعد ما الجدوى منهما " اليدان هنا تحيلان
إلى معاني البطالة و الضياع و التشرد و الافتقاد إلى الدف ء ، انظر إلى حركات الفراغ و العناق فيهما ...
اليدان نفساهما للبطل نفسه في الرواية نفسها مع النهاية حين يلتقي " عصيان " زوجته بعد فراق سنين طويلة تتحولان إلى جناحي عصفور " ... وارتفعت ذراعاه أيضا ببطء كجناحي عصفور لم يحلق منذ فترة طويلة ..." والعصفور هنا هو البطل نفسه " عصيان " الذي حبس في المصحة النفسية زمنا طويلا .خلاصة القول إن تطابق صورة اليدين عند كل من شطاين بك و زكريا تامر أمر لفت انتباهي حد الدهشة ، فالأصل في التعبير الأدبي و الفني الاختلاف لا الاتفاق كما رأينا ذلك عند محمود درويش و أمين معلوف ، هذا الاختلاف هو الذي يصنع خصوصية الأديب و الفنان على خلاف الأمر في العلم ، ففي العلم القوانين كامنة في الطبيعة تنتظر من يكشف عنها ، فإذا لم يكشف عنها هذا العالم كشف عنها ذاك العالم ، أما في الأدب فلا يبدع الصورة إلا صاحبها ، ولو لم يكتب أبو العلاء " رسالة الغفران " لما كتبها أحد غيره .