التدوين الرسمي للحديث الشريف :
أول من خطرت له فكرةُ تدوينِ السنةِ الشريفة سيدنا عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - فقد روي البيهقي في المدخل عن عروة بن الزبير ،( وقد أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص49، وابن عبد البر في جامع بيان العلم: 1: 64). : " أن عمرَ بنَ الخطابِ أراد أن يكتب السنة ؛ فاستشار في ذلك أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأِشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفِقَ عمرُ يستخيرُ اللهَ فيها شهراً ؛ ثم أصبح يوماً وقد عزم على أن لا يكتبَها ،وقال لهم : إني كنتُ أردت أن أكتبَ السنن ، وإني ذكرتُ أقواماً قبلَكم كتبوا كتباً فأكَبُّوا عليها وتركوا كتابَ الله ، وإني والله لا ألبِسُ كتابَ اللهِ بشيءٍ أبداً ''. و هذا ما أكده العلماء في تفسيرهم و شرحهم للأحاديث التي سقتها في المشاركة الأولى بعنوان " مت بدأ تدوين الحديث الشريف؟ " .
وقد أبان عمر رضي الله عنه عن رأيه هذا أمام جمع كبير من الصحابة رضوان الله عليهم وأقروه، مما يدل على عدم حرمة كتابته و تدوينه ، و على استقرار أمر هذه العلة في نفوس الصحابة رضي الله عنهم .
ويؤكد هذا الإقرار النقول الكثيرة عن جماعة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم ، بل نقل ذلك الإمام ابن سيرين – رحمه الله- عن الصحابة عموما رضي الله عنهم ، وفسر هذا التراجع و الإعراض من عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - كراهية تقليدهم لبني إسرائيل، قال : "كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها". ( انظر الخطيب البغدادي في تقييد العلم ص43 و الصفحات 53-56. و ابن عبد البر في جامع بيان العلم: 1: 64-67.).
و أحسن من فسر موقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - الدكتور محمد الطرهوني - حفظه الله – في محاضرة له من الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه ، انقله لكم لوجاهته ، و لرصانته، قال:
'' فقد بيَّن [ يقصد موقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -] الوجهةَ التي من أجلِها لم يبدأْ في كتابة السنةِ كتابةً رسميَّةً وتدوينٍ رسميٍّ ، وأن ذلكَ كان منه خشيةً مما ذكرَ حيث كان الوضعُ العامُ للمسلمين يُؤَيِّدُ ما ذهبَ إليه ، فإن الناسَ كانوا يدخلونَ في دينِ اللهِ أفواجاً من أجناسٍ شتّى مختلفةٍ ، وكان الذي ينبغي أن يُوَجَّهوا إلى كتابِ اللهِ ويجتهدوا في حفظِهِ وتدُبِّرِهِ وأن لا ينشغِلِ المسلمونَ الجُدُدُ بغير ِذلك بصفةِ رسميَّةٍ ، وكان الوضعُ يشبه الوضعَ الأوَّلَ عندما منعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من الكتابةِ مطلَقاً .لذلك رأى عمرُ - رضي الله عنه - أن يمنعَ التدوينَ الرسميَّ في تلكَ الفترةِ حتى زالَ ما كان يحذَرُهُ - رضي الله عنه - وبدأ التدوينُ . أ,هـ
ثم قدم هذه الأدلة العلمية ، القيمة عن قلة التدوين ، وليس انعدامه – كما يدعي الخراطين و المرجفين – قال :
'' من المهم أن نركّزَ على العوامل التي أدت إلى قلة التدوين في الصدر الأول ، وهي عوامل كثيرة منها :
1ـ النهيُ عنه في بداية الأمرِ لئلاّ يُشتغلَ به عن القرآن أو يُخْلَطَ بالقرآنِ غيرُه .
2ـ ما كان يتمتَّع به العربُ في تلكَ الآوِنَةِ من سَعَةِ الحفظِ وسَيَلانِ الذِّهنِ ، فخشيةَ أن يُتَّكَلَ على الكتابةِ فيقلَّ الحفظُ بل ربما بطل كما هو الحالُ في زماننا ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله ، فإن الحفظَ أصبحَ ضعيفاً جداً لكثرةِ الاعتمادِ على الكتابةِ والأمور الحديثةِ من التقنيات مثل ما نحن فيه الآن من الكومبيوتر والآلات ونحو ذلك .
3ـ أن أكثرَ الناس في ذلك الوقت كانوا لا يعرفون الكتابة ، وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم ذهب إلى القولِ بأن الكتابةَ كانت تعتبرُ نادرةً .
4ـ قربُ العهدِ ، فإن الصدر الأول كان قريبَ العهدِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبالحديث ، كانت الاختلافات قليلةً ، فلم يكن هناك حاجةٌ ماسّةٌ لضبطِ النُّصوصِ خشيةَ الاختلاف أو النسيانِ .
5ـ تقاربُ الإسنادِ ، يعني : نحن الآن أو في مراحلِ الإسلامِ المتأخرة نوعاً ما ، نلاحظ أن هناك سلسلةً من الرجالِ تمثِّلُ إسنادَ الرِّوايةِ . فهذه السلسةُ قد يحصُلُ فيها وهمٌ ونسيانٌ وأخطاءٌ ، ولكن إذا قرُبَ الإسنادُ فإن ذلك يؤمَنُ فيه حصولُ الخطأُ والنسيانُ . ففي الصدر الأول لم يكن الإسنادُ طويلاً لدرجةِ حصولِ مثل هذه الأمور ، بل ربما كان الحديثُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة أو ربما كان عن صحابي عن آخر ونحو ذلك .
وكذلك لم يكن قد مات الرواة وصعُبَ التأكّدُ من روايتهم مباشرة ، وإنما كان يمكن للسامعِ أن يتأكّدَ من الرواة مباشرةً .
6ـ غلبةُ الصدقِ والأمانة ، فإن العربَ كانوا يحذرون الكذبَ حتى في الجاهلية ؛ فكان الرجلُ منهم يخشى أن تُحفَظَ عليه كذبة ، والأمانة كانت متوافرةً في الصَّدرِ الأول ، وتعلمون حديثَ أبي سفيانَ عندما ذهب إلى هرقلَ وهم أو فكَّرَ بأن يكذب على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمامَ هرقلَ ولكنه خشيَ أن تُحسَبَ عليه تلك الكذبة فيتحدثَ الناسُ بأنه كذب .
هذه هي أهَمٌّ العواملُ التي أدَّتْ إلى قلَّةِ التدوينِ ، ولكن لما بدأ الخوف على السُّنَّةِ من ظهور الأهواء ، فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة وتفرق أصحابهم وأتباعهم وقل الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث و أصبح أمرُ تدوينِ السنَّة من الضرورة بمكان و ذلك بتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وأجابوا في نظم قلائده أفكارهم وأنفقوا في تحصيله أعمارهم واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوفها فاتخذها العالمون قدوة ونصبها العارفون قبلة فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمته وأحبار ملته.'' أ.هـ.