[align=justify]ـ وجاء في "المغني" لابن قدامة الحنبلي1/ 373 :
مسألة : قال : (وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه) إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف , أحدهما أن يكون صفيقاً, لا يبدو منه شيء من القدم . الثاني أن يمكن متابعة المشي فيه . هذا ظاهر كلام الخرقي .
قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل : إذا كان يمشي عليهما , ويثبتان في رجليه , فلا بأس . وفي موضع قال : يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب . وفي موضع قال : إن كان يمشي فيه فلا ينثني , فلا بأس بالمسح عليه , فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء . ولا يعتبر أن يكونا مجلدين . انتهى
وجاء فيه أيضاً 1/374 فصلٌ : وقد سئل أحمد عن جورب الخِرَق , يُمْسَحُ عليه ؟ فكره الخرق . ولعل أحمد كرهها ; لأن الغالب عليها الخفة , وأنها لا تثبت بأنفسها . فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت , فلا فرق . وقد قال أحمد , في موضع : لا يجزئه المسح على الجورب حتى يكون جورباً صفيقاً , يقوم قائماً في رجله لا ينكسر مثل الخفين , إنما مَسَحَ القومُ على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف , يقوم مقام الخف في رِجل الرَّجل , يذهب فيه الرجل و يجيء .
وجاء فيه أيضاً 1/376 فصل : ولا يجوز المسح على اللفائف والخِرَق . نصَّ عليه أحمد . وقيل له : إن أهل الجبل يلُفُّون على أرجلهم لفائف إلى نصف الساق ؟ قال : لا يجزِئُه المسح على ذلك ، إلا أن يكون جورباً . وذلك أن اللفافة لا تثبت بنفسها ، إنما تثبت بشدّها، ولا نعلم في هذا خلافاً . انتهى
ـ فكما ترى ، المجوِّزون للمسح على الجوربين يتحدّثون عن جوارب مختلفة تماماً عن الجوارب التي يلبسها الناس في أيّامنا هذه ، فالجورب قديماً كان مما يذهب فيه الرجل ويجيء ، أي هو نوع من الأحذية يشبه الخفّ .
ـ وقد يستشهدُ بعضهم بحديث راشد بن سعد عن ثوبان في مسند الإمام أحمد قال : ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين)) ، ويقولون إن التساخين كل ما تسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما ([5]).
فأقول : إنَّ معظم الأئمة المحدِّثين قد ضعّفوا هذا الحديث ، وأوّلهم الإمام أحمد راوي الحديث ، فقد قال الخلاّل عن أحمد : ((لا ينبغي أن يكون راشد سمع من ثوبان)) ، وكذلك قال الحربي وأبو حاتم الرّازي , وقال الإمام ابن حجر العسقلاني عقب ذكر هذا الحديث :" ... أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم , وإسنادُه منقطع وضعّفه البيهقي , وقال البخاريُّ لا يصحّ , ولفظ أحمد ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم توضّأ ومسح على خفّيه وعلى الخمار والعمامة))". انتهى [اُنظر الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/72]
ومع ذلك فإنَّ العلماء يذكرون هذا الحديث في معرِض الاستدلال على جواز المسح على العمامة أو المسح على الخفّ , لأنَّ العصائب هي العمائم ، و التساخين هي الخفاف " كما نصَّ على ذلك كلٌ من :
· الإمام أبي عبيد في "غريب الحديث" 1/187
· الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/189، 2/352
· الإمام ابن حزم في "المُحلّى" 2/51 .
· الإمام ابن تيمية في الفتاوى 21/173 .
· ابن منظور في "اللسان" مادة (سخن ) .
بل إنّ الإمام ابن الأثير زاد فقال : قال حمزة الأصفهاني في كتاب "الموازنة" : التّسخان تعريب تَشْكَن ، وهو اسم غِطاءٍ من أغطية الرَّأس ، كان العلماء والقُضاةُ يأخُذُونه على رُؤُوسهم خاصّة دون غيرهم . قال : وجاء ذكر التّساخين في الحديث فقال مَنْ تعاطى تفْسيرَه : هو الخُفّ ، حيثُ لم يَعْرِف فارسيّته . انتهى
إذاً فمن الممكن أن يكون الحديث خاصّاً بالمسح على أغطية الرأس فقط مِنْ عمائم وغيرها ، أو يشمل الخفاف لأنّ التساخين عند أهل اللغة والغريب هي الخفاف ، ولكن يَبعُدُ جدّاً أن يشمل الجوربين .
ـ وأما استشهادهم بحديث المغيرة بن شعبة : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضّأ ومسح على الجوربين والنعلين))
فهذا هو سببُ الإشكال كلّه ، فإن بعض الذين جوّزوا المسح على الجوربين اعتمدوا على هذا الحديث ومِنْ ثَمَّ أطلقوا الجواز على جميع أنواع الجوارب ولم يتقيّدوا بالقياس على الخف . وهذا الحديث لم يصح وقد حَكَمَ بضعفه ونكارته كل من : الإمام أحمد بن حنبل ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن معين ، وسفيان الثوري ، وعلي ابن المديني ، والبخاري ، ومسلم ، وأبوداود ، والنسائي ، والدارقطني ، والبيهقي، والنووي ، وأظن أن ذكر هؤلاء يُغني عن ذكر آخرين هم دونهم في الرتبة .
وأحب أن أنبّه لأمرٍ وهو أن كل مَنْ روى الحديث إنّما يرويه عن سفيان الثوري وهو ، كما رأيت ، يحكم بضعف الحديث ، فقد ذكر البيهقي في سننه أنّ أبا محمد يحيى بن منصور قال رأيت مسلم بن الحجاج ( صاحب الصحيح ) ضعّف هذا الخبر وقال : أبو قيس الأودي وهذيل بن شرحبيل لا يحتملان وخصوصاً مع مخالفتهما الأجلَّة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا : مسح على الخفين ، وقال : لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهذيل ، قال: فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي فسمعته يقول سمعت علي بن محمد بن شيبان يقول سمعت أبا قدامة السرخسي يقول قال عبد الرحمن بن مهدي قلت لسفيان الثوري لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هذيل ما قبلته منك فقال سفيان: الحديث ضعيف ، ثم أسند البيهقي عن أحمد بن حنبل قال: ليس يُروى هذا الحديث إلا من رواية أبي قيس الأودي ، وأَبَى عبدُ الرحمن بن مهدي أن يُحدِّث بهذا الحديث وقال : هو منكر .
وأسند البيهقي أيضاً عن علي بن المديني قال : حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ورواه هذيل بن شرحبيل عن المغيرة إلا انه قال ومسح على الجوربين فخالف الناس ، وأسند أيضاً عن يحيى بن معين قال : الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس .
ـ ولكي أقرِّبَ لك الأمر أخي القارئ أقول : إن الذي دفع بعض العلماء لتصحيح حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الجوربين هو ظنهم أن المغيرة رضي الله عنه قد رافق النبَّي صلى الله عليه وسلم في أسفارٍ متعددة وشاهده في أحوال مختلفة ، ومِنْ ثَمَّ فهو يروي كل ما رآه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حال وضوئه، ولأجل ذلك تعدَّدت الرِّوايات عنه ، فمرَّةً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين ، ومرَّةً روى عنه أنّه مسح على العمامة ، ومرَّةً روى عنه أنّه مسح على الخمار، وفي أخرى أنه مسح على ناصيته وعمامته، ومرّة قال كان يغسل ثلاثاً ، فمن المقبول جداً أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين والنعلين ، وكل هذه الروايات إنما هي حكاية ما رآه المغيرة في وقائعَ مُتَعدِّدة . فلماذا إنكارُ روايةِ المسح على الجوربين من بين كلِّ تلك الرِّوايات ؟ والذي ساعدهم على هذا الفهم ـ في رأيي ـ أن ألفاظ الروايات عن المغيرة جاءت مختلفة ، فمرّة يقول في أحد أسفاره ، ومرّة يقول في غزوة تبوك ، وفي رواية يقول ثم صلى الصبح ، وفي أخرى يقول فأدركنا الناسَ يصلي بهم عبدُ الرحمن بن عوف ....وهكذا .
[/align]