كنت مستغرقا في قراءة تقرير معمق عن أوضاع مصر الاقتصادية كتبه جاك شانكر في صحيفةالجارديان البريطانية ونشرته صحيفة " الشروق " المصرية يوم السبت 14 نوفمبر حينما ترامت لسماعي حيث كنت في القاهرة أصوات صاخبة لصراخ وهتافات وأبواق سيارات وإطلاق ألعاب نارية تشير إلى أن الفريق المصري لكرة القدم الذي كان يلعب مع فريق الجزائرفي ذلك الوقت قد أحرز هدفا في مرمى الفريق الجزائري ضمن من خلاله مباراة أخرى فاصلةفي السودان ، وأذكر أني في ذلك اليوم الذي وصلت قبله بيوم واحد إلى القاهرة أنيحينما كنت أمارس رياضة المشي في الصباح الباكر حول إحدى حدائق القاهرة القليلة الباقية من زمن مصر الجميل رأيت من بعيد رجلا يبدو حسن الهندام يبحث في أحد صناديق الزبالة التي تتواجد حول الحديقة وهذا أمر أصبح مألوفا في القاهرة بشكل كبير أن تجد من يبحث عن شيء في صناديق الزبالة ولكن ليس حسن الهندام كما رأيت ، وحينما اقتربتكان الرجل يتلفت بحذر حوله وكأن الأمر جديد عليه أو يخشى أن يراه أحد يعرفه كانيفرغ الأكياس من محتوياتها بسرعة ويبحث عن أي شيء نافع له فيها يضعه في كيس كانيحمله ، ورغم أني أغض الطرف عادة إذا رأيت ما يسبب الحرج إلا أن حسن هندام الرجل معما يقوم به دفعني للفضول وأن أبطيء الخطى لأعرف ما الذي يبحث عنه الرجل في صندوق الزبالة ، عجبت لما رأيته يضع في كيس البلاستيك الذي كان يحمله زجاجات مياه شرببلاستيكية فارغة كما وجدته مشغولا بالبحث في علبة دواء فارغة ربما وجد بقايا دواء فيها حيث كان يقرأ ما عليها ولاحظت أنه كان يفتح أكياس الزبالة التي في الصندوق ويفرغها بسرعة ثم يمد يده بسرعة لشيء ما يفتحه وإما يضعه في كيس البلاستيك أو يلقيه مرة أخرى في الصندوق ، لاحظ الرجل أني أراقبه فبدا عليه الحرج وأعطاني ظهره بعدما نظر إلي نظرة ربما بها ألم أو حسرة أو لوم لكن المشهد برمته ألقى في نفسي ألماشديدا أن أصبح حسنوا الهندام يبحثون في أكياس الزبالة في مصر عن شيء ، أي شيءفأدركت أن الأمر قد وصل إلى درك خطير.
من جانب آخر فإني أذكر أني لم أفلحفي ذلك اليوم في قضاء كثير من المصالح التي سعيت لقضائها حيث كان الجميع في مصر مشغولا بمباراة كرة القدم بين مصر والجزائر ، والرياضة شيء محبب ومهم لدى الشعوبلكني شعرت أن الأمر قد تجاوز الرياضة ليصبح هو كل شيء في حياة المصريين ، فقد خرجالناس من كل هموهم أو هربوا منها بمفهوم أدق وسعوا للخروج من الإحباط الذي يعيشونفيه أو جعلتهم حكومتهم يعيشون فيه ليكون كل هدفهم أن تفوز مصر على الجزائر في مباراة كرة قدم حتى تسترد مصر عزتها وكرامتها وريادتها وسيادتها كما يتوهم هؤلاء ،كل هذا في بلد كما يقول جاك شانكر فيه يصل الحد الأدنى للراتب لنسبة عالية من الشعب أربعة جنيهات إسترلينية في الشهر بينما نسبة الفقر المدقع وصلت إلى 20% من السكان بينما 40% لا تزيد دخولهم عن دولار واحد شهريا هؤلاء جعلوا كل همهم أن يهزمواالجزائر في مباراة كرة قدم لا أن يهزموا الفقر الذي يزحف على من بقي من نسبة 90% منالشعب لا تستفيد الوفرة المالية التي تصب في جيوب 10% فقط من المحظوظين من أبناءالنظام وحوارييه ، وفي وقت لا يجد القطيع أنابيب الغاز المنزلي لا يحظى ملاك مصانع الحديد والسماد الذين ينتمون لنسبة الـــ 10% المحظوظة بأسعار مدعمة للغاز وحدهم بل إن الإسرائيليين الذين سفكوا دماء المصريين في أربعة حروب ومازالوا يسفكون دماءالجنود المصريين على الحدود من آن لآخر يحظون بأسعار مدعمة للغاز المصري لا يحصل عليها أي من أبناء القطيع الذي اختزل الانتماء للوطن والعطاء للوطن والجهاد من أجلبناء الوطن في مباراة كرة قدم ضد فريق بلد عربي ساهمت مصر بل قامت بالدور الرئيس فيتحريره واستقلاله قبل خمسين عاما.
لقد نجح النظام الذي أفقر الشعب وأمرضه ودمر الإنسانية والآدمية فيه أن يختزل المواطنة والانتماء وحب مصر لدى المصريين في رفع الأعلام والتعصب لمباراة كرة قدم ضد بلد وشعب شقيق واعتبر النصر فيها أكبر منالانتصار على إسرائيل وعلى الفقر والفساد والمرض الذي يفترس هذا القطيع ، وهذاالأمر بهذا الشكل وهذه الطريقة يمثل واحدة من أعلى درجات الإفساد للمجتمع وللانتماءوللمواطنة ، لأن ما يحدث ليس سوى عملية تفريغ لمصر من حاضرها ومن تاريخها ومنأزماتها التي سببها النظام الفاسد الذي يحكم ودليل على أن هذا أن الشعب يريد أنيهرب من أزماته التي ليس أولها أزمة تراكم الزبالة في شوارع العاصمة الكبرى ، أو أنصناديقها أصبحت مصدرا لطعام كثيرين أو تفشي الفساد والباحثين عن العمل وري المحاصيلالزراعية بمياه المجاري و اختلاط مياه المجاري بمياه الشرب وتفشي التيفود والأمراضالقاتلة بين أبنائه .
لقد شعرت بهم وحزن شديد على ما آل إليه مصير الشعب المصري وأنا أحد أبنائه ، حينما وجدت المصريين يهربون من هموم وطنهم بهذه الطريقة ،طريقة ثقافة القطيع ، وشعرت إلى أي مدى نجح الحكام الذين دمروا آدمية هذا الشعب علىمدى العقود الستة الماضية أن يحولوا المبدعين من أبناء هذا الشعب إما إلى مهاجرينيفيدون العالم بما لديهم من علم وإبداع ، وإما إلى محبطين في بلادهم يحاولون الحفاظعلى ما تبقى من خيرية الأمة وعلمها وثقافتها ، أما باقي الشعب فقد أصبح ملهاة وأداةللتسلية والفرجة ، لقد تحولت حقيقة المواطنة والانتماء من بذل وعرق وبناء للأوطانإلى ثقافة رفع الأعلام في الشوارع والهتاف لفريق كرة قدم ، بينما التخريب في كل مناحي الحياة في بلادهم يتم تحت أعينهم فيشاركون فيه أو يسكتون عن إيقاف المخربين .
أشعرني ما حدث في مصر في الرابع عشر من نوفمبر 2009 أن كل المصلحين الذين يريدون أن ينهضوا بهذا الشعب إنما يحرثون في البحر ، وأن هناك آمادا واسعة بين هذا الشعب وبين خروجه من هذا المستنقع الذي يعيش فيه 90% من أبنائه وفقا لما ذكره جاك شنكر نقلا عن تقرير حكومي رسمي مصري مهم لم يعرف هذا الشعب شيئا عنه أعدته هيئةالاستثمار التابعة للحكومة المصرية .
حتى لو فازت مصر في مباراتها مع الجزائر ، وشاركت في مباريات كأس العالم وماذا لو فاز الفريق المصري بكأس العالم في كرة القدم بينما 90% من الشعب المصري فقراء أو في طريقهم إلى الفقر والمرض حسبالتقارير الاقتصادية ومنها تقارير رسمية ، ما هو العائد على هذا القطيع الذي يأكلالفقر والمرض في جسده بينما يستنفذ كل طاقته ليس في القضاء على الفقر والمرض أو الذين سببوه وإنما في التصفيق والهتاف لفريق كرة قدم.
كانت أصوات أبواقالسيارات تتعالى في الشوارع المحيطة بمنزلي وكذلك أصوات الهتافات بينما كنت أعيدقراءة ماكتبه جاك شنكر عن هؤلاء السكارى ، وأنا أدرك حجم السعادة الغامرة التي عمتنفوس ناهبي هذا الشعب ومصاصي دمائه أن أوصلوه إلى هذا الحد من السفه والحيرة والتفاهة والضياع ثم استغرقت مثل كثير ممن يحبون مصر ويعرفون معنى الانتماءوالمواطنة إليها في هم عميق .