التوازن بين السلطات الدستورية الثلاث
(مركزية السلطة التنفيذية)
إعداد
أ.د/ صلاح الدين فوزي محمد
أستاذ ورئيس قسم القانون العام
كلية الحقوق – جامعة المنصورة
محامي بالنقض – محكم دولي
بحث مقدم لمؤتمر التعديلات الدستورية
في الدول العربية
جامعة الأغواط – الجزائر 5 ، 6 ، 7 – مايو - 2998
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة عامة
إذا كان أي مجتمع لا يخرج عن كونه مجموعة من العلاقات والروابط بين البشر ، وبين المؤسسات والأجهزة ، لكن ذلك كله مغلف ومحاط بالهياكل الإدارية والهياكل السياسية والأخلاق والقيم والثقافة والدين .
وإذا كانت فكرة الدولة بوضعها الراهن لم توجد في المجتمعات البدائية حيث سيطرة السلطة الأبوية وكانت هذه السلطة المركزية هي كل الدولة ، فإن الهياكل المؤسسية الحالية كانت البديل الذي قاد إلى إلغاء السلطة الأبوية لكن المدقق من خلف أسوار الهياكل المؤسسية أحياناً يعثر على السلطة الأبوية أو بالأقل على ظل لها مهدداً ذلك فكرة المؤسسات جاعلاً منها واجهه شكلية ليس إلا حيث يبرز على السطح مركزية التخطيط ومركزية التنفيذ أيضاً . لكن الهياكل السياسية والإدارية ليس لها أن تنمو وتعيش وأحياناً تتبدل بعيداً عن التقدم الذهني والثقافي فتحاول النخبة إعادة النظر في الهياكل واختصاصها كي تكون متماشية مع ما يحدث من تطورات .
فعلي سبيل المثال إذا كان التقدم التقني جاء على معبر الثورات الصناعية الثلاث
وهي :-
الأولي :- ثورة البخار والكهرباء .
الثانية :- هي الثورة الناجمة عن اكتشاف الذرة واستخدامها سواء في السلام أم في الحرب .
والثالثة :- هي ثورة الحاسبات الإلكترونية .
ومعني ذلك أن الإنسان تمكن من السيطرة على أجزاء كثيرة من المادة ، لكن هذه السيطرة المادية واكبها نوع من القلق البشري حيث طرح السؤال الآتي : لماذا رغم هذا التطور والتقدم التقني لم يسعد الإنسان ؟ هل مرجع ذلك الظلم البشري ، أم أن السبب راجع للظلم العائد إلى القوانين نفسها ، أم أن الأمر يرتد لوجود وسيادة قيم وثقافة الظلم ؟ وهل الحل يبدأ من إصلاح الهياكل المؤسسية ، أم من إعادة النظر في القوانين ؟ هل القانون والنظام والتوازن بين المؤسسات ترف لا طائل من ورائه لا تحتمله البلدان الفقيرة ، كما أن بلدان نصف الكرة الشمالي باتت هي أيضاً تشعر بالتضجر منه ، فوجب عليها تهميشه لأنه يشكل عقبة في طريق النمو ، أحياناً نمو ثروات النخبة أم هل النظم أصبحت فقط وسيلة
للاضطهاد ، أم أن القوانين لا تنطبق إلا على الضعفاء ؟
وعلى الرغم من كل هذه الأفكار فإن الحقيقة المؤكدة هي أنه الثورات الصناعية قادت لتحقيق النمو الاقتصادي العالمي وبالترتيب على ذلك ازدادت الرغبة في استمرار هذا النمو ، كما نتج عن ذلك وجود المطالبة بحسن وعدالة توزيع ثمار هذا النمو بين أبناء البلد الواحد ، بل وأيضاً بين أبناء الأجيال المتعاقبة تمسكاً بقواعد الأنصاف والعدالة .
لكننا نلحظ أن هذا النمو أدي إلى أن ينفصل الإنسان ولو جزئياً عن الطبيعة منجرفاً إلى العيش في الأجواء الاصطناعية بما في ذلك المأكل من ذات الطائفة كما أن الإنسان أضحي استهلاكياً ، بل أن مجتمعات بأسرها توصف ألان بذات الوصف .
وإذا كان الإنسان ابن البيئة التي تربي فيها ، فإنه يتأثر بالمحيط الاجتماعي حالة تغييره للبيئة الأصلية ، كما أنه يتأثر بالثقافة والتعلم .
وإذا كان البحث عن التوازن الطبيعي أمراً ملحاً فإن نقطة البدء تكون بحكم اللزوم المنطقي هي ضرورة التوازن بين سلطات الدولة التقليدية وذلك حتى يكون للقيم وجود وللأفكار المتميزة انطباق وللقواعد القانونية سطوة وإلزام واحترام .
لكن المؤكد هو أن السلطة التنفيذية احتلت موقعاً أكبر مقارنة بغيرها من السلطات بل ازدادت وتضخمت صلاحيتها واختصاصها لدرجة أنه يمكن وصفها بأنها متعددة الشخصيات والإدارة فهي تنفيذية تقليدياً لكنها أيضاً شريحة من المشرع ، وحيناً جزء من القضاء أي أن مركزية السلطة التنفيذية وتضخمها على حساب البرلمان أصبحت من المسلمات في عالم
اليوم .
وأكثر من ذلك أننا نلحظ في داخل السلطة التنفيذية ذاتها مركزية القرار ليس السياسي بل الإداري .
ولعل مرجع ذلك التراكيب التشريعية تارة والعرف الإداري حيناً ، والسلوك البشري أحياناً .
ولأهمية السلطة التنفيذية ليس فقط من منظور دورها الوظيفي التقليدي الذي يتبلور في إدارة شئون الدولة ومرافقها ، مع تطبيق وتنفيذ القوانين واللوائح بل أيضاً من منظور تضخم الدور الوظيفي لها في مواجهة باق سلطات الدولة فكان ذلك دافعاً لاختيارنا لهذا الموضوع والذي فيه سنلقي الضوء على واقع السلطة التنفيذية من خلال واقع تبيان وعرض لصلاحيتها الدستورية ولأننا وجدنا أن هذا التضخم المتزايد بعد ظاهرة عالمية فسنحاول في هذا البحث أن نشخص هذه الظاهرة من خلال تحليل لدساتير نظم مختلفة وتأسيساً على ذلك ستكون خطتنا غير تقليدية نسبياً سنلجأ فيها إلى استخدام المنهج التحليلي التأصيلي المقارن بالتتابع وذلك على النحو الآتي :-
- السلطة التنفيذية في النظام الدستوري المصري .
- السلطة التنفيذية في النظام الدستوري الفرنسي .
- السلطة التنفيذية في النظام الدستوري للجمهورية الإسلامية الإيرانية .
- السلطة التنفيذية في النظام الدستوري في الجمهورية الإسلامية الموريتانية .
كل ذلك في إطار محاولة تشخيصية لواقع السلطة التنفيذية التي أصبحت ذات أدوار متنوعة ومتعددة ، بل أن كل أو بالأقل جل التعديلات الدستورية المعاصرة أصبحت تبتغي هذه الغاية .
المبحث الأول
السلطة التنفيذية في
النظام الدستوري المصري
اختصاصات رئيس الجمهورية
سنعالج في هذا المقام اختصاصات وصلاحيات رئيس الجمهورية من خلال أربع محاور هي تباعاً اختصاصات إدارية ولائحته . اختصاصات تعد من قبيل أعمال السيادة – اختصاصات ذات طبيعة تشريعية – اختصاصات ذات طبيعة قضائية .
الاختصاصات الإدارية واللائحية لرئيس الجمهورية
يختص رئيس الجمهورية بتعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم كما يختص أيضاً بإعفائهم من مناصبهم ويكون تعين نواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم وإعفاؤهم من مناصبهم بقرار رئيس الجمهورية بعد أخذ رأي رئيس مجلس الوزراء . كما يعين رئيس الجمهورية الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين ويعزلهم على الوجه المبين بالقانون .
- أما في شأن اختصاص رئيس الجمهورية بإصدار اللوائح فقد ذهب الدستور إلى أنه يصدر العديد من اللوائح وذلك على النحو التالي :-
أ- اللوائح التنفيذية :-
وهي اللوائح الخاصة بتنفيذ القوانين ، أي تلك المتضمنة التفصيلات اللازمة لوضع القانون موضع التنفيذ ولقد نصت المادة رقم 144 من الدستور الدائم الصادر سنة 1971 على إن يصدر رئيس الجمهورية اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها وله أن يفوض غيره في إصدارها ويجوز أن يعين القانون من يصدر القرارات اللازمة لتنفيذه وطالما أن الأمر كذلك فإن الأصل الدستوري العام هو أن رئيس الجمهورية هو المختص بإصدار اللوائح التنفيذية كقاعدة وبالترتيب على هذا الأصل العام إذا لم يتضمن القانون النص على تحديد من يصدر اللائحة التنفيذية انعقد هذا الاختصاص إلى رئيس الجمهورية أي إن الدعوة من قبل القانون لإصدار اللائحة التنفيذية لا تثبت حقاً جديداً للسلطة التنفيذية طالما إن الاختصاص ثابت دستورياً للسلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية .
وأحياناً يحدد القانون تاريخاً معيناً يتعين خلاله إصدار اللائحة التنفيذية من ذلك على سبيل المثال إن المادة السابعة من القانون رقم 5 لسنة 1991 الخاص بالوظائف المدنية القيادية نصت على أنه " تصدر اللائحة التنفيذية لهذه القانون بقرار من مجلس الوزراء خلال ثلاثة أشهر من تاريخ نشره متضمنة قواعد الاختيار والأعداد والتأهيل والتقويم " وقد نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية في العدد رقم 10 بتاريخ 7/3/1991 ولكن اللائحة التنفيذية لم يقرها مجلس الوزراء إلا بقراره رقم 1596 لسنة 1991 بتاريخ 28/10/1991 قاضياً العمل بأحكام اللائحة التنفيذية . ولعله من الواضح أن مجلس الوزراء لم يلتزم بميعاد الثلاثة أشهر الذي حدده له القانون لكن لنا إن نسوق في مثل الحالة الملاحظات التالية :-
- أن اللائحة التنفيذية التي تصدر بعد التاريخ الذي حدده القانون تعد مشروعة طالما أنها قد صدرت عن السلطة المختصة .
- يجب ألا تتضمن اللائحة الصادرة بعد الميعاد الذي يحدد القانون أثراً رجعياً ينسحب إلى التاريخ الذي كان من المتعين صدورها فيه .
- أن التأخير في حد ذاته في إصدار اللائحة يشكل عدم مشروعيته مما يجعلنا أمام قرار سلبي يجوز الطعن فيه بالإلغاء فضلاً عن التعويض إن كان له مقتضاً لكنه في بعض الفروض لا يحدد المشرع أجلاً يتعين خلاله إصدار اللائحة التنفيذية في هذه الحالة إن الجهة المخولة إصدار هذه اللائحة تكون لها حرية اختيار وقت إصدار هذه اللائحة ذلك في إطار سلطتها التقديرية . ولكن ليس معنى ذلك إن لها سلطة مطلقة حيال هذا الأمر بل يتعين عليها إن تصدر هذه اللائحة خلال الفترة المعقولة delai Raisonnable وإن امتناعها عن إصدار اللائحة أو التأخير المبالغ فيه يشكل عدم مشروعية حقيقة بالإلغاء .
حول مدي اللوائح التنفيذية :-
إن الدستور قد ذهب صراحة إلى أنه ليس للوائح التنفيذية أن تعدل أو تعطل أو تعفي من تنفيذ نص قانوني وذلك تأسيساً على قاعدة التدرج حيث لا يجوز للائحة وهي أداة أدني من قانون إن تعدله أو تعطل تنفيذه ، وإلي هذا المعني ذهب مجلس الدولة المصري مؤكداً أنه " .. من المبادئ المقررة أن يشترط لصحة صدور اللوائح والقرارات التي تجئ منفذة للقانون إن لا تكون مخالفة للقواعد القانونية ، أو إن تضيف إليه جديد أو تعدل من أحكامه وإلا أصبحت معيبة ويكون لكل ذي شأن المطالبة بإلغائها . ومع ذلك فإننا نري أنه يمكن للائحة التنفيذية إن تضيف أحكاماً جديدة ، طالما كانت هذه الأحكام غير متعارضة مع أحكام
القانون ، وأيضاً طالما كانت هذه الأحكام تعد ضرورة لتطبيق القانون ، ولكن هذه النصوص المتضمنة لا حكاما إضافية تظل في مرتبة التدرج لائحية .
ب- اللوائح التنظيمية :-
أن اللوائح التنظيمية هي تلك اللوائح التي يكون الغرض منها تنظيم سير المرافق العامة وأيضاً إنشاء تلك المرافق وهذه اللوائح ورد النص عليها في المادة 146 من الدستور الدائم الصادر سنة 1971 " يصدر رئيس الجمهورية القرارات اللأزمة لإنشاء وتنظيم المرافق والمصالح العامة ، وهذه اللوائح مستقلة ، بمعني أن رئيس الجمهورية يصدرها دون الاستناد إلى تشريع سابق .
ج- لوائح الضبط :-
إن لوائح الضبط هت التي يقصد منها المحافظة على النظام العام – L,order-Public - وهذه اللوائح ورد النص عليها في المادة 145 من الدستور " .. يصدر رئيس الجمهورية لوائح الضبط " وهذه اللوائح يصدرها رئيس الجمهورية دون الاستناد إلى تشريع قائم أي أنها مستقلة .
ونشير في هذا المقام إلى إن الامتناع عن إصدار لوائح الضبط في حالة عدم وجود مبرر لذلك فإن يعتبر عدم شرعية مما يجيز الطعن بالإلغاء في هذا القرار السلبي بالامتناع .
د- لوائح الضرورة :-
وهذه اللوائح لها قوة القانون ونصت عليها المادة 147 من الدستور
بقولها : " إذا حدث في غيبة مجلس الشعب ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير جاز لرئيس الجمهورية إن يصدر في شأنها قرارات تكون لها قوة
القانون . ويجب عرض هذه القرارات على المجلس خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها إذا كان المجلس قائماً . وتعرض في أول اجتماع له في حالة الحل أو وقف جلساته فإذا لم تعرض زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون دون حاجة إلي إصدار قرار
بذلك ، وإذا عرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون ، إلا إذا رأي المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب على أثارها بوجه آخر " .
هذا ونري إن هذه اللوائح تظل كذلك " أي لوائح " إلى إن يقرها مجلس الشعب وبالترتيب على ذلك فإنه يمكن الطعن على هذه اللوائح بالإلغاء خلال الفترة من تاريخ صدورها وقبل إقرارها من قبل مجلس الشعب .
هـ - اللوائح التفويضية :-
وهي أيضاً قرارات لها قوة القانون ويصدرها رئيس الجمهورية تطبيقاً للمادة 108 من الدستور لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الأحوال الاستثنائية وبناء على تفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه إن يصدر قرارات لها قوة القانون ، وبحيث إن يكون التفويض لمدة محدودة ، وأن تبين فيه موضوعات هذه القرارات والأسس التي تقوم عليها ، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء مدة التفويض ، فإذا لم تعرض أو عرضت ولم يوافق مجلس الشعب عليها زال ما كان لها من قوة القانون " .
ونري أيضاً إن هذه اللوائح تعتبر من زاوية التكيف القانوني قرارات إدارية إلى حين موافقة مجلس الشعب عليها أخذاً بالمعيار الشكلي في تبيان طبيعة القرارات الإدارية .
اختصاص رئيس الجمهورية
التي تعد من قبيل أعمال السيادة
إن نظرية أعمال السيادة هي نظرية قضائية من صنع مجلس الدولة الفرنسي وعلتها إن هناك من الأعمال ذات الطبيعة والأهمية الخاصة والخطورة مما يستلزم معه عدم طرحها علي الهيئات القضائية ، وتأسيسا علي ذلك فأن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تتمتع بحصانة مطلقة حيث تستبعد من ولاية القضاء .
وهناك نص المادة 11 من قانون مجلس الدولة تنص علي انه " لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر إلى أي أعمال متعلقة بأعمال السيادة " .
وفضلا عن ذلك فأن المادة 17 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 تنص علي انه " ليس للمحاكم إن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أعمال السيادة " .
ولقد حاول مجلس الدولة إن يحدد ماهية أعمال السيادة حيث ذهب إلى إنه
" ... ومن حيث إن عبارة أعمال السيادة الواردة في المادة 6 لا تنصرف إلا إلى الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من السلطة العليا للمحافظة علي سيادة الدولة وكيانها في الداخل أو الخارج وذلك لأن النص ورد في صدر المادة علي الأعمال المنظمة لعلاقة الحكومة لمجلسي البرلمان والتدابير الخاصة بالأمن الداخلي والخارجي للدولة ، والأعمال الحربية والعلاقات السياسية ثم أردف كله بعبارة " وعلي العموم سائر الطلبات المتعلقة بعمل من أعمال السيادة " وهذه العبارة وردت علي سبيل التعميم بعد التخصيص ، الأمر الذي يقتضي منطقيا إن لا تفسر أعمال السيادة ألا قياسا علي طبيعة الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة .
كما ذهب المجلس أيضا إلى إن " قضاء هذه المحكمة قد جري علي إن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تصدر من الحكومة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة فتباشرها بمقتضى هذه السلطة العليا لتنظيم علاقاتها بالسلطات العامة الأخرى داخلية كانت أو
خارجية ، أو تتخذها اضطراراً للمحافظة على كيان الدولة في الداخل أو للزود عن سيادتها في الخارج ، ومن ثم يغلب فيها إن تكون تدابير تتخذ في النطاق الداخلي أو في النطاق الخارجي أما لتنظيم علاقات الحكومة بالسلطات العامة الداخلية أو الخارجية في حالة الهدوء والسلام ، وأما لدفع الأذى في الداخل والخارج في حالة الاضطراب والحرب ، فهي تارة تكون أعمال منظمة لعلاقة الحكومة بمجلسي البرلمان ، أو منظمة للعلاقات السياسية بالدول الأجنبية وهي طوراً تكون تدابير تتخذ للدفاع عن الأمن العام من اضطراب داخلي أو لتأمين سلامة الدولة من عدو خارجي ، وذلك كإعلان الأحكام العرفية أو إعلان الحرب أو المسائل الخاصة بالأعمال الحربية ، وهذه وتلك إنما هي أعمال وتدابير تصدر عن سلطان الحكم لا عن سلطان الإدارة ، والضابط فيها معيار موضوعي يرجع فيه إلى طبيعة الأعمال في ذاتها لا ما يحيط بها من ملابسات عارضة ... .
وذهبت أحكام أخرى إلى أن " أعمال السيادة .... لا تنصرف ألا إلى الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من سلطان الحكم .
ولقد تواترت أحكام القضاء على إن أعمال السيادة إنما هي تلك التي تصدر من السلطة التنفيذية بوصف كونها سلطة لا إدارة .
بل إن المحكمة الإدارية العليا لها سبق إن قررت إن " ... الأصل إن كل قرار إداري نهائي يصدر من السلطة التنفيذية يخضع لرقابة القضاء أعمالاً لمبدأ الشرعية وسيادة القانون . ألا أنه يستثني من هذا الأصل قرارات تتصل بسيادة الدولة الداخلية والخارجية لأنها لا تقبل بطبيعتها إن تكون محلاً لدعوى قضائية ومن ثم تخرج من ولاية القضاء . وتقوم نظرية أعمال السيادة على إن السلطة التنفيذية تتولى وظيفتين أحدهما سلطة حكم والأخرى بوصفها سلطة إدارة . وتعتبر الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية بوصفها سلطة حكم من قبيل أعمال السيادة والأعمال التي تقوم بوصفها سلطة إدارية أعمالاً إدارية .
هذا وقد ذهبت المحكمة الدستورية العليا ذات الاتجاه مؤكدة إن الرقابة القانونية على دستورية القوانين واللوائح تجد أساس لها – كأصل عام في مبدأ الشرعية وسيادة القانون الذي أرساه الدستور ، غير أنه يرد على هذا الأصل ما استقر عليه الفقه والقضاء من استبعاد أعمال السيادة من مجال الرقابة القضائية على أساس إن طبيعتها تأبي إن تكون محلاً لدعوى قضائية . واستبعادها من ولاية القضاء إنما يأتي تحقيقاً للاعتبارات السياسية التي تقتضي – بسبب طبيعة هذه الأعمال واتصالها بنظام الدولة السياسي اتصالاً وثيقاً أو بسيادتها في الداخل والخارج – النأي بها عن نطاق الرقابة القضائية وذلك لدواعي الحفاظ على كيان الدولة في الداخل والذود عن سيادتها في الخارج ورعاية مصالحها العليا .
ونظراً لأن العبرة في التكييف القانوني لما يعتبر من أعمال السيادة وما لا يعتبر منها إنما هو بطبيعة العمل ذاته لا بالأوصاف التي قد تخلع عليه متى كانت طبيعته تتنافى مع هذا الوصف ، وبالترتيب على ذلك سنحاول إن نجمع بعضاً من صور أعمال السيادة في الآتي :-
أولاً : الأعمال المتعلقة بالعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية :-
من بين هذه الأعمال قرار رئيس الجمهورية بدعوة المجلس التشريعي للانعقاد سواء للدورة العادية أو غير العادية ، وأيضاً قراره بفض هذه الدورة وتلك ، وقراره بإحالة مشروع قانون إلى المجلس النيابي وأيضاً قراره الخاص بسحب هذا المشروع وقرار رئيس الدولة بحل المجلس النيابي .
لكنه إذا كانت هذه الأمور متفق على إنها من أعمال السيادة فإن هناك من الأمور ما يعتبر موضعاً لخلاف كبير في خصوصية طبيعته القانونية من ذلك المادة 74 من دستور 1971 وأيضاً قرار دعوة الناخبين للانتخابات . لذا سنعرض كل من هاتين النقطتين بالتفصيل والإيضاح .
أ- المادة 74 من 1971 :-
تنص المادة 74 على أنه لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري إن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر بعد أخذ رأي مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشعب والشورى ، ويوجه بياناً إلى الشعب ويجري استفتاء على ما اتخذ من إجراءات خلال ستين يوماً من اتخاذها ، ولا يجوز حل مجلسي الشعب والشورى أثناء ممارسة هذه السلطات .
لكن السؤال هو ما هي الطبيعة القانونية للإجراءات المتخذة بالتطبيق للمادة 74 .
الطبيعة القانونية للإجراءات المتخذة بالتطبيق للمادة 74 :-
تعددت الآراء والاتجاهات الفقهية بالنسبة لتبيان طبيعة ما يتخذه رئيس الجمهورية من إجراءات تطبيقاً للمادة 74 فذهب جانب من الفقه إلى ما يتخذه رئيس الجمهورية من إجراءات يعتبر من أعمال السيادة وبالتالي لا يخضع للرقابة القضائية ولا لرقابة مجلس الشعب .
وذهب جانب آخر من الفقه قائلاً " إن هذه الإجراءات تخضع لرقابة المحكمة الدستورية العليا غير أنه نظراً للسلطة الواسعة المخولة لرئيس الجمهورية بنص المادة 74 ونظراً لأن الدستور الدائم في مجموع نصوصه أظهر حرصاً شديداً على احترام مبدأ سيادة القانون ولهذا فإننا نري أنه يجب إخضاع القرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية طبقاً لنص المادة 74 من الدستور لرقابة المحكمة الدستورية العليا " .
وذهب جانب ثالث من الفقه إلى أنه يتعين التفرقة بين القرار الذي يصدره رئيس الجمهورية بإعلان العمل بالمادة 74 وبين الإجراءات الأخرى المتخذة بالتطبيق لهذه المادة . فقرار العمل بالمادة 74 يدخل في صميم أعمال السيادة وبالتالي فلا يخضع لأي رقابة ، وأيضاً يخرج عن كل رقابة وفقاً لهذا الرأي ما قد يصدره رئيس الجمهورية من قرارات متضمنة إيقاف العمل مؤقتاً بالدستور أو بعض نصوصه .
أما ما دون ذلك من إجراءات فذهب هذا الرأي إلى أن قرارات رئيس الجمهورية التي هي من قبيل التشريع فيجوز إن يطعن فيها بعدم الدستورية إذا كان الدستور قائماً لم يوقف العمل به . أما قراراته التي هي في حكم اللوائح فيجوز الطعن فيها أمام القضاء الإداري .
ونحن نري إن الرقابة القضائية هي الضمانة الأكيدة لحريات الأفراد ، وبالتالي فأننا نري إن القرار المبدئ الذي يعلنه رئيس الجمهورية بأنه سيلجأ للمادة 74 يعتبر دون أدني شك من أعمال السيادة وبالتالي فينأى عن الرقابة القضائية أما ما يتخذه رئيس الجمهورية من قرارات بالتطبيق لهذه المادة فإنه يعتبر إجراءات إدارية يتعين أن تخضع للرقابة القضائية وسندنا في ذلك هو اعتمادنا على المعيار العضوي في تبيان طبيعة هذه الإجراءات فطالما إن مصدر هذه الإجراءات هو رئيس الجمهورية فلا يداخلنا شك في وجوب إخضاعها للرقابة القضائية .
وكنا قد المحنا إلى هذا الرأي في رسالتنا عن سلطة الضبط الإداري في الدول النامية – نحو نظرية لحالة الطوارئ في القانون المصري المقدمة من جامعة بنس بفرنسا سنة 1981 وأكدنا إن القرار بقانون رقم 154 لسنة 1981 أجاز الطعن في الإجراءات المتخذة بالتطبيق للمادة أمام " محكمة القيم " ولعل هذا الأمر يحمل اعترافاً بأن هذه الإجراءات لا تعتبر من أعمال السيادة .
" وتبني مجلس الدولة المصري هذا الرأي الذي نادينا به حيث أعلنته محكمة القضاء الإداري في حكمها الصادر في جلسة 29/6/1982 " ومن حيث إن المدعي عليها قد دفعت بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى تأسيساً على إن القرار المطعون فيه و يعتبر عملاً من أعمال السيادة اتخذ استناداً إلى نص المادة 74 من الدستور والتي تنص على إن لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري إن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ويوجه بياناً للشعب ويجري استفتاء على ما اتخذ من إجراءات خلال ستين يوماً من اتخاذها " .
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة قد استقر على إن المسلم به أنه لتحديد الطبيعة القانونية لما اتخذه رئيس الجمهورية من قرارات يتعين النظر إلى طبيعة العمل ذاته وبالتطبيق لذلك انتهت المحكمة إلى أن القرارات الصادرة بإلغاء ترخيص صحيفة والتحفظ على أموالها إنما يصدر عن السلطة التنفيذية في مجال تنفيذها للقوانين المنظمة لذلك وخاصة القانون 148 لسنة 1980 بشأن سلطة الصحافة ، وما يؤيد الطبيعة الإدارية للقرار المطعون فيه إن القانون رقم 95 لسنة 1980 معدلاً بالقانون رقم 154 لسنة 1981 قد أجاز لمن مسته الإجراءات التي نفذت تطبيقاً للمادة 74 من الدستور ومن بينها القرار المطعون فيه الحق في التظلم أمام محكمة القيم وهذا يتنافى مع اعتبار هذه الإجراءات من قبيل أعمال السيادة التي هي بحكم اللزوم بمنأى عن رقابة القضاء ، هذا ولا يغير من الطبيعة الإدارية للقرار المطعون فيه عرضه على الشعب وموافقته عليه و ذلك لأن دور الشعب في الاستفتاء على مثل هذا القرار وغيره من الإجراءات التي اتخذت لا يعدو إن يكون دوراً سياسياً ليس من شأنه التغيير من طبيعتها القانونية ومدي مشروعيتها فإذا كانت له الطبيعة اللائحية قبل الاستفتاء ظلت لها هذه الطبيعة بعده وإذا كانت قد صدرت غير مشروعة ظلت بعد الاستفتاء مشوبة بذات العيوب أما دور الشعب والذي يمارسه بالاستفتاء لا ينقلب لدور تشريعي يؤدي للتغيير من طبيعة هذه الأعمال .... ومن حيث المبدأ أنه أخذا بهذا التصور الذي استندت عليه هذه المحكمة يتضح إن دفع الحكومة بعد اختصاص المحكمة لا أساس له ويتعين رفضه .... " .
ثانياً : الأعمال المتعلقة بسلامة الدولة وأمنها :-
ومن بين هذه الأعمال المتفق عليها فقهاء وقضاء في مصر هو قرار إعلان حالة الطوارئ .
ثالثاً : بعض الأعمال الدبلوماسية :-
يعد من طائفة أعمال السيادة بعض الأعمال الدبلوماسية مثل القرارات الخاصة بقطع العلاقات الدبلوماسية وتلك المتعلقة بتقليص عدد أعضاء البعثة الدبلوماسية وقرارات
استدعاء السفراء .
رابعاً : أعمال الحرب :-
من بين أعمال السيادة أيضاً قرار إعلان الحرب ، وأيضاً قرار الهدنة ، وقرار قبول وقف إطلاق النيران والقرارات الخاصة بتحريك بعض القوات المسلحة التي إلى أماكن استراتيجية .
خامساً : قرار رئيس الجمهورية بالدعوة إلى إجراء الاستفتاءات الدستورية :-
أن قرار رئيس الجمهورية رقم 404 لسنة 1990 بشأن دعوة الناخبين إلى الاستفتاء على حل مجلس الشعب ، إنما يتعلق باستطلاع رأي هيئة الناخبين التي تمثل القاعدة الشعبية في أمر يتصل بأخص المسائل المتعلقة بعلاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية ، ويتصل بتكوين هذه السلطة وهو يعد بهذه المثابة من إبراز الأمور التي تتعلق بممارسة سلطة الحكم ومن ثم يعتبر من " الأعمال السياسية " التي تتحمل السلطة التنفيذية كامل المسئولية السياسية بصدد إجرائها بغير معقب من القضاء .... .
وإذا كانت أعمال السيادة تنأى عن الرقابة القضائية فإن العبرة في تحديد ماهيتها تكون باراز طبيعتها وذلك بصرف النظر عن الوصف الذي قد يخلع عليها هذا تحقيق المصلحة وبالتالي من الصعوبة إدخالها في التعداد الحصرى .