.د.مصلح بن عبد الحي النجار
مبدأ الذرائع، واعتباره أصلاً من أصول الفقه إنما أخذ به مالك في المشهور، وقاربه في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما .
وقد ادعى بعض الفقهاء أنه ليس في أصول أحد من الفقهاء سواهما، ولكن المالكيين يذكرون أن الفقهاء شاركوهم في كثير من مسالكه، وإن لم يسموها بذلك الاسم .
ولنبتدئ بسرد آراء الفقهاء في الذرائع، وهي على مذهبين :
أ- المذهب الأول : وهو المشهور عن الإمام مالك، وأحمد، حيث يعتبران مبدأ سد الذرائع أصلاً من أصول الفقه، ويكثران من العمل بمقتضاه .
يقول الشاطبي وهو يقرر أصل النظر في مآلات الأفعال: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ...وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها: قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه؛ لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة [1].
ويؤكد الإمام ابن القيم على أهمية قاعدة سد الذرائع؛ حيث يعتبرها أحد أرباع الدين؛ فيقول : وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان؛ أحدهما : مقصود لنفسه، والثاني : وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان؛ أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة ؛ فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين [2].
ب - المذهب الثاني : وهو المشهور عن أبي حنيفة والشافعي؛ فقد منعا الأخذ بقاعدة سد الذرائع . ومن الجدير بالذكر أن كتب أصول مذهبهما لم تذكر شيئاً عن رأيهما في هذا الموضوع، وذلك أن الباحث في هذه القضية يجد أن كتب أصول الحنفية والشافعية لا تتعرض للبحث في هذا الأصل، وإنما الذي تعرض له بالبحث والتفصيل، والاحتجاج لاعتباره مدركاً لبناء الأحكام كتب أصول المالكية والحنابلة . يقول الباجي: ذهب مالك رحمه الله إلى المنع من الذرائع ....وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز المنع من الذرائع [3].
ويؤيد ذلك ابن النجار حيث يقول : وتسد الذرائع وهي ما ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرم . ومعنى سدها : المنع من فعلها لتحريمه . وأباحه أبو حنيفة والشافعي [4].
ويستنكر ابنحزم الاجتهاد عن طريق الذرائع، لأن ذلك النوع باب من أبواب الرأي، وقد استنكر هو الرأي كله بشعبه .
ويشتد ابن حزم كعادته في القول والكتابة في نقد أصل [سد الذرائع]، حيث يقول في إحكامه : فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا* حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل ، وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنب للحق، نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا، مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض، لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئاً حلالاً خوف تذرع إلى حرام فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، وليقطع الاعناب خوف أن يعمل منها الخمر. وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها [5].
وبإمعان النظر في كلام ابن حزم السابق نجد مقدار تعصبه لمنهاجه وتشدده في رد كل باب من أبواب الاجتهاد بالرأي . وتغافل أن العبرة في إفضاء الأمر إلى تحريم هو غلبة الظن، وكونه يؤدي إلى ذلك غالباً، وفي القليل لا يؤدي، وعلى ذلك لا يصح أن يقال إنه بمقتضى هذا الفرض يجب أن يخصى الرجال لكيلا يزنوا، ويقتل الناس لكيلا يفسدوا، وتمنع غروس العنب حتى لا تتخذ خمراً إلى آخره، فإن ذلك لا يتأتى، ولا يقاس على سد الذرائع، إذ أنه ليس الغالب على الناس الزنى، وليس الغالب في العنب أن يتخذ للخمر، إلخ. ثم إنه فوق ما تقدم نهى الله سبحانه وتعالى عن المثلة، وحث على التناسل، وحمى النفوس من أن تقتل، والأموال من أن تنتهك، فلا يصح أن يقال تخصى الرجال وتقلع الأعناب ...إلخ، لأنها موضع نهي بالنص، فلا يصح أن يباح ما حرم لذاته، بدعوى أنه ذريعة لما حرم الله ، فإنها محرمات لذاتها ، فلا يصح أن تكون مباحة ، لإفضائها إلى محرم غيرها، فإن المحرم لذاته يرجح جانبه عما يفضي إليه فلا يعتدى على إنسان، لأنه يخشى أن يعتدى على غيره، ولا يصح إيقاع ظلم مؤكد لخشية وقوع ظلم متوقع[6].
إن العلماء الذين قرروا سد الذرائع، وإيجاب الذرائع نظروا إلى الأمور التي تقصد قصداً لارتكاب المحرم. كمن يتخذ البيع سبيلاً للربا، وكمن يتخذ الزواج المؤقت سبيلاً لتحليلها لمطلقها ثلاثاً، وكمن يهب أمواله في مرض الموت ليمنع ميراث الورثة من حقهم المشروع* الذي تصدى لبيانه كتاب الله تعالى، فمن قصد إلى هذه الأمور ليهدم ما قرره الشارع، ويخالف المقررات الشرعية، ويستبيح المحرمات* فقصده مردود عليه، ولذلك قالوا إن هذه الذرائع تكون حراماً، والتصرفات التي تنعقد بقصدها تكون باطلة، والغرض من الذرائع سداً وإيجاباً هو حماية ما أمر به الشارع أو نهى عنه، لا التزيد على الشارع [7].