بدأت الخطوة الأولى لهذه الإستراتجية الجديدة في رسم معالم الكبرى لسياسة الجزائر بعد الإستقلال ، فكان مؤتمر إيفيان ( 1960 – 1962 ) الّذي يُعتبر منعطفا خطيرا للثورة الجزائرية حتّى عدّها أحمد بن بلّة رئيس الجزائري الأسبق أنّ هذا المؤتمر كان إنقلابا على مبادئ الثورة ، و من شاهدي على هذا المؤتمر : الخبيث رضا مالك الّذي لا يزال حيّا ، و تولّى رئاسة حكومة الجزائر في مرحلة من مراحلها .
خرجت فرنسا من الجزائر مضطرّة بعدما قامت بأمرين :
الأمر الأوّل : إختراق بعض عناصرها الموالين لها من أصحاب الجنسية الجزائرية و الولاء الفرنسي أو حتّى من الجنسية الفرنسية النظام الجزائري بعد الإستقلال .
و أضرب أمثلة واقعية على هذا :
\ عمّال فرنسا من أصحاب الجنسية الجزائرية :
- الجنرال خالد نزار ، قائد الأركان سابقا ثمّ وزيرا للدفاع ثمّ أحد الخمسة الّذين سيّروا الجزائر قبل و أثناء رئاسة محمد بوضياف ، و وزيرا للدفاع أثناء رئاسة الجنرال زروال : إلتحق بالجيش الفرنسي في عام 1955 مع العلم أنّ الثورة الجزائرية ضدّ فرنسا إنطلقت في عام 1954 ، وهو من منطقة الأوراس المنطقة الّتي كانت تشهد معارك عنيفة ضدّ فرنسا ، فرغم أنه يشاهد مجاهدين وشهداء يسقطون على أيدي الجيش الفرنسي , أبى إلاّ أن يلتحق بجيش العدوّ وهو قال بهذا وكتب نقلا عن أبيه الذي كان بدوره ضابط صف في جيش فرنسا, بأنه قال له لا أريد أن أراك في صف المجاهدين, وأتمنى رؤيتك تلتحق بجيش فرنسا وكذلك فعل.
- الجنرال محمد العماري قائد الأركان السابق بعد نزار ، هو نفسه إعترف في حوار أجراه مع الأسبوعية الفرنسية (لوبوان) انه شارك في معركة فرنسا ضد الجزائر و كان في الصف الفرنسي عام 1957 ، و لم يلتحق بجيش التحرير سوى سنة 1961.
- الجنرال محمد تواتي تولّى حقيبة وزير الداخلية في فترة من فترات الحكم في الجزائر و كان من الرجال النافذين داخل السلطة ، إلتحق بجيش التحرير في عام 1961, و كان قبلها في الجيش الفرنسي حارب في صفه ضدّ الجزائر .
و مثلهم الجنرال العربي بالخير سفير الجزائر لدى المغرب حاليا و وزيرا للداخلية في فترة من فترات الحكم .
و علي تونسي أمين العام للشرطة حاليا ، و لد سنة 1934 بمنطه ماتز ( metz ) الفرنسية ، والده إسمه " الطيّب " ضابط في صفوف الجيش الفرنسي إلى أن تقاعد ، جنسيته مزدوجة جزائرية فرنسية ، في سنة 1983 إكتشفت الإدارة أنّه كان عميلا في صفوف الجيش الفرنسي أيّام الثورة فأقالوه من منصبه ، ثمّ وُجّهت له تهمة إختلاس أموال الدولة سنة 1994 ، في حوالي سنة 1995 تولّى منصب في إدارة العامة للأمن الوطني و هو الآن أمينا عاما للأمن الوطني .
بعد خروج المستخرب من الجزائر ، أهمّ ما قامت به السلطة الجزائرية بدفع من الشيوعيين و الّذين كانوا ينتمون إلى المدرسة الفرنسية :
أوّلا : مضايقة العلماء ، فمات جلّ الأخيار من العلماء الربّانيين تحت الإقامة الجبرية ، و على رأسهم الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، و فضيلة الشيخ مصباح حويذق .. و غيرهم الكثير رحمهم الله تعالى .
الثاني : إبقاء على نمط التسيير لمختلف المنشآت الحكومية كما كانت في وقت الإستخراب ، فصار إستقلال الجزائر هو مجرّد خروج عساكر فرنسا من الجزائر ، أمّا الإدارة و القضاء و المدرسة ، بل و حتّى المساجد فكلّ ذلك بقي على نمط حكم فرنسا لها قبل خروجها .
في هذا الشكل الظاهري للدولة ، كان داخل السلطة قطبان يتصارعان على قوّة النفوذ ، قطب ينتمي إلى الكتلة الوطنية ، و قطب ينتمي إلى التكتل الفرنسي أي حزب فرنسا ، فصارت الجزائر بعد فترة من حكمها يحكمها نظامان متصارعان ، فهي أشبه بدولتين داخل دولة واحدة ، إلاّ أنّ التيار التابع لفرنسا تمكّن بمرور الوقت من النفوذ أكثر ، و من السيطرة أكثر ، و ذلك لأمور :
الأمر الأول : أنّ التيار الوطني لا يحمل إستراتجية للحكم
الأمر الثاني :بمرور الزمن يرحل قادة هذا التيار الوطني .
وعلى الجزائر السلام ..