الشاعر محمود درويش
نبذة
بداية حياته :
محمود درويش الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء وثلاث بنات ، ولد عام 1942 في قرية البروة ( قرية فلسطينية مدمرة ، يقوم مكانها اليوم قرية احيهود ، تقع 12.5 كم شرق ساحل سهل عكا) ، وفي عام 1948 لجأ إلى لبنان وهو في السابعة من عمره وبقي هناك عام واحد ، عاد بعدها متسللا إلى فلسطين وبقي في قرية دير الأسد (شمال بلدة مجد كروم في الجليل) لفترة قصيرة استقر بعدها في قرية الجديدة (شمال غرب قريته الأم -البروة-).
تعليمه :
أكمل تعليمه الابتدائي بعد عودته من لبنان في مدرسة دير الأسد متخفيا ، فقد كان تخشى أن يتعرض للنفي من جديد إذا كشف أمر تسلله ، وعاش تلك الفترة محروما من الجنسية ، أما تعليمه الثانوي فتلقاه في قرية كفر ياسيف (2 كم شمالي الجديدة).
حياته :
انضم محمود درويش إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل ، وبعد إنهائه تعليمه الثانوي ، كانت حياته عبارة عن كتابة للشعر والمقالات في الجرائد مثل "الاتحاد" والمجلات مثل "الجديد" التي أصبح فيما بعد مشرفا على تحريرها ، وكلاهما تابعتان للحزب الشيوعي ، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر .
لم يسلم من مضايقات الاحتلال ، حيث اعتقل أكثر من مرّة منذ العام 1961 بتهم تتعلق بأقواله ونشاطاته السياسية ، حتى عام 1972 حيث نزح إلى مصر وانتقل بعدها إلى لبنان حيث عمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وقد استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجا على اتفاق أوسلو.
شغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وحرر في مجلة الكرمل ، وأقام في باريس قبل عودته إلى وطنه حيث انه دخل إلى إسرائيل بتصريح لزيارة أمه ، وفي فترة وجوده هناك قدم بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي العرب واليهود اقتراحا بالسماح له بالبقاء في وطنه ، وقد سمح له بذلك.
وحصل محمود درويش على عدد من الجوائز منها:
جائزة لوتس عام 1969.
جائزة البحر المتوسط عام 1980.
درع الثورة الفلسطينية عام 1981.
لوحة أوروبا للشعر عام 1981.
جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفيتي عام 1982.
جائزة لينين في الاتحاد السوفييتي عام 1983.
يُعد محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية، ومر شعره بعدة مراحل .
مختارات من قصائد و دواوين محمود درويش :
عصافير بلا أجنحة (شعر).
أوراق الزيتون (شعر).
عاشق من فلسطين (شعر).
آخر الليل (شعر).
مطر ناعم في خريف بعيد (شعر).
يوميات الحزن العادي (خواطر وقصص).
يوميات جرح فلسطيني (شعر).
حبيبتي تنهض من نومها (شعر).
محاولة رقم 7 (شعر).
احبك أو لا احبك (شعر).
مديح الظل العالي (شعر).
هي أغنية ... هي أغنية (شعر).
لا تعتذر عما فعلت (شعر).
عرائس.
العصافير تموت في الجليل.
تلك صوتها وهذا انتحار العاشق.
حصار لمدائح البحر (شعر).
شيء عن الوطن (شعر).
ذاكرة للنسيان .
وداعا أيها الحرب وداعا أيها السلم (مقالات).
كزهر اللوز أو أبعد .
لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً
وقفة مع محمود درويش في جداريته
د. عادل الأسطة *
توقفت في مقالة إشكالية القراءة.. إشكالية النص: قراءة في سطر شعري لمحمود درويش. (1) أمام دال النبي في شعر الشاعر، وقد لاحظت أن هذا الدال ذو مدلول متغير، يعود تغيره إلى تغير مواقف الشاعر من ناحية، وتغير استخدام الدال نفسه من جماعة إلى جماعة ومن عصر إلى عصر، وآثرت إلى أن درويش نفسه اعتبر الأنبياء جميعهم أهله، ولكنه أحياناً تحدث عن أنبياء يدّعون الكذب، وهذا الحب للأنبياء والتقدير لهم، وهذا التحذير من الأنبياء أيضاً يرد في العهد القديم، فمقابل أنبياء الله الصالحين هناك تحذير من أنبياء كذبة سيأتون ليضلوا كثيراً، وفي ثقافتنا الإسلامية يُعز الرسول ويجبل، كما يعز أنبياء الله الصالحين ويجبلون، ولكننا في الوقت نفسه عرفنا مدّعي النبوة مثل مسيلمة الكذاب وآخرين، حاولوا تأليف نص أشبه، من وجهة نظرهم، بالنص القرآني.
وقد أتيت في مقالتي "وظيفة الشعر والشاعر"(2) على موقف محمود درويش من دور الشاعر ومكانته والتطور الذي طرأ على هذه خلال الأربعين عاماً الماضية، ومع ذلك، تجدني وأنا أتناول جدارية.(3) لم آت على هذا الجانب بالتفصيل، فالإشارة إلى الأنبياء أو التلميح إلى بعض سلوكهم وأدوارهم تبدو واضحة في النص وضوحاً لافتاً للنظر حيث تغري المرء بمواصلة الكتابة عن هذا الجانب، سوف أقف، ابتداءً أمام المواطن التي أشير فيها إلى النبي والأنبياء وأحصيها، لأتناول بعضها بالشرح والتفسير.
ترد مفردة نبي ورسالة وأنبياء ومسيح في الفقرات التالية:
1- سأصير يوماً كرمة،
فليعصرني الصيف منذ الآن،
وليشرب نبيذي العابرون على
ثريان المكان السكري!
أنا الرسالة والرسول
أنا العناوين الصغيرة والبريد (ص14)
2- غنيت كي أزن المدى المهدور
في وجع الحمامة،
لا لأشرح ما يقول الله للإنسان،
لست أنا النبي لأدّعي وحياً
وأعلن أن هاويتي صعود (ص 22)
3- كنا طيبين وزاهدين بلا تعاليم المسيح (ص 39)
4- كنا طبيعيين لو كانت نجوم سمائنا أعلى قليلاً
من حجارة بئرنا، والأنبياء أقل إلحاحاً، فلم يسمع مدائحنا الجنود (ص 40)
5- خضراء، أرض قصيدتي خضراء
ولي منها التشابه في كلام الأنبياء (ص 41)
6- لم نأت ساعتنا. فلا رسل يقيسون
الزمان بقبضة العشب الأخير. هل استدار؟ ولا ملائكة يزورون
المكان ليترك الشعراء ما فيهم على الشفق الجميل (ص 46)
7- باطل، باطل الأباطيل… باطل كل شيء على البسيطة زائل مثلما سار المسيح على البحيرة سرت في رؤياي، لكني نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلوّ، ولا أبشر بالقيام (ص92-100)
وترد الإشارة إلى أنبياء، بذكر الاسم أو بالإشارة إلى أحداث أو عبارات دالة في مواطن كثيرة هي:
1- ص 17، الربط بين كلام الشاعر وكلام الله (أرض قصيدتي.. كلام الله عند الفجر).
2- ص 25، استثارة النص لنا قراءتنا عن جبريل والرسول : (أنا من تقول له الحروف الغامضات: اكتب تكن، واقرأ تجد).
3- ص 43، التلميح إلى المسيح (كأنما الشاعر المسيح)، "علي أن ألج الغياب، وأن أصدق أولا قلبي وأتبعه إلى قاتل الجليل".
4- ص 48، الإشارة إلى سيدنا نوح وقصته الطوفان: (فلي عمل على ظهر السفينة. لا/ لأنقذ طائراً من جوعنا أو من/ دوار البحر، بل لأشاهد الطوفان/ عن كثب: وماذا بعد؟ ماذا/ يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟)
5- ص 55، الإشارة إلى المباني وذكر اسم لوط: (فلي عمل على جغرافيا البركان، من أيام لوط إلى قيادة هيروشيما).
6- ص 61، الإشارة إلى صبر أيوب، حيث يخاطب الشاعر الموت: (ربما أبطأت في تدريب أيوب على الصبر الطويل).
7- ص 62، تسخير خطاب الله للرسول: (لا تكن فظاً غليظ القلب).
8- ص 70، الإشارة إلى عيسى عليه السلام: (قال طيف هامشي: "كان أوزيرين مثلك، كان مثلي، وابن مريم كان مثلك، كان مثلي").
9- ص 84، تداخل صوت الشاعر بصوت الجامعة في العهد القديم: (كل شيء، باطل، فاغتم حياتك مثلما هي).
10- ص 97، الإشارة إلى قول الرسول وربط كلامه أنا المتكلم بكلامه: (وقلت: ان مت انتبهت).
11- ص 101، الشاعر باعتباره مسلماً من المسلمين وله من النص القرآني ما للرسول وللمسلمين: (ولي شبحي وصاحبه. وآية النحاس وآية الكرسي).
وإذا ما أمعنا النظر في المواطن التي ربط فيها الشاعر مباشرة بين ذاته وبين الرسل والأنبياء، فسنجد أن العلاقة بينهما هي علاقة اتصال وانفصال، وهذه العلاقة التي تتجسد في النص نفيه تتجسد أيضاً في أشعار درويش كلها، فالعلاقة التي كانت، من حيث مهمة كل من الاثنين واحدة، وهي مهمة التغيير، اختلفت في المراحل الشعرية الأخيرة. وإذا كان درويش في بداية حياته يكتب:
ولو أن السيد المصلوب لم يكبر على عرش الصليب
ظل طفلاً ضائع الجرح جبان (ديوان- مجلد 1، ص350)
رابطاً بينه وبين النبي، وهو ما بدا أيضاً في قوله:
نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً (ديوان- مجلد 1، ص 199)
وهو ما بدا أيضاً في كثير من قصائد "ورد أقل" (1986) "كلوا من رغيفي، واشربوا من نبيذي" ومن قبل في "مديح الظل العالي" (1983) حيث كان صوت الرسول الذي يحذر من الأخطاء وارتكابها. إذا كان درويش في بداية حياته يكتب هذا، فإنه في "جدارية" يتحلل، غير مرة، من الربط بينه وبين الرسل والأنبياء، على الأقل من حيث إدراكه لمهمته شاعراً.
حقاً إنه قال في "جدارية":
"ويشرب نبيذي العابرون على/ ثريا المكان السكري/ أنا الرسالة والرسول"، إلا أنه قال فيها أيضاً: "لست أنا النبي لأدّعي وحيا" و "كنا طبيعيين وزاهدين بلا تعاليم المسيح" و"لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً" و"لكنني نزلت عن الصليب"… إلخ.
وهكذا نجد النص يحفل بتلك الازدواجية، أعني الربط ما بين الشاعر والنبي، والتحلل من إعطاء الشاعر دور النبي، وهذا ما أقر به درويش في المقابلات التي أجريت معه: "ولأن الشاعر أصبح يعي أنه ليس منقذاً وليس مخلصاً وليس مسيحاً وليس نبياً، فهذه كانت صفات الشاعر الرومانسي، فإن الشاعر الآن هو الفرد الذي يتمتع بعزلته وبكونه معزولاً لكي تتاح له فرصته أن يعيد النظر في فرديته وفي ذاته" (الشعراء، عدد 4، 5، ربيع 99، ص 19).
يرى درويش، إذن، في دوره السابق شاعراً رومانسياً، وإن كنت شخصياً أختلف معه وأرى فيه شاعراً واقعياً اشتراكياً، لأنه كان حزبياً من ناحية، حيث كان عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وكان يُسخر منه من أجل أفكار الحزب ومن أجل خدمة البسطاء من ناحية ثانية وبوعي تام، حقاً أن الرومانسيين التفتوا إلى الفئات الشعبية، خلافاً للكلاسيكيين الذين توجهوا إلى الأمراء والنبلاء، إلا أن حزبية درويش ودفاعه في الستينات عن الفكر الماركسي الذي تبناه هو ما يجعلني أصنف انتماءه في تلك المرحلة ضمن الواقعية الاشتراكية، وان رأى دارسون في واقعيته تلك ثورية رومانسية.
كان درويش في بداية حياته يقول:
يا قارئي!
لا ترجُ مني الهمس!
لا ترجُ الطرب (ديوان محمود درويش، مجلد 1، ص 7)
ويقول:
يا رفاقي الشعراء!
نحن في دنيا جديدة مات ما فات، فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرّة يخلق أنبياءً (مجلد، ص53 و54)
وكان ينطلق من منطلق الشاعر الثوري الذي يرى في الشعر أداة من أدوات التغيير، فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرّة يخلق أنبياء. إن الكلمات تخلق أنبياء، وهي سلاح بيد الشاعر يقاتل بها من أجل التغيير. والشاعر، هنا، مثل القائد الحزبي، ومثل النبي، عليه أن يلح إلحاحاً كبيراً على الآخرين حتى يثقفهم ويبعدهم بما ينبغي عليهم أن يفعلوه.
ولم يتغير موقف درويش إلا بعد أن ترك الحزب، ليدرك بعد تجارب أن لا جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها، وهنا تمنى لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً، والوعاظ في وعظهم أقل إرشاداً، والأدباء التعليميين في آدابهم أقل تعليمية، لم يعد الشاعر مثل المسيح، ولقد تخلى بمحض إرادته عن تمثل دوره، فلا المسيح ولا الأنبياء، ولا الشعراء استطاعوا أن يغيروا هذا العالم نحو الأفضل، تماماً كما أن الأحزاب التي كانت تطمح إلى عالم أفضل لم تحقق ما كانت تدعو إليه.
وقد تكون تجارب درويش التي امتدت أربعين عاماً أو يزيد هي ما دفعته إلى ذلك. لعله اكتشف أن العطار لا يستطيع أن يصلح ما أفسد الدهر، هذا الذي هو أقوى من الجميع، فما من أحد قاتل الزمن إلا قتله، وهو مثل الموت في "جدارية"، انه أقوى من الجميع، فهو القوي قاهر الجيوش، وكان درويش قد صدر مجموعته "أرى ما أريد" (1991) بالأسطر الشعرية التالية الدالة:
وأنا أنظر خلفي في هذا الليل
في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر
وأحدّق في ذاكرة الماء وفي ذاكرة الرمل
لا أبصر في هذا الليل
إلا آخر هذا الليل
دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية
لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه وعليه
لكن الليل يعود إلى ليلته
وأنا أسقط في حفرة هذا الظل (ص 5)
وما من شك في أن هذا يحيلنا إلى ما يقوله درويش نفسه في جداريته، في لحظته الراهنة، وما يقوله الصدى الذي يعبر عن درويش يوم كان شاباً قوياً. إن ما يقوله الآن غير ما كان يقوله شاباً، ولعل تتبع أقوال الصدى في النص ومقارنتها بأقوال الصوت الحافر لدرويش يضعنا أمام الفارق الواضح بين قول درويش:
ولو أن السيد المصلوب لم يكبر على عرش الصليب
ظل طفلاً ضائع الجرح جبان
وقوله:
لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً
لقد كبر الشاعر، وهو شاب، وعاش تجارب جعلته يدعو ويبشر ويحرض ويتفاءل من خلال الشعر، وكان مثل المسيح الذي كبر على عرش الصليب، ولكنه في خمسينيات عمره اكتشف عبث ذلك، ومن هنا أخذ يتمنى لو أن الأنبياء أقل إلحاحاً، وهكذا لم يعد هو شخصياً يلح في أشعاره على التغيير، وأخذ يتساءل عن جدوى القصيدة.
من أين تأتي الشاعرية؟!
يتساءل محمود درويش في "جدارية" عن مصدر الشاعرية ويقول:
من أين تأتي الشاعرية؟
من ذكاء القلب، أم من فطرة الإحساس بالمجهول؟
أم من وردة حمراء في الصحراء؟
لا الشخصي شخصي ولا الكوني كوني
وقد أحالني قوله هذا إلى عبارة كان قالها في إحدى المقابلات التي أجريت معه، ووظفها شاكر النابلسي في دراسته المعروفة: مجنون التراب: دراسة في شعر وفكر محمود درويش، والعبارة هي: "أنا اعتبر أن المصدر الأول للشعر في تجربتي الشخصية هو الواقع، وأخلق رموزي من هذا الواقع، فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي إلى مرجعية سابقة. أي أنني أحول اليومي إلى رمزي. الواقع هو مصدر رئيسي لشعري" (اللقاء نشر في البيان الخليجية، 20/5/1986).
وقد تحيلنا هذه العبارة إلى اللقاء الذي نشر مع الشاعر في مجلة "مشارف" في عددها الثالث، يوم سأله عباس بيضون عن بعض الصور الغامضة في مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيداً"، وتحديداً الصورة التي ترد في قصيدة "تعاليم حورية":
وخبزت للسمّاق
عرف الديك. أعرف ما يخرب قلبك المثقوب بالطاووس
وقد قال درويش في اللقاء عن مصدر الصوت ما يلي:
"الصورة ليست دائماً ذات مرجع ذهني. قد أكون راجعاً من حديقة الحيوانات والطاووس. أعني ألوانه، مروحته اللونية، اخترقتني. من وظائف الشعر ـ وهذا ما تعلمناه من لوركا ـ تغيير الحواس. وقد أكون حينها أكتب هذه القصيدة، ودخل الطاووس فيها. لكني لا أعتقد أن هذا خرب القصيدة. هناك أيضاً المطبوع بعرف الديك". (ص 94)
وحين يعقب عباس بيضيون قائلاً: "هذه الصورة ممكنة التخيل" يجيب الشاعر: "يعني أن ألوان الطاووس تخترق كأنها تثقبه. ليس عندي دفاع علمي عن هذه الصورة".
وسنجد أن درويش، فيما بعد، وتحديداً في المقابلة التي أجريت معه ونشرت في الشعراء يقول: إن الكتابة كتابة على الكتابة، ولا توجد كتابة تبدأ من بياض. (الشعراء، عدد 4 و 5، ربيع 1999).
ومن المؤكد أن كلام درويش هذا لا ينطبق على رموزه وصوره كلها، فقد تكون بعض الصور صدى لقراءاته السابقة، تماماً كما قد تكون بعض العبارات تكراراً لقراءاته.
سوف أقف، في هذه المقالة، أمام بعض الصور التي وردت في أشعاره، لا التأكيد ما قاله عام (1986) أو لتأكيد ما قاله عام (1999)، وإنما للمشاركة في مساءلة الشاعر عن مصادر صوت وإبداء رأيي في هذا، ولتكن هذه الكتابة ضرباً من إتمام المقابلات أو توضيحياً لما ورد فيها، ولكنني أرغب ابتداء، في الإحالة إلى رأيين نقديين استثاراني وتذكرتهما وأنا أقرأهما وأقرأ أشعار درويش أيضاً، الأول للدكتور حسام الخطيب والثاني للإيطالي امبرتو ايكو.
في دراسته "تقنية النص التكويني ومغامرة مع نص درويش" يعرف الخطيب النص المشعب بأنه "نص متعدد الأبعاد" وأنه "يؤمن بعداً آخر هو العلاقة بين النصوص المختلفة"، ويضيف بأن هناك بعداً آخر يتمثل في إمكان تواصل الأفراد بعضهم مع بعض وهم يعالجون النص وتضافرهم من أجل تفجير إمكانات النص (الشعر العربي في نهاية القرن، 1997، ص 73).
"درويش ولغة الظلال"، وتوقفت فيها أمام تعدد المدلول للدال الواحد، ومن ضمن الدوال التي تناولتها دال الفراشة. ولم اعتمد في تفسير مدلول هذا الدال على ما أعرف وحسب، لقد عدت إلى المعاجم اللغوية والمعاجم المتخصصة، وأسعفتني الأخيرة في فهم ما استعصي عليّ اكتشافه، وقد قلت في نهاية دراستي ما يلي:
"وتحتاج أشعار درويش، حتى تفهم، إلى بحث في الرموز؛ رموز المغررات ودلالاتها، فالشاعر مطلع اطلاعاً واسعاً على الثقافة العربية والإسلامية والإنسانية، وقد مرّ بتجارب غنية ومن المؤكد أن علينا أن نقر بأن ثقافة المرء غالباً ما تجد طريقاً إلى كتابته، بوعي منه أو دون وعي".
ومن التفسيرات التي قدمتها لدالة الفراشة التفسير التالي: الفراشة هي الفدائي، وهذا حين يذهب إلى فلسطين ليقاتل من أجل تحريرها، يدرك أنه قد يستشهد، بل أن إمكانية استشهاده كبيرة جداً، إنه هنا مثل الفراشة التي تقترب من النار فتحترق. والناس يرون أن الفراشة في سلوكها هذا غبية، ولهذا قالوا: أطيش من فراشة، أغبى من فراشة، فهل الفدائي طائش؟
والشاعر يقول: للفراشات اجتهادي ـ أي لهؤلاء الفدائيين اجتهادي وقد ورد هذا في قصيدة تتمحور حول الفدائي، وهي "أحمد الزعتر".
والسؤال الآن: ما هي مرجعية صورة درويش هذه؟ هل المرجعية خياله أم قراءاته التي أثرت فيه؟ وهل كان واعياً لهذه القراءة أم غير واع لها؟
لقد دفعني إلى كتابة هذا المقال قراءتي الجديدة لقصة حنا إبراهيم "متسللون"، وكنت أنوي أن أكتب عنها مقالة بمناسبة صدور الأعمال القصصية الكاملة للمؤلف، وكنت قرأت القصة من قبل وكتبت عنها في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني" (1992)، ولم ألتفت وأنا أناقش دالة الفراشة في أشعار درويش إليها، ويبدو أنني نسيت جزئيات القصة وبعض تشابهها، وقد توقفت في قراءتي الجديدة أمام سطر حثني على العودة إلى أشعار درويش ودراسة الخطيب ومحاضرة "ايكو" والسطر هو:
وربما خامرها (أي سارة) شيء من الشفقة على أولئك المنكودين الذين لا ينفكون يعكرون أمن الحدود، فتشبههم بالفراش الذي يحوم حول الناس فيحترق" (أ.ب، ص 73).
وتشبّه سارة، كما هو واضح، الفلسطينيين الذين كانوا عام 1948 يعودون إلى منازلهم تسللاً بالفراش، لأن مصير بعض هؤلاء كان القتل والموت، وهذه الصورة تتكرر في أشعار درويش "وكان صديقي يطير ويلعب مثل الفراشة حول دم (نار) ظنه زهرة و"نسافر بحثاً عن الصفر كي نستعيد صواب الفراش".
هل قرأ درويش قصة حنا إبراهيم هذه؟ وهل ظل يتذكر هذا التشبيه أم أنه نسيه على أنه تشبيه ورد في القصة، ولكنه استهواه فظل في ذاكرته؟، وهكذا وجد التشبيه هذا صورة في أشعار الشاعر دون وعي منه على أنه ورد في نص سابق، نص كتب عام 1954، يوم لم يكن الشاعر يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.
هنا يمكن العودة إلى جدارية، لقد قرأ درويش القرآن والعهد القديم، وترك هذان الكتابان عليه تأثيراً واضحاً منذ بداية شبابه، ومن يقرأ جدارية يلحظ حضوراً واضحاً للنص الديني فيها، حضوراً يكاد يقترب، أحياناً، من الاقتباس شبه الحرفي. وهنا لا يتردد المرء في القول أن الكتابة هي كتابة على الكتابة، وإذا كنا في بداية هذه المقالة استشهدنا بقول درويش: من أين تأتي الشاعرية؟ فإننا نستطيع أيضاً أن نستشهد بسطر دال تكرر مرتين ونظراً لأن هذا النص غني بعلاقاته وتركيباته وصوره، فيجدر أن يدرس من خلال علاقته بالنصوص الأخرى، لا من خلال أبعاده التاريخية والسيكولوجية والنفسية، ويقترح د. الخطيب أن يستعان بالتكنولوجيا الحديثة بالإسهام في إخراج الأدب من عزلة الرصيف.
كما أنه يدعو إلى ربط النصوص بعضها ببعض لمعرفة تداخلاتها وتشابكاتها.
ويأتي (امبرتو ايكو) في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" (بيروت 2000) على العلاقة بين المؤلف والنص، وذلك في الفصل الثالث الذي عنوانه "بين المؤلف والنص"، ويكتب عن صلة نصه "اسم الوردة" بنصوص سابقة، كان واعياً لبعضها وهو يكتب نصه، وغير واعٍ لبعضها الآخر، وقد نبهه بعض القراء إلى أشياء لم يكن واعياً لها في أثناء إنجازه النص، ولكن ما قاله القراء كان ممكناً.
وقرأت تحاليل نقدية يشير فيها أصحابها إلى وجود تأثيرات لم أكن واعياً بها في أثناء كتابتي للرواية، إلا أنني قد أكون قرأتها بكل تأكيد في شبابي، ومارست علي تأثيراً بشكل لا شعوري (لقد قال لي صديقي جيوريجو سالي: قد يكون بين قراءاتي القديمة روايات ديمتري ميروسكوفسكي، واعترفت له بصحة ذلك" (ص 95).
ويأتي (ايكو) بأمثلة أكثر وهو يناقش هذا الأمر، وهذا يعني ببساطة أن نصه "اسم الوردة" كان يحفل بنصوص أخرى، وعي الكاتب بعضها، ولم يعِ بعضها الآخر، ولكن هذه ربما تركت أثراً على نصه. وهنا نعود إلى سؤال درويش: من أين تأتي الشاعرية؟ ونعود أيضاً إلى رأييه (1986 و 1999). هل المصدر الأول للشعر في تجربته الشخصية هو الواقع، أم أن كتابته هي كتابة على الكتابة؟ هل مصدر الشاعرية التجربة أم القراءة أم كلاهما معاً؟ لقد أنجزت في أيلول 1999، دراسة عنوانها "محمود في جدارية" هو: الواقعي هو الخيالي الأكيد، هذا ما تقوله له الحروف الغامضات، وهذا ما قاله الشاعر عام (1986): "وأخلق رموزي من هذا الواقع"، ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام المقطع: "فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي إلى مرجعية سابقة" ونجد أنفسنا أمام السؤال الصعب: هل هذا صحيح دائماً؟
لقد استعنت، شخصياً، بمعجم الرموز (ما نفرد لوركر) لتفسير مدلولات بعض الدوال في أشعار درويش، وكان شاكر النابلسي قد استعان بالقراء وهو يشرح بوابات درويش الشعرية ورموزه، وكثير من التفسيرات التي وردت في معجم الرموز، وهذا يختصر الدلالات الرمزية للدال في الأدب العالمي ويوضحها، وكثير مما قاله القراء يتطابق وما أراده درويش، والسؤال هو: هل اختلاق درويش رموزه جاء من الواقع وحسب؟ أم أن الواقع نفسه صدى للماضي، وسواء أقرأ درويش مدلولات الدال الواحد أم لم يقرأها فإن الواقع يقولها، وهكذا يبدو أن ما يقوله صحيح؟
الذين درسوا الأمثال لدى الشعوب لاحظوا أن هناك أمثالاً كثيرة تتشابه، فهل كانت الدلالات الرمزية للألوان وأسماء تصف المخلوقات والمخلوقات نفسها تتشابه؟! مجرد تساؤل واجتهاد!!
الهوامش
1- انظر مجلة "الكلمة" رام الله، خريف 2000، عدد 6.
2- انظر جريدة "الأيام" رام الله، 4/7/2000.
3- انظر مجلة "الشعراء" رام الله، خريف 2000، عدد 10.
* أستاذ الأدب في كلية الآداب بجامعة النجاح الوطنية .
وطن في قصيدة
لم يكن محمود درويش يعبث لحظة واحدة بأدوات رسالته لفرط حساسية هذه الأدوات. فأداة الشاعر الفلسطيني واحدة بطبيعته الاستثنائية، هذه الأداة هي الوطن المفقود الذي يصبح في الغياب فردوسا مفقودا"، هكذا صدر الحكم - قدريا - على محمود درويش الشاعر أن يولد فلسطينيا ليصبح لسانا لهذه الأرض التي أُفقدت عن عمد الكثير من ألسنتها.
والمتتبع لحياة محمود درويش يجدها قد مثّلت - بصورة نموذجية - أبعاد قضية شعبه على مدار ستين عاما هي مدتها، وعبر توصيفات صدقت في كل وقت على كل أفراد هذا الشعب.
مع الميلاد: عندما كنت صغيرا.. كانت الوردة داري.. والعصافير إزاري
في عام 1942 وُلد محمود درويش في قرية "البروة" بالقرب من عكا، وهي القرية التي لا يذكر منها الكثير، حيث بترت ذكرياته فجأة وهو في السادسة من عمره.
في إحدى الليالي حالكة السواد استيقظ فجأة على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وعلى هرج في المنزل، وخروج فجائي، وعدوٍ استمر لأكثر من ست وثلاثين ساعة تخلله اختباء في المزارع من أولئك الذين يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم "عصابات الهاجاناة".
ويستيقظ الطفل محمود درويش ليجد نفسه في مكان جديد اسمه "لبنان"، وهنا يبدأ وعيه بالقضية يتشكل من وعيه ببعض الكلمات، مثل: فلسطين، وكالات الغوث، الصليب الأحمر، المخيم، واللاجئين… وهي الكلمات التي شكّلت مع ذلك إحساسه بهذه الأرض، حين كان لاجئا فلسطينيا، وسُرقت منه طفولته وأرضه.
وفي عامه السابع عشر تسلل إلى فلسطين عبر الحدود اللبنانية، وعن هذه التجربة يقول:
"قيل لي في مساء ذات يوم.. الليلة نعود إلى فلسطين، وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل، في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟! ولكن أين هي؟ فلم أعد إلى بيتي، فقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدمت وحرقت".
هكذا عاد الشاب محمود درويش إلى قريته فوجدها قد صارت أرضا خلاء، فصار يحمل اسما جديدا هو: "لاجئ فلسطيني في فلسطين"، وهو الاسم الذي جعله مطاردًا دائما من الشرطة الإسرائيلية، فهو لا يحمل بطاقة هوية إسرائيلية؛ لأنه "متسلل".. وبالكاد وتنسيقًا مع وكالات الغوث بدأ الشاب اليافع في العمل السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي، محاولا خلق مناخ معادٍ للممارسات الإرهابية الصهيونية، وكان من نتيجة ذلك أن صار محررا ومترجما في الصحيفة التي يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وهو الحزب الذي رفع في تلك الفترة المبكرة من الستينيات شعارا يقول: "مع الشعوب العربية.. ضد الاستعمار"، وهي الفترة ذاتها التي بدأ يقول فيها الشعر، واشتُهر داخل المجتمع العربي في فلسطين بوصفه شاعرا للمقاومة لدرجة أنه كان قادرا بقصيدته على إرباك حمَلة السلاح الصهاينة، فحينئذ كانت الشرطة الإسرائيلية تحاصر أي قرية تقيم أمسية شعرية لمحمود درويش.
وبعد سلسلة من المحاصرات، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، فصار محظورا عليه مغادرة هذا الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي، ظانا أنه سيكتم صوت الشاعر عبر منعه من إقامة أمسياته.
إلى المنفى: وطني على كتفي.. بقايا الأرض في جسد العروبة
وهنا بدأ محمود درويش الشاعر الشاب مرحلة جديدة في حياته بعد أن سُجن في معتقلات الصهيونية ثلاث مرات: 1961 – 1965 – 1967.
ففي مطلع السبعينيات وصل محمود درويش إلى بيروت مسبوقا بشهرته كشاعر، وعبر أعوام طويلة من التنقل كان شعره صوتا قويا يخترق أصوات انفجارات الحرب الأهلية في لبنان.
وفي عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها، حيث وُزع من كتبه أكثر من مليون نسخة في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط، حتى إن إحدى قصائده (عابرون في كلام عابر) قد أثارت نقاشا حادا داخل الكنيست الإسرائيلي.
هذا التأثير الكبير أهَّله بجدارة لأن يكون عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من عدم انتمائه لأية جماعة أو حزب سياسي منذ مطلع السبعينيات، وقد تطورت علاقته بمنظمة التحرير حتى اختاره "عرفات" مستشارا له فيما بعد ولفترة طويلة، وقد كان وجوده عاملا مهما في توحيد صفوف المقاومة حينما كان يشتد الاختلاف، وما أكثر ما كان يشتد!.
يذكر "زياد عبد الفتاح" أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واقعة تؤكد هذا المعنى فيقول: "قرأ محمود درويش على المجلس الوطني الفلسطيني بكامل أعضائه ومراقبيه ومرافقيه وضيوفه وحرسه قصيدة: "مديح الظل العالي" فأثملهم وشغلهم عن النطاح السياسي الذي شب بينهم في تلك الجلسة.
وهذا ما جعل ياسر عرفات يحاول إقناع محمود درويش بُعيد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية، ولكن الرد كان بالرفض، معللا هذا الرفض بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن ثم التفرغ لكتابة الشعر.
وقد عاش محمود درويش كثيرا من مآسي هذه المقاومة، وشاهد بنفسه كثيرين من أصدقائه ورفقاء كفاحه وهم يسقطون بأيدي القتلة الصهاينة، وكانت أكثر حوادث السقوط تأثيرا في نفسه حادث اغتيال "ماجد أبو شرار" في روما عام 1981، حين كانا يشاركان في مؤتمر عالمي لدعم الكتاب والصحفيين الفلسطينيين نظَّمه اتحاد الصحفيين العرب بالتعاون مع إحدى الجهات الثقافية الإيطالية.. وضع الموساد المتفجرات تحت سرير ماجد أبو شرار.. وبعد موته كتب محمود درويش في إحدى قصائده: "أصدقائي.. لا تموتوا".
كان محمود درويش مقيما في بيروت منذ مطلع السبعينيات، وعلى الرغم من تجواله المستمر إلا أنه قد اعتبرها محطة ارتكازه، كما كانت حياته في بيروت زاخرة بالنشاط الأدبي والثقافي، فقد أصدر منها في أواخر السبعينيات مجلة الكرمل التي رأس تحريرها والتي اعتبرت صوت اتحاد الكتاب الفلسطينيين.
تحت القصف: (بيروت.. لا)
أثناء قصف بيروت الوحشي، كان محمود درويش يعيش حياته الطبيعية، يخرج ويتنقل بين الناس تحت القصف، لم يكن يقاتل بنفسه، فهو لم يعرف يوما كيف يطلق رصاصة، لكن وجوده - وهو الشاعر المعروف - بين المقاتلين كان يرفع من معنوياتهم، وقد أثر قصف بيروت في درويش تأثيرا كبيرا على مستويات عديدة.
فعلى المستوى النفسي كانت المرة الأولى التي يحس فيها بالحنق الشديد، على الرغم من إحباطاته السابقة، وعلى المستوى الشعري أسهم هذا القصف في تخليه عن بعض غموض شعره لينزل إلى مستوى أي قارئ، فأنتج قصيدته الطويلة الرائعة "مديح الظل العالي"، معتبرا إياها قصيدة تسجيلية ترسم الواقع الأليم، وتدين العالم العربي، بل الإنسانية كلها.
وأسفر القصف عن خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، بينما فضّل محمود درويش البقاء في بيروت، معولا على عدم أهميته بالنسبة للصهاينة، لكنه وبعد عشرين يوما من بقائه علم أنه مطلوب للتصفية، فاستطاع أن يتسلل هاربا من بيروت إلى باريس ليعود مرة أخرى إلى حقيبته وطنا متنقلا ومنفى إجباريا. وبين القاهرة وتونس وباريس عاش محمود درويش حبيس العالم المفتوح معزولا عن جنته الموعودة.. فلسطين.
لقد كان الأمل في العودة هو ما يدفعه دائما للمقاومة، والنضال والدفع إلى النضال.
كان محمود درويش دائما يحلُم بالعودة إلى أرضه يشرب منها تاريخها، وينشر رحيق شعره على العالم بعد أن تختفي رائحة البارود، لكنه حلم لم يتحقق حتى الآن!.
اتفاقات التسوية "لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار"؟
في عام 1993 وأثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني، أُتيح لمحمود درويش أن يقرأ اتفاق أوسلو، واختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق، فكان رفضه مدويا، وعندما تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى قدم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني، وشرح بعد ذلك أسباب استقالته قائلا: "إن هذا الاتفاق ليس عادلا؛ لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية، ولا جغرافية هذه الهوية إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي.. وقد أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شيء أكثر مأساوية وأكثر سخرية، وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص".
وعاد درويش في يونيو 1994 إلى فلسطين، واختار الإقامة في رام الله، وعانى مذلة الوجود في أرض تنتمي له، ويحكمها -ولا يحكمه- فيها شرطي إسرائيلي.. واستمر يقول الشعر تحت حصار الدبابات الإسرائيلية، إلى أن تم اجتياحها أخيرا، ولم يسلم هو شخصيا من هذا الاجتياح، حيث داهمت الشرطة الإسرائيلية منزله، وعبثت بأسلحته: أوراقه وأقلامه.
رحلة الإبداع "مع الشعر مجيئي … مع الشعر رحيلي"
"إذا كنا هامشيين إلى هذا الحد فكريا وسياسيا فكيف نكون جوهريين إبداعيا؟"
هكذا أجاب درويش، وهكذا يرى نفسه وسط عالم من الإبداع الجيد والمبدعين "الجوهريين"، رغم التقدير الذي يلقاه داخل وطننا العربي وخارجه الذي بلغ ذروته حين قام وفد من البرلمان العالمي للكتاب يضم وول سوينكا وخوسيه ساراماغو وفينثنثو كونسولو وبرايتن برايتنباك وخوان غويتيسولو إلى جانب كريستيان سالمون سكرتير البرلمان 24 مارس 2002 بزيارة درويش المحاصر في رام الله مثل ثلاثة ملايين من مواطنيه، وهذه الخطوة –زيارة وفد الأدباء لفلسطين- التي لم تستغل جيدا رغم أنها حدث في منتهى الأهمية – تنم عن المكانة التي يحتلها درويش على خريطة الإبداع العالمي.
وعلى هامش الزيارة كتب الكاتب الأسباني خوان غويتسولو مقالا نشره في عدد من الصحف الفرنسية والأسبانية اعتبر فيه محمود درويش أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه، وقال عن درويش إنه استطاع: تطوير هموم شعرية جميلة ومؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعا مركزيا، فكان شعره التزاما بالكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعرا نضاليا أو دعويا، هكذا تمكن درويش، شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين، من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تام عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه.
وكان درويش قد شارك في الانتفاضة الأخيرة بكلماته التي لا يملك غيرها بديوان كتبه في أقل من شهر عندما كان محاصرا في رام الله، وأعلن درويش أنه كتب هذا الديوان – الذي أهدى ريعه لصالح الانتفاضة – حين كان يرى من بيته الدبابات والجنود, ويقول: "لم تكن لدي طريقة مقاومة إلا أن أكتب, وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد, وكانت اللغة وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية".
وتابع قائلا "كتبت عن قوة الحياة واستمرارها وأبدية العلاقة بالأشياء والطبيعة. الطائرات تمر في السماء لدقائق ولكن الحمام دائم.. كنت أتشبث بقوة الحياة في الطبيعة للرد على الحصار الذي أعتبره زائلا؛ لأن وجود الدبابة في الطبيعة وجود ناشز وليس جزءا من المشهد الطبيعي".
اللافت أن درويش لم يخاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي إريل شارون في أي قصيدة من قصائد الديوان. وقال درويش بشأن ذلك: إن شارون "لا يستحق قصيدة فهو يفسد اللغة.. هو متعطش للدماء ولديه حقد كبير, ولكن المشكلة في الدعم الأميركي الذي يمنحه بعد كل مجزرة وساما بأنه رجل سلام".
وما زال الشاعر ابن الستين ربيعا متفجرا يعيش تحت سماء من دخان البارود الإسرائيلي وخلف حوائط منزل صغير مهدد في كل وقت بالقصف أو الهدم، وبجسد مهدد في كل وقت بالتحول إلى غربال.. ورغم ذلك فإن كل هذا يقوي من قلمه، ويجعله أشد مقاومة.
الإسرائيلي يحاكم نفسه.. في شعر "درويش"
إلى قاتل..
لو تأملت وجه الضحية وفكرت..
كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز..
كنت تحررت من حكمة البندقية وغيرت رأيك..
ما هكذا تستعاد الهوية..
هذه الكلمات تمثل مذكرة ادعاء حاول بها الشاعر "محمود درويش" دفع القاتل الإسرائيلي إلى محاكمة نفسه في إحدى قصائد ديوانه الأخير "حالة حصار" الصادر عن دار رياض نجيب الريس للطباعة.
وأكد درويش أن هذا الكتاب كتبه في أقل من شهر عندما كان محاصرا في رام الله، وصرح بأن شارون لا يستحق قصيدة فهو يفسد اللغة، هو متعطش للدماء ولديه حقد كبير، ولكن المشكلة في الدعم الأمريكي الذي يمنحه بعد كل مجزرة وساما بأنه رجل سلام.. ولكن إذا سقط شارون فمعنى ذلك أن مشروعه في الحل العسكري قد سقط أيضا.
ويصف حالة الحصار التي عاشها في مدينة رام الله في الضفة الغربية المحتلة بقصائد عدة منها:
الحصار هو الانتظار..
هو الانتظار على سلم مائل وسط العاصفة..
الحصار يحولني من مغن إلى وتر سادس في الكمان..
أيها الساهرون ألم تتعبوا من مراقبة الضوء في ملحنا..
ومن وهج الورد في جرحنا..
ألم تتعبوا أيها الساهرون..
ولكن في غمرة هذا الحصار يظهر الأمل في شعر درويش:
بلاد على أهبة الفجر..
لن نختلف على حصة الشهداء من الأرض..
ها هم سواسية يفرشون لنا العشب كي نأتلف..
ويخاطب درويش في إحدى قصائده الجنود الإسرائيليين الذين يحاصرون المناطق الفلسطينية قائلا:
أيها الواقفون على العتبات ادخلوا..
واشربوا معنا القهوة العربية، قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا..
أيها الواقفون على عتبات البيوت
اخرجوا من صباحاتنا نطمئن إلى أننا بشر مثلكم..
ويتناول محمود درويش في ديوانه الذي يقع في مائة صفحة من القطع الوسط - وقد خصص ريعه للانتفاضة الفلسطينية - تحديد مفهوم واضح للسلام، فيقول في إحدى القصائد:
السلام نهار أليف لطيف خفيف الخطا لا يعادي أحد..
السلام قطار يوحد سكانه العائدين أو الذاهبين إلى نزهة في ضواحي الأبد..
السلام هو الاعتراف علانية بالحقيقة..
ماذا صنعتم بطيف القتيل..
السلام هو الانصراف إلى عمل في الحديقة..
ماذا سنزرع عما قليل..
ومحمود درويش المولود في "البروة" في "الجليل" بشمال فلسطين المحتلة عام 1948 كان قد وطئ أرض فلسطين لأول مرة عام 1995، وتحديدا إلى "غزة" قبل أن يستقر في رام الله بعد قرابة ربع قرن من المنفى.
بين حلمي و بين اسمه كان موتي بطيئا
باسمها أتراجع عن حلمها. ووصلت أخيراً إلى
الحلم. كان الخريف قريباً من العشب. ضاع
اسمها بيننا... فالتقينا.
لم أسجلّ تفاصيل هذا اللقاء السريع. أحاول شرح
القصيدة كي أفهم الآن ذاك اللقاء السريع.
هي الشيء أو ضدّه، وانفجارات روحي
هي الماء والنار، كنا على البحر نمشي.
هي الفرق بيني... وبيني].
وأنا حامل لاسم أو شاعر الحلم. كان اللقاء سريعاً.
أنا الفرق بين الأصابع والكفّ. كان الربيع
قصيراً أنا الفرق بين الغصون وبين الشجر.
كنت حملها، واسمها يتضاءل. كانت تسمّى
خلايا دمي. كنت ألمها
والتقينا أخيراً.
أحاول شرح القيدة كي أفهم الآن ماذا حدث...
- يحمل الحلم سيفاً ويقل شاعرة حين يبلغه –
هكذا أخبرتني المدينة حين غفوت على ركبتيها
لم أكن حاضراً
لم أكن غائبا
كنت بين الحضور وبين الغياب
حجرا... أو سحابه
- تشبهين الكآبة
قلت لها باختصار شديد
تشبهين الكآبة
ولكنّ صدرك صار مظاهرة العائدين من الموت...
ما كنت جنديّ هذا المكان
وثوريّ هذا الزمان
لأحمل لا فتةً، أو عصا، في الشوارع.
كان لقائي قصيراً
وكان وداعي سريعاً.
وكانت تصير إلى امرأةٍ عاطفية
فالتحمت بها
وصارت تفاصيلها ورقاً في الخريف
فلملمها عسكريّ المرور
ورتّبها في ملف الحكومة
وفي المتحف الوطني
- تشبهين المدينة حين أكون غريباً
قلت لها باختصار شديد
تشبهين المدينة.
هل رآك الجنود على حافّة الأرض
هل هربوا منك
أم رجموك بقنبلة يدوية؟
قالت المرأة العاطفيّة :
كلّ شيء يلامس جسمي
يتحوّل
أو يتشكّل
حتى الحجارة تغدو عصافير.
قلت لها باكياً:
ولماذا أنا
أتشرّد
أو أتبدّد
بين الرياح وبين الشعوب؟
فأجابت:
في الخريف تعود العصافير من حالة البحر
- هذا هو الوقت
- لا وقت
وابتدأت أغنية:
في الخريف تعود العصافير من حالة البحر
هذا هو الوقت، لا وقت للوقت
هذا هو الوقت
- ماذا تكون البقيّة؟
- شبه دائرة أنت تكلمها
- أذهب الآن؟
- لا تذهب الآن. إنّ الرياح على خطأ دائما.
والمدينة أقرب.
- المدينة أقرب !! أنت المدينة
- لست مدينة
أنا امرأةٌ عاطفية
هكذا قلت قبل قليل
واكتشفت الدليل
وأنت البقية
- آه، كنت الضحيّة
فكيف أكون الدليل؟
- وكنت أعانقها. كنت أسألها نازفاً:
أ أنت بعيدة؟
- على بعد حلم من الآن
والحلم يحمل سيفاً. ويقتل شاعره حين يبلغه
- كيف أكمل أغنيتي
والتفاصيل ضاعت. وضاع الدليل؟
- انتهت صورتي
فابتدئ من ضياعك.
أموت - أحبّك
إن ثلاثة أشياء لا تنتهي:
أنت، والحبّ، والموت
قبّلت خنجرك الحلو
ثم احتميت بكفّيك
أن تقتليني
وأن توقفيني عن الموت
هذا هو الحب.
إني أحبّك حين أموت
وحين أحبّك
أشعر أني أموت
فكوني امرأة
وكوني مدينة
ولكن، لماذا سقطت، لماذا احترقت
بلا سببٍ؟
ولماذا ترهّلت في خيمة بدويّة؟
- لأنك كنت تمارس موتاً بدون شهيّة
وأضافت، كأنّ القدر
يتكسّر في صوتها:
هل رأيت المدينة تذهب
أم كنت أنت الذي يتدحرج من شرفة اللّه
قافلةً من سبايا؟
هل رأيت المدينة تهرب
أم كنت أنت الذي يحتمي بالزوايا
المدينة لا تسقط، الناس تسقط !
ورويداً... رويداً تفتّت وجه المدينة
لم نحوّل حصاها إلى لغةٍ
لم نسيّج شوارعها
لم ندافع عن الباب
لم ينضج الموت فينا.
كانت الذكريات مقراً لحكام ثورتها السابقة
ومرّ ثلاثون عاماً
وألف خريف
وخمس حروب
وجئت المدينة منهزماً من جديد
كان سور المدينة يشبهني
وقلت لها:
سأحاول حبّك...
لا أذكر الآن شكل المدينة
لا أذكر اسمي
ينادونني حسب الطقس والأمزجة
لقد سقط اسمي بين تفاصيل تلك المدينة
لملمه عسكريّ المرور
ورتّبه في ملف الحكومة
- تشبهين الهويّة حين أكون غريباً
تشبهين الهويّة.
- ليس قلبي قرنفلةً
ليس جسمي حقلاً
- ما تكونين؟
هل أنت أحلى النساء وأحلى المدن
- للذي يتناسل فوق السفن
وأضافت:
بين شوك الجبال وبين أماسي الهزائم
كان مخاضي عسيراً
- وهل عذّبوك لأجلي؟
- عذّبوك لأجلي
- هل عرفت الندم؟
- النساء – المدن
قادراتٌ على الحبّ، هل أنت قادر؟
- أحاول حبّك
لكنّ كل السلاسل
تلتفّ حول ذراعيّ حين أحاول...
هل تخونينني؟
- حين تأتي إليّ
- هل تموتين قبلي؟
سألتك : موتي!
- أيجديك موتي!
- أصير طليقاً
لأن نوافذ حبّي عبوديّةٌ
والمقابر ليست تثير اهتمام أحد
وحين تموتين
أكمل موتي.
بين حلمي وبين اسمه
كان موتي بطيئاً بطيئاً.
أموت – أحبّك
إن ثلاثة أشياء لا تنتهي
أنت، والحبّ، والموت
أن تقتليني
وأن توقفيني عن الموت.
هذا هو الحبّ
... وانتهت رحلتي فابتدأت
وهذا هو الوقت: ألا يكون لشكلك وقت.
لم تكوني مدينة
الشوارع كانت قبل
وكان الحوار نزيفاً
وكان الجبل
عسكرياً. وكان الصنوبر خنجر.
ولا امرأةً كنت
كانت ذراعاك نهرين من جثثٍ وسنابل
وكان جبينك بيد ر
وعيناك نار القبائل
وكنت أنا من مواليد عام الخروج
ونسل السلاسل.
يحمل الحلم سيفاً، ويقتل شاعره حين يبلغه -
هكذا أخبرتني المدينة حين غفوت على ركبتيها
لم أكن غائباً
لم أكن حاضراً
كنت مختفياً بالقصيدة،
إذا انفجرت من دمائي قصيدة
تصير المدينة ورداً،
كنت أمتشق الحلم من ضلعها
وأحارب نفسي
كنت أعلى يأسي
على صدرها، فتصير امرأة
كنت أعلن حبي
على صدرها، فتصير مدينة
كنت أعلن أنّ رحيلي قريب
وأنّ الرياح وأنّ الشعوب
تتعاطى جراحي حبوباً لمنع الحروب.
بين حلمي وبين اسمه
كان موتي بطيئاً
باسمها أتراجع عن حلمها. ووصلت
وكان الخريف قريباً من العشب.
ضاع اسمها بيننا... فالتقينا.
لم أسجّل تفاصيل هذا اللقاء السريع
أحاول شرح القصيدة
لأغلق دائرة الجرح والزنبقة
وأفتح جسر العلاقة بين الولادة والمشنقة
أحاول شرح القصيدة
لأفهم ذاك اللقاء السريع
أحاول
أحاول... أحاول!
أعراس
عاشق يأتي من الحرب إلى يوم الزفاف
يرتدي بدلته الأولى
ويدخل
حلبة الرقص حصاناً
من حماس وقرنفل
وعلى حبل الزغاريد يلاقي فاطمة
وتغنّي لهما
كل أشجار المنافي
ومناديل الحداد الناعمة.
ذبّل العاشق عينيه
وأعطى يده السمراء للحنّاء
والقطن النسائيّ المقدس
وعلى سقف الزغاريد تجيء الطائرات
طائرات
طائرات
تخطف العاشق من حضن الفراشة
ومناديل الحداد
وتغنّي الفتيات:
قد تزوّجت
تزوجت جميع الفتيات
يا محمّد !
وقضيت الليلة الأولى
على قرميد حيفا
يا محمد !
يا أمير العاشقين
يا محمد !
وتزوّجت الدوالي
وسياج الياسمين
يا محمد !
وتزوّجت السلالم
يا محمد !
وتقاوم
يا محمد !
وتزوّجت البلاد
يا محمد !
يا محمد !
أحمد الزعتر
ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد... لأحمد المنسيّ بين فراشتين
مضت الغيوم وشرّدتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني
... نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل
البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي...
آه يا وحدي؟ وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيّماً ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين
وساعداً يشتد في النسيان
ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين
كان اكتشاف الذات في العربات
أو في المشهد البحريّ
في ليل الزنازين الشقيقة
في العلاقات السريعة
والسؤال عن الحقيقة
في كلّ شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاماً كان يسأل
عشرين عاماً كان يرحل
عشرين عاماً لم تلده أمّه إلا دقائق في
إناء الموز
وانسحبت.
يريد هويةً فيصاب بالبركان،
سافرت الغيوم وشرّدتني
ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني
أنا أحمد العربيّ – قال
أنا الرصاص البرتقال الذكريات
وجدت نفسي قرب نفسي
فابتعدت عن الندى والمشهد البحريّ
تل الزعتر الخيمة
وأنا البلاد وقد أتت
وتقمّصتني
وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد
وجدت نفسي ملء نفسي...
راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه
كان الخطوة – النجمة
ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط
كانوا يعدّون الرماح
وأحمد العربيّ يصعد كي يرى حيفا
ويقفز.
أحمد الآن الرهينة
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه
لتقتله
ومن الخليج إلى المحيط، من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدوّن الجنازة
وانتخاب المقصلة
أنا أحمد العربيّ – فليأت الحصار
جسدي هو الأسوار – فليأت الحصار
وأنا حدود النار – فليأت الحصار
وأنا أحاصركم
أحاصركم
وصدري باب كلّ الناس – فليأت الحصار
لم تأت أغنيتي لترسم أحمد الكحليّ في الخندق
الذكريات وراء ظهري، وهو يوم الشمس والزنبق
يا أيها الولد الموزّع بين نافذتين
لا تتبادلان رسائلي
قاوم
إنّ التشابه للرمال... وأنت للأزرق
وأعدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلّها زبدا...
وأحمد يفرك الساعات في الخندق
لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق
هو أحمد الكونيّ في هذا الصفيح الضيّق
المتمزّق الحالم
وهو الرصاص البرتقاليّ... البنفسجة الرصاصيّة
وهو اندلاع ظهيرة حاسم
في يوم حريّة
يا أيها الولد المكرّس للندى
قاوم !
يا أيها البلد – المسدّس في دمي
قاوم !
الآن أكمل فيك أغنيتي
وأذهب في حصارك
والآن أكمل فيك أسئلتي
وأولد من غبارك
فاذهب إلى قلبي تجد شعبي
شعوباً في انفجارك
... سائراً بين التفاصيل اتكأت على مياهٍ
فانكسرت
أكلّما نهدت سفرجلةٌ نسيت حدود قلبي
والتجأت إلى حصارٍ كي أحدّد قامتي
يا أحمد العربيّ؟
لم يكذب علي الحب. لكن كلّما جاء المساء
امتصّني جرسٌ بعيدٌ
والتجأت إلى نزيفي كي أحدد صورتي
يا أحمد العربيّ.
لم أغسل دمي من خبز أعدائي
ولكن كلّما مرّت خطاي على طريقٍ
فرّت الطرق البعيدة والقريبة
كلّما آخيت عاصمةً رمتني بالحقيبة
فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار
كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر
آه من حلمي ومن روما
جميلٌ أنت في المنفى
قتيلٌ أنت في روما
وحيفا من هنا بدأت
وأحمد سلّم الكرمل
وبسملة الندى والزعتر البلدي والمنزل
لا تسرقوه من السنونو
لا تأخذوه من الندى
كتبت مراثيها العيون
وتركت قلبي للصدى
لا تسرقوه من الأبد
وتبعثروه على الصليب
فهو الخريطة والجسد
وهو اشتعال العندليب
لا تأخذوه من الحمام
لا ترسلوه إلى الوظيفة
لا ترسموا دمه وسام
فهو البنفسج في قذيفة
صاعداً نحو التئام الحلم
تتّخذ التفاصيل الرديئة شكل كمّثرى
وتنفصل البلاد عن المكاتب
والخيول عن الحقائب
للحصى عرقٌ أقبّل صمت هذا الملح
أعطي خطبة الليمون لليمون
أوقد شمعتي من جرحي المفتوح للأزهار
والسمك المجفّف
للحصى عرق ومرآةٌ
وللحطّاب قلب يمامةٍ
أنساك أحياناً لينساني رجال الأمن
يا امرأتي الجميلة تقطعين القلب والبصل
الطريّ وتذهبين إلى البنفسج
فاذكريني قبل أن أنسى يديّ
... وصاعداً نحو التئام الحلم
تنكمش المقاعد تحت أشجاري وظلّك...
يختفي المتسلّقون على جراحك كالذباب الموسميّ
ويختفي المتفرجون على جراحك
فاذكريني قبل أن أنسى يديّ!
وللفراشات اجتهادي
والصخور رسائلي في الأرض
لا طروادة بيتي
ولا مسّادةٌ وقتي
وأصعد من جفاف الخبز والماء المصادر
من حصان ضاع في درب المطار
ومن هواء البحر أصعد
من شظايا أدمنت جسدي
واصعد من عيون القادمين إلى غروب السهل
أصعد من صناديق الخضار
وقوّة الأشياء أصعد
أنتمي لسمائي الأولى وللفقراء في كل الأزقّة
ينشدون :
صامدون
وصامدون
وصامدون
كان المخيّم جسم أحمد
كانت دمشق جفون أحمد
كان الحجاز ظلال أحمد
صار الحصار مرور أحمد فوق أفئدة الملايين الأسيرة
صار الحصار هجوم أحمد
والبحر طلقته الأخيرة!
يا خصر كلّ الريح
يا أسبوع سكّر !
يا اسم العيون ويا رخاميّ الصدى
يا أحمد المولود من حجر وزعتر
ستقول : لا
ستقول : لا
جلدي عباءة كلّ فلاح سيأتي من حقول التبغ
كي يلغي العواصم
وتقول : لا
جسدي بيان القادمين من الصناعات الخفيفة
والتردد... والملاحم
نحو اقتحام المرحلة
وتقول : لا
ويدي تحيات الزهور وقنبلة
مرفوعة كالواجب اليومي ضدّ المرحلة
وتقول لا :
يا أيها الجسد المضرّج بالسفوح
وبالشموس المقبلة
وتقول :لا
يا أيها الجسد الذي يتزوج الأمواج
فوق المقصلة
وتقول : لا
وتقول : لا
وتقول : لا !
وتموت قرب دمي وتحيا في الطحين
ونزور صمتك حين تطلبنا يداك
وحين تشعلنا اليراعه
مشت الخيول على العصافير الصغيرة
فابتكرنا الياسمين
ليغيب وجه الموت عن كلماتنا
فاذهب بعيداً في الغمام وفي الزراعة
لا وقت للمنفى وأغنيتي...
سيجرفنا زحام الموت فاذهب في الزحام
لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين
واذهب إلى دمك المهيّأ لا نتشارك
واذهب إلى دمي الموحّد في حصارك
لا وقت للمنفى...
وللصور الجميلة فوق جدران الشوارع والجنائز
والتمني
كتبت مراثيها الطيور وشرّدتني
ورمت معاطفها الحقول وجمعتني
فاذهب بعيداً في دمي! واذهب بعيداً في الطحين
لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين
يا أحمد اليوميّ!
يا اسم الباحثين عن الندى وبساطة الأسماء
يا اسم البرتقالة
يا أحمد العاديّ!
كيف محًوت هذا الفارق اللفظيّ بين الصخر والتفّاح
بين البندقية والغزالة!
لا وقت للمنفى وأغنيتي...
سنذهب في الحصار
حتى نهايات العواصم
فاذهب عميقاً في دمي
اذهب براعم
واذهب عميقاً في دمي
اذهب خواتم
واذهب عميقاً في دمي
اذهب سلالم
يا أحمد العربيّ... قاوم!
لا وقت للمنفى وأغنيتي...
سنذهب في الحصار
حتى رصيف الخبز والأمواج
تلك مساحتي ومساحة الوطن – الملازم
موتٌ أمام الحلم
أو حلم يموت على الشعار
فاذهب عميقاً في دمي واذهب عميقاً في الطحين
لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين
... وله انحناءات الخريف
له وصايا البرتقال
له القصائد في النزيف
له تجاعيد الجبال
له الهتاف
له الزفاف
له المجلاّت الملوّنة
المراثي المطمئنة
ملصقات الحائط
العلم
التقدّم
فرقة الإنشاد
مرسوم الحداد
وكل شيء كل شيء كل شيء
حين يعلن وجهه للذاهبين إلى ملامح وجهه
يا أحمد المجهول!
كيف سكنتنا عشرين عاماً واختفيت
وظلّ وجهك غامضاً مثل الظهيرة
يا أحمد السريّ مثل النار والغابات
أشهر وجهك الشعبيّ فينا
واقرأ وصيّتك الأخيرة ؟
يا أيها المتفرّجون ! تناثروا في الصمت
وابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوه فيكم
حنطةً ويدين عاريتين
وابتعدوا قليلاً عنه كي يتلو وصيّته
على الموتى إذا ماتوا
وكي يرمي ملامحه
على الأحياء إن عاشوا !
أخي أحمد !
وأنت العبد والمعبود والمعبد
متى تشهد
متى تشهد
متى تشهد ؟
قصيدة الأرض
في شهر آذار، في سنة الإنتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدموية.
في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات.
وقفن على باب مدرسة إبتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ.
افتتحن نشيد التراب.
دخلن العناق النهائي – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات – البنفسج مال قليلاً ليعبر صوت البنات.
العصافير مدّت مناقيرها في اتّجاه النشيد وقلبي.
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجة! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل.
وفي شهر آذار، مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بناتٍ.
سقطن على باب مدرسةٍ إبتدائيةٍ.
للطباشير فوق الأصابع لون العصافير.
في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها.
-2-
أسمّي التراب امتداداً لروحي
أسمّي يديّ رصيف الجروح
أسمّي الحصى أجنحة
أسمّي العصافير لوزاً وتين
وأستلّ من تينة الصدر غصناً
وأقذفه كالحجر
وأنسف دبّابة الفاتحين.
-3-
وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
ولدت على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز.
وأمي تربّي جديلتها وامتدادي على العشب.
كنت أحبّ "جراح الحبيب" و أجمعها في جيوبي، فتذبل عند الظهيرة، مرّ الرصاص على قمري الليلكي فلم ينكسر،
غير أنّ الزمان يمرّ على قمري الليلكي فيسقط سهواً...
وفي شهر آذار نمتدّ في الأرض
في شهر آذار تنتشر الأرض فينا
مواعيد غامضةً
واحتفالاً بسيطاً
ونكتشف البحر تحت النوافذ
والقمر الليلكي على السرو
في شهر آذار ندخلٌ أوّل سجنٍ وندخل أوّل حبّ
وتنهمر الذكريات على قريةً في السياج
ولدنا هناك ولم نتجاوز ظلال السفرجل
كيف تفرّين من سبلي يا ظلال السفرجل؟
في شهر آذار ندخل أوّل حبٍّ
وندخل أوّل سجنٍ
وتنبلج الذكريات عشاءً من اللغة العربية:
قال لي الحبّ يوماً: دخلت إلى الحلم وحدي فضعت وضاع بي الحلم. قلت تكاثر!
تر النهر يمشي إليك.
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها.
-4-
بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كسجني!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكان؟
لماذا أغنّي
لطفل ينام على الزعفران؟
وفي طرف النوم خنجر
وأمي تناولني صدرها
وتموت أمامي
بنسمة عنبر؟
-5-
وفي شهر آذار تستيقظ الخيل
سيّدتي الأرض!
أيّ نشيدٍ سيمشي على بطنك المتموّج، بعدي؟
وأيّ نشيدٍ يلائم هذا الندى والبخور
كأنّ الهياكل تستفسر الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المتواصل
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة-
هذا نشيدي
وهذا خروج المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطّي مساميره وقيودي
وهذا نشيدي
وهذا صعود الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس.
في شهر آذار تستيقظ الخيل.
سيّدتي الأرض!
والقمم اللّولبية تبسطها الخيل سجّادةً للصلاة السريعة
بين الرماح وبين دمي.
نصف دائرةٍ ترجع الخيل قوسا
ويلمع وجهي ووجهك حيفا وعرسا
وفي شهر آذار ينخفض البحر عن أرضنا المستطيلة مثل
حصانٍ على وتر الجنس
في شهر آذار ينتفض الجنس في شجر الساحل العربي
وللموج أن يحبس الموج ... أن يتموّج...أن
يتزوّج .. أو يتضرّح بالقطن
أرجوك – سيّدتي الأرض – أن تسكنيني وأن تسكنين صهيلك
أرجوك أن تدفنيني مع الفتيات الصغيرات بين البنفسج والبندقية
أرجوك – سيدتي الأرض – أن تخصبي عمري المتمايل بين سؤالين: كيف؟ وأين؟
وهذا ربيعي الطليعي
وهذا ربيعي النهائيّ
في شهر آذار زوّجت الأرض أشجارها.
-6-
كأنّي أعود إلى ما مضى
كأنّي أسير أمامي
وبين البلاط وبين الرضا
أعيد انسجامي
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيد الخريطة
أنا زهرة المشمش العائلية.
فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
من البدء حتّى الجليل
أعيدوا إليّ يديّ
أعيدوا إليّ الهويّة!
-7-
وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال
وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات
وواضحة كالحقول
العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات.
خديجة!
- أين حفيداتك الذاهبات إلى حبّهن الجديد؟
- ذهبن ليقطفن بعض الحجارة-
قالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّ.
وفي شهر آذار يمشي التراب دماً طازجاً في الظهيرة. خمس بناتٍ يخبّئن حقلاً من القمح تحت الضفيرة. يقرأن مطلع أنشودةٍ على دوالي الخليل، ويكتبن خمس رسائل:
تحيا بلادي
من الصفر حتّى الجليل
ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.
خديجة! لا تغلقي الباب خلفك
لا تذهبي في السحاب
ستمطر هذا النهار
ستمطر هذا النهار رصاصاً
ستمطر هذا النهار!
وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدّمويّة:
خمس بناتٍ على باب مدرسةٍ ابتدائية يقتحمن جنود المظلاّت.
يسطع بيتٌ من الشعر أخضر... أخضر.
خمس بناتٍ على باب مدرسة إبتدائيّة ينكسرن مرايا مرايا
البنات مرايا البلاد على القلب..
في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
-8-
أنا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة
رأيت الحصى أجنحة
رأيت الندى أسلحة
عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً
وأقاموا الحواجز فيّا
ومنع التجوّل
صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة
وأطلّ القرنفل
وأطلّ القرنفل
-9-
وفي شهر آذار رائحةٌ للنباتات.
هذا زواج العناصر.
"آذار أقسى الشهور" وأكثرها شبقاً.
أيّ سيفٍ سيعبر بين شهيقي وبين زفيري ولا يتكسّر !
هذا عناقي الزّراعيّ في ذروة الحب.
هذا انطلاقي إلى العمر.
فاشتبكي يا نباتات واشتركي في انتفاضة جسمي، وعودة حلمي إلى جسدي
سوف تنفجر الأرض حين أحقّق هذا الصراخ المكبّل بالريّ والخجل القرويّ.
وفي شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا النباتات صاعدة ً في اتّجاهات كلّ البدايات.
هذا نموّ التداعي.
أسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي.
رأيت فتاةً على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً وقلت: أنا الموج، فابتعدت في التداعي.
رأيت شهيدين يستمعان إلى البحر:عكّا تجئ مع الموج.
عكّا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي.
ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت. خديجة! لا تغلقي الباب!
إن الشعوب ستدخل هذا الكتاب وتأفل شمس أريحا بدون طقوس.
فيا وطن الأنبياء...تكامل!
ويا وطن الزراعين.. تكامل!
ويا وطن الشهداء.. . تكامل!
ويا وطن الضائعين .. تكامل!
فكلّ شعاب الجبال امتدادٌ لهذا النشيد.
وكلّ الأناشيد فيك امتدادٌ لزيتونة زمّلتني.
-10-
مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مهملة
وعيناك نائمتان
أعود ثلاثين عاماً
وخمس حروبٍ
وأشهد أنّ الزمان
يخبّئ لي سنبلة
يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغنّي يغنّي
ويستجوبونه:
لماذا تغنّي؟
يردّ عليهم:
لأنّي أغنّي
وقد فتّشوا صدره
فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتّشوا قلبه
فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته
فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتّشوا حزنه
فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتّشوا سجنه
فلم يجدوا غيرهم في القيود
وراء التّلال
ينام المغنّي وحيداً
وفي شهر آذار
تصعد منه الظلال
-11-
أنا الأمل والسهل والرحب – قالت لي الأرض والعشب مثل التحيّة في الفجر
هذا احتمال الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني
يريد الهواء الجليليّ أن يتكلّم عنّي، فينعس عند خديجة
يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرس ظلّ خديجة وهي تميل على نارها.
يا خديجة! إنّي رأيت .. وصدّقت رؤياي تأخذني في مداها وتأخذني في هواها.
أنا العاشق الأبديّ، السجين البديهيّ. يقتبس البرتقال اخضراري ويصبح هاجس يافا
أنا الأرض منذ عرفت خديجة
لم يعرفوني لكي يقتلوني
بوسع النبات الجليليّ أن يترعرع بين أصابع كفّي ويرسم هذا المكان الموزّع بين اجتهادي وحبّ خديجة
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر من شهر آذار حتّى رحيل الهواء عن الأرض
هذا التراب ترابي
وهذا السحاب سحابي
وهذا جبين خديجة
أنا العاشق الأبديّ – السجين البديهيّ
رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكّر..
قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكّر
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر،
لا يسأل الذاهبون إلى العمر عن عمرهم
يسألون عن الأرض: هل نهضت
طفلتي الأرض!
هل عرفوك لكي يذبحوك؟
وهل قيّدوك بأحلامنا فانحدرت إلى جرحنا في الشتاء؟
وهل عرفوك لكي يذبحوك
وهل قيّدوك بأحلامهم فارتفعت إلى حلمنا في الربيع؟
أنا الأرض..
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرض في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!
أربعة عناوين شخصية
1 - متر مربع في السجن
هو الباب، ما خلفه جنّة القلب. أشياؤنا
- كلّ شيء لنا - تتماهى. وبابٌ هو الباب،
باب الكناية، باب الحكاية. بابٌ يهذّب أيلول.
بابٌ يعيد الحقول إلى أوّل القمح.
لا باب للباب لكنني أستطيع الدخول إلى خارجي
عاشقًا ما أراه وما لا أراه.
أفي الأرض هذا الدلال وهذا الجمال ولا باب للباب?
زنزانتي لا تضيء سوى داخلي..
وسلامٌ عليّ، سلامٌ على حائط الصوت.
ألّفت عشر قصائد في مدح حريتي ههنا أو هناك.
أحبّ فتات السماء التي تتسلل من كوّة السجن مترًا من الضوء تسبح فيه الخيول،
وأشياء أمّي الصغيرة..
رائحة البنّ في ثوبها حين تفتح باب النهار لسرب الدجاج.
أحبّ الطبيعة بين الخريف وبين الشتاء،
وأبناء سجّاننا، والمجلاّت فوق الرصيف البعيد.
وألّفت عشرين أغنيةً في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيه.
حرّيتي: أن أكون كما لا يريدون لي أن أكون.
وحريتي: أن أوسّع زنزانتي: أن أواصل أغنية الباب:
بابٌ هو الباب: لا باب للباب
لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي، إلخ.. إلخ..
2 - مقعدٌ في قطار
مناديل ليست لنا.
عاشقات الثواني الأخيرة.
ضوء المحطة.
وردٌ يضلّل قلبًا يفتّش عن معطفٍ للحنان.
دموعٌ تخون الرصيف. أساطير ليست لنا.
من هنا سافروا، هل لنا من هناك لنفرح عند الوصول?
زنابق ليست لنا كي نقبّل خط الحديد.
نسافر بحثًا عن الصّفر
لكننا لا نحبّ القطارات حين تكون المحطات منفى جديدًا.
مصابيح ليست لنا كي نرى حبّنا واقفًا في انتظار الدخان.
قطارٌ سريعٌ يقصّ البحيرات.
في كل جيبٍ مفاتيح بيتٍ وصورة عائلةٍ.
كلّ أهل القطار يعودون للأهل، لكننا لا نعود إلى أي بيتٍ.
نسافر بحثًا عن الصفر كي نستعيد صواب الفراش.
نوافذ ليست لنا، والسلام علينا بكلّ اللغات.
ترى، كانت الأرض أوضح حين ركبنا الخيول القديمة?
أين الخيول، وأين عذارى الأغاني، وأين أغاني الطبيعة فينا?
بعيدٌ أنا عن بعيدي.
ما أبعد الحبّ! تصطادنا الفتيات السريعات مثل لصوص البضائع.
ننسى العناوين فوق زجاج القطارات.
نحن الذين نحبّ لعشر دقائق لا نستطيع الرجوع إلى أي بيتٍ دخلناه.
لا نستطيع عبور الصدى مرتين.
3 - حجرة العناية الفائقة
تدور بي الريح حين تضيق بي الأرض.
لا بدّ لي أن أطير وأن ألجم الريح،
لكنني آدميٌّ.. شعرت بمليون نايٍ يمزّق صدري.
تصبّبت ثلجًا وشاهدت قبري على راحتيّ.
تبعثرت فوق السرير.
تقيّأت.
غبت قليلاً عن الوعي.
متّ.
وصحت قبيل الوفاة القصيرة:
إني أحبّك، هل أدخل الموت من قدميك?
ومتّ.. ومتّ تمامًا،
فما أهدأ الموت لولا بكاؤك!
ما أهدأ الموت لولا يداك اللتان تدقّان صدري لأرجع من حيث متّ.
أحبك قبل الوفاة، وبعد الوفاة،
وبينهما لم أشاهد سوى وجه أمي.
هو القلب ضلّ قليلاً وعاد، سألت الحبيبة:
في أيّ قلبٍ أصبت? فمالت عليه وغطّت سؤإلى بدمعتها.
أيها القلب.. يا أيها القلب كيف كذبت عليّ وأوقعتني عن صهيلي?
لدينا كثير من الوقت، يا قلب، فاصمد
ليأتيك من أرض بلقيس هدهد.
بعثنا الرسائل.
قطعنا ثلاثين بحرًا وستين ساحل
وما زال في العمر وقتٌ لنشرد.
ويا أيها القلب، كيف كذبت على فرسٍ لا تملّ الرياح.
تمهّل لنكمل هذا العناق الأخير ونسجد.
تمهّل.. تمهّل لأعرف إن كنت قلبي أم صوتها وهي تصرخ:
خذني.
4 - غرفة في فندق
سلامٌ على الحب يوم يجيء،
ويوم يموت، ويوم يغيّر أصحابه في الفنادق!
هل يخسر الحبّ شيئًا? سنشرب قهوتنا في مساء الحديقة.
نروي أحاديث غربتنا في العشاء.
ونمضي إلى حجرةٍ كي نتابع بحث الغريبين عن ليلةٍ من حنانٍ، [إلخ.. إلخ..].
سننسى بقايا كلام على مقعدين،
سننسى سجائرنا، ثم يأتي سوانا ليكمل سهرتنا والدخان.
سننسى قليلاً من النوم فوق الوسادة.
يأتي سوانا ويرقد في نومنا، [إلخ.. إلخ..]
كيف كنّا نصدّق أجسادنا في الفنادق?
كيف نصدّق أسرارنا في الفنادق?
يأتي سوانا، يتابع صرختنا في الظلام الذي وحّد الجسدين،
[إلخ.. إلخ..] ولسنا سوى رقمين ينامان فوق السرير
المشاع المشاع، يقولان ما قاله عابران على الحبّ قبل قليلٍ.
ويأتي الوداع سريعًا سريعًا.
أما كان هذا اللقاء سريعًا لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى?
أما قلت هذا الكلام الإباحيّ يومًا لغيري?
أما قلت هذا الكلام الإباحيّ يومًا لغيرك في فندقٍ آخر أو هنا فوق هذا السرير?
سنمشي الخطى ذاتها كي يجيء سوانا ويمشي الخطى ذاتها..
أرجوا الإستفادة من الموضوع