أمة القرآن
أهي في احتضارها الأخير أم في مخاضها العسير?..
من اليسر على اللسان أن يسأل، و لكن، كم عسير على العقل أن يجيبه بإنصاف ، خاصة ، إن كان ممن يستحضر عين الله و أضواء الضمير الحي، لينير له طريق الحق الواحد، السائر منذ الأزل على حادة السيف، الطبائع تختلف و الميول تتجاذب ، فمن الناس، من تجد نضرته لكل ما حوله، مجرد مرآة لأعماقه، و منهم ، من تجده ، قد اختصر كل العالم في بؤرة ذاته !، و لله في خلقه شؤون !، صاف السريرة منهم لا يرى النهار إلا نهارا ، و لا يرى من بعد دجى الليل ، إلا فجرا جهارا . و من الناس ،من حنطت الغفلة عقله، و أشرب قلبه كؤوس حقد علقم إلتبس عنده الحق بالباطل، و الخير بالشر، لا يستقر رأيه على رأي . لأنه ببساطة ، لا رأي له أصلا ، إلا ما تراه نفسه ، تعلقت أفكاره بحبال الجدل ، و سكنت روحه كهوف المظالم ، نسأل الله العافية، على أية حال ، و بين الفرقين من الناس ، تاهت حقيقة الحقائق، و غاب التفسير من كل التفاسير، حول ما يجري في الشارع العربي ، مشرقا و مغربا ، البعض يرى، أن ساعة النهاية، قد حلت بهذه الأمة، و هي الآن ، تلفظ أنفاسها الأخيرة، معلنة الرحيل ، إلى ما وراء التاريخ. و أنها لا محال، ستقبر - عاجلا أم أجلا -، على هامش الجغرافية. حججهم في ذلك كثيرة ، لكن ، كلها تحوم حول نوات "ذواتهم المنكسرة " ، المنبهرة بحضارة الغرب الزائلة ، يقبعون تحت ضغطها و يتحركون بأمرها ، حالهم ، حال الشحنات السالبة ، التي تدور على محور البروتونات الموجبة ، تحكمها خاصية كثافة الذرة ، فكلما كانت عالية كلما زاد الضغط عليها ، هم قوم لا يفجرهم الغرب و - لا يفجرهم أحد سواهم - ، إلا بعد أن يثق تمام الثقة، بأنه سيكون انفجارا " ممنهجا " و تحت سيطرتهم . إن الذكي الخبيث ، لا يحدث الانفجار المدمر، إلا بعد أن يتأكد من التحكم فيه ، ثم يوظفه لصالحه طبعا، وقت ما شاء و كيفما شاء .
لكن، و من مبدأ الإنصاف، فعلى كل عاقل منصف أن يسأل: ترى، هل أصحاب هذا الطرح، مخطئون كل الخطيئة، في واقع و مصير أمة القرآن ? ، أم، حتى و إن كان عليهم ما عليهم، فهم كذلك لهم ما لهم. إن من البداهة بمكان، القول بأن مصداق كل رأي ، موقوف على صدق الحجة و سلامة السند ، " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" و على المحقق المنصف ، أن يتغلغل قدر الإمكان ، في تفكيك عناصر حجة هؤلاء المنكسرون ، المهزمون ، و نحن نصفهم بذلك ، والله على قولنا شهيد ، ليس استهتارا بهم ، فلا يحق للمرء أن يحقر أخاه ، و ليس من باب اللوم ، فلعاقل لا يلوم الضعيف عن ضعفه أو مدى قبوله لضعفه ، فمن إستكان إلى نفسه و رضي بها ، فذاك شأنه ، إنما فقط لا يقبل من أحد ، أن يعمم نضرته لنفسه عن غيره ، فمن إختصر العالم في بؤرة ذاته، كمبدأ و معيار ، - قويا كان أو ضعيفا - ، لا يحق له أن يلزم غيره بمبدئه و معياره ، لتحليل أو تفسير القضايا ، لأمر بسيط جدا ، العالم أكبر من الذات بكل المعايير.
إن موت أو انتحار فرد أو حتى ثلة من الناس ، لا يعني أبدا موت أمة كما أن ضعف و انهزام شخص أو جماعة، لا يعني احتضار أمة، لأمر يقبله العقل و يثبته الواقع، المنطق و كل الشرائع السماوية . الأمة، و رغم أنها مجرد جزء من العالم، إلا أنها، هي كذلك، أكبر من كل الأفراد.
يقول المهزمون ، المبهرون بالغرب ، لم يبقى ثمة شيء نسمه مقاومة الحضارة المعصرة ، بل قالوا ، لا مناص من الذوبان و الانصياع فيها. لأنها حضارة قوية و صلبة ، ملتهبة و ..و.. إن العاقل من الناس، إذا أرد أن يشبها شيئا بالصفاء و النقاء، فلن يجد خيرا من قطرات ماء الندى. و إن من يقول أمة القرآن ، فإنه يقصد ، هذه الشعوب الموحدة من طهران إلى فاس ، التي يجمعها كلام الله التعالى، المنزه عن كل عيب الصافي الطاهر كالماء ، المحفوظ من فوق سبع سموات ، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. إن الماء و القرآن يختلفان في الجوهر و يلتقيان في المصدر ، فهذا كلام الخالق و ذلك خلق من الخالق لكن ، كلاهما رمزا من رموز النقاوة ، الأول ، به عرفنا ربنا دون أي شوائب فكرية ، و الثاني، لوله ما كان لكائن حي وجود في الدنيا و به تطهر كل الأجسام و الأبدان . على أية حال ، يقول علماء الفيزياء، و - هم أعلم الناس بعالم المادة - ، يستحيل على من أراد أن يذيب أي مادة كانت أن يفعل، دون الاستعانة بعنصر الماء و مهما كانت صلابة أي مادة ، بل حتى - لو كان حديدا - فإن ذوبانه يحوله إلى ماءا. ألا يستخلص العاقل، من كل ما ذكر، انه مهما كانت صلابة و قوة الحضارة الغربية، فإن القرآن سيفعل بها، ما يفعله الماء بالمادة و بالنار الملتهبة...?.
حاول خلف ، في زمننا وهم من - " خيرة سلف قوم توبع"- ، الملطخة أفكارهم بالرذائل ، المتعفنة نفوسهم ، بالحقد و الضغائن ، الفصل بين القرآن ككتاب و أمته كبشر ، لعلهم يحدثون شقا بين ذلك ،حتى ينفذوا منه إلى" كهف المحبطين" و ينفذون منه خطط أسيادهم ، و على رأسها إن لم نقل أولوية ألواويتهم ، محاولة تلطيخ كيان الأمة كل الأمة و قطع حبلها الوريدي ، الذي يجمع بين أبنائها من طهران إلى فاس وذلك بعدما عجزوا من المساس بحرف واحد من الكتاب المحفوظ فقالوا لم يبقى على الأرض من يمثل القرآن حق التمثيل ، مع أن سبحانه و تعالى قال " اتقوا الله ما استطعتم" ، ولم يقل كونوا قرأنا كل القرآن على وجه الأرض . إن الوسخ القذر ، صاحب الرائحة المتنة ، لا و لن يسره و لا يرحه و لا يحبذ أن يتواجد أو يكون متواجدا أبدا ، بين أناس طاهرون تنبعث منهم روائح و عطور تنعش النفوس .
إن الله لم يوكل القرآن ، للشجر أو الحجر بحفظه ، لكن سخر له صدور بشر ، طاهرة ، نقية ، زكية ، حفظته و ستحفظه ، و إلى أبد الدهر ستبقى كذلك ، ربما يختلف في تفسير كلماته أو آياته ، و لا ريب في ذلك ، بمأن تأويله الحق الكامل لا يعلمه إلا الله وحده ، لكن لا ولن يختلف المؤمنون أبدا، على أنه كتاب الله المنزه عن كل عيب . و أمته باقية ببقائه.
بين
موقف العالم الذي دعم الظالم
و فتوى المفتي التي قتلت العالم
يأتي
دليل اللامعصومية ابن أدم
قد يتشبث المشككون ، و يتحجج المهزمون المنتهزون للفرص الانتقام من أمة القرآن ، فيقولون ، و ماذا عن فتوى العالم (عندكم) التي قتلت العالم ?، ألم يحرم مفتي الشام، البوطي رحمه الله ، الخروج عن حاكم بلده الطاغي ، ما لم يعلن كفره جهارا ?، فجاءت فتوى من غيره ، قدره معلوم و علمه مشهود، أجاز فيها، قتل كل ناصر لذاك الحاكم.? فقتل البوطي ، مأخوذ بوزر الطاغي. إن هذا الاختلاف أو الخلاف، سيأخذه أعداء أمة القرآن، كدليل، عن تشتت أمرها و علامة دنو زوالها، كما يحلمون، بل و سيخضن و يخضن...، معهود و معروف عنهم ، توقهم لالتقاط هفوات المسلمين و تضخيمها قدر المستطاع، مستعملين جميع المكبرات الممكنة ، فما بالك بأمر كهذا.!?
نقول ، نحن البسطاء من الخلق في هذا الشأن ، و الله و العلماء أعلم منا إلى يوم الدين ، و قدرهم جميعا سيبقى على رؤوسنا. نعتقد يقينا ، أن الاختلاف بين العلماء أو حتى خلافاتهم فيما بينهم دليل عن "اللامعصومية" ، أحد من البشر في شريعة، قوائمها كتاب الله وسنة نبيه المصطفى ، فمهما كان قدر عالم من العلماء، إلا أن الحقيقة المطلقة، كانت و ستبقى ، من ملك الله وحده، و لم تهدى لأحد سواه، و مهام بلغ اجتهاد مجتهد ، يبقى رأيه محصور بنيته ، و نية المرء موطنها القلب، و القلب لا يعلم ما فيه إلا الله.
البوطي رحمه الله ، و غزارة علمه، بقدره و منزلته، له اجتهاده الخاص قد يصيب فيه و قد يخطئ ، ذلك مرهون بالتوفيق من الله و نيتة الرجل ، و كمأن للقرضاوي ، مفتي العصر ، مكانته و اجتهاده ، قد يوفق و ربما لا أما نيته ، فلا يعلمها إلا الله ، لكن ، و بمأن كلهما بشريين، فلا أحد منهما يملك "الحقيقة المطلقة" . قيل أن القرضاوي استنكر مقتل البوطي !، "رد فعل غريب"، و ماذا كان ينتظر غير ذاك ?!، لعله، لم يستحضر يومها، المقولة المشهورة للملك الحبشة، و التي صارت مثلا يجرى على لسان العرب; "ليس كل الناس تفهم ما تفهم يا عمر"، أجاز قتل كل ناصر للأسد، ثم استنكر مقتل العالم!!? ، لكن الأهم ، و ما يفيدنا في هذا المقام، هو ، أليس هذا الموقف ، دليل قاطع ، على أن المعصومية ، ملك لله وحده ?
دلائل مخاض الأمة... يتبع
بقلم ن. عيسى