![]() |
|
خيمة الأدب والأُدباء مجالس أدبيّة خاصّة بجواهر اللّغة العربيّة قديما وحديثا / مساحة للاستمتاع الأدبيّ. |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() الحياة الطبيعية نهضت هيلين من نفاسها بارئة نشطة فأخذت هي و صديقتها مرغريت تعملان في أرضهما بمعونة الزنجي (دومينج) و هو رجل كهل قد نيف على الخمسين من عمره إلا انه كان في الهمة و العزيمة واسع الخبرة في شؤون الزراعة الجليلة و أساليبها ، فكان يغرس في كل ارض ما يناسبها من البذور و الأغراس ، لا يفرق بين القسمين و لا يمنح احدهما من اهتمامه و عنايته أكثر مما يمنح الآخر ، فزرع الذرة في التربة المتوسطة ، و الحنطة في الأرض الجيدة و الأرز في التربة السبخة ، و القرع و القثاء و ما أشبههما من النبات المتسلق حول الصخور و فوق رؤوس الهضاب ، و زرع البطاطا في التربة الجافة اليابسة ، و شجيرات القطن في الربوات العالية ، و قصب السكر في الأرض القوية المتينة ، و غرس على ضفة النهر حول الكوخين أشجار الموز ذات الأوراق العريضة و الأفياء الظليلة ، و لم يفته أن يزرع لنفسه بضع شجيرات من التبغ يروح بتدخينها عن نفسه هموم دهره و آلامه. و كان يذهب _ فوق ذلك _ إلى الغابات البعيدة و الأحراش النائية لاحتطاب الحطب و اجتلاب أعشاب الوقود ، و يقضي جزءا عظيما من يومه في تمهيد الأرض و تذليلها و تكسير الصخور و رصف الحصى و إنشاء الممرات و المستدقات و الجداول و الأقنية و كان يقوم بهذا العمل كله وحده راضيا مغتبطا لا أعينه عليه إلا بالرأي و الإرشاد لأنه كان يحب سيدتيه حبا جما ، و يخلص لهما إخلاصا عظيما ، و ربما كان للغرام يد خفية في ذلك النشاط الغريب المنبعث في أنحاء نفسه كما هو الشأن في أكثر حركات الناس و سكناتهم ، فانه كان مغتبطا كل الاغتباط بتلك الصلة التي نشأت بينه و بين الزنجية ((ماري)) في العمل ، و بوده لو استحالت إلى صلة أخرى غيرها أدنى إلى نفسه ، و الصق بفؤاده ، و قد تم له بعد عام واحد من اتصاله بها ما أراد ، فقد سمحت له سيدتاه بالزواج منها فبنى بها ليلة عيد ميلاد فرجيني و سعد بجوارها سعادة لا تختلف في روحها و جوهرها عن السعادة التي يهنا بها البيض المتمدينون. و كانت ماري فتاة نشطة حاذقة ذكية الذهن صناع اليد ، متحلية بكثير من الصفات الفاضلة ، و قد استفادت في مسقط رأسها ((مدغشقر)) العلم ببعض الصنائع اليدوية التي يزاولها الناس هناك ، فكانت تجيد صنع السلال من لحاء أشجار القصب و نسج المآزر و المطارف من خيوط بعض الأشجار الليفية ، و كانت تحسن القيام على خدمة المنزل و مناظرته و ترتيب أثاثه و تربية الطيور الداجنة ، و رعي الماشية ، و مزاولة الطبخ و الغسل ، فإذا فرغت من عملها حملت ما فضل عن حاجة البيت من فاكهة و حبوب _ و لم يكن بالشيء الكثير _ إلى سوق المدينة ، فباعته فيها ، ثم عادت ببضع دريهمات تعطيها لسيدتيها. أي أن المزرعة كان يعيش فيها امرأتان و طفلان و خادمان و كلب للحراسة و عنزتان للبن و بضع دجاجات للبيض ، لا أكثر من ذلك و لا أقل. و كان لا بد للسيدتين من أن تعملا عملا يعينهما على عيشهما و يروح عنهما سامة الوحدة و مللها ، فكانتا تغزلان بياض نهارهما و أحيانا سواد ليلهما على ضوء القمر ، فاستطاعتا أن تجدا رزقهما ، و لكن مقترا مكدودا ، فأكلتا الدخن و الذرة ، و شربتا الماء الزنق ، و لبستا القمص البنغالية الخشنة التي يلبسها الإماء في هذه الجزيرة ، و مشتا على الأرض حافيتين غير منتعلتين إلا في اليوم الذي كانتا تذهبان فيه إلى الكنيسة في حي ((بمبلموس)) لأداء الصلاة ، و قلما كانتا تذهبان إلى ((بور لويس)) عاصمة الجزيرة إلا في الدرجة القصوى من الضرورة حياء من نفسيهما و فرارا من أعين الساخرين و الهازئين فان فعلتا نالهما من الألم و الامتعاض ما ينغص عليهما يومهما ، و يستثير كامن حزنهما و ألمهما و لا يزال هذا القلق يساورهما حتى تعودا إلى مزرعتهما فإذا أشرفتا عليها و رأتا على بعد ، منظر خادميهما المخلصين و هما يهبطان إليهما من قمة الجبل ليساعدانهما على صعوده و تسلقه ، و شعرتا بنسيم الحرية العليل يهب عليهما و يمازج أنفاسهما ، نسيتا في هذا المعتزل المنفرد كل ما لحقهما و آلم نفسيهما من خشونة الناس و قسوتهم و فضولهم ، و كبريائهم ، و كأنما قد نبتتا في هذه البقعة بين نخيلها و أشجارها ، و لم ترى طول حياتهما بقعة سواها. و لقد عشت في كل جو و بيئة و خالطت جميع الطبقات و الأجناس و عاشرت الناس أخيارا و أشرارا ، و أعلياء ، و أدنياء ، و حضرت مواقف الحب بين المتحابين و الصداقة بين المتصادقين ، فلم أر في حياتي منظرا أجمل و لا أبهج ، و لا أحلى في العين ، و لا أوقع في النفس ، من منظر الحب و الصداقة بين هاتين السيدتين الكريمتين ، حتى كان يخيل إلي أحيانا أن نفسيهما قد استحالتا إلى نفس واحدة يحملها جسدان ، و كنت إذا حدثت إحداهما شعرت كأني احدث الأخرى معها ، و إذا حدثتهما معا كنت كأني احدث نفسا واحدة ذات صورة و لون واحد فلقد وجدت بينهما الهموم و الآلام ، و مازجت بين نفسيهما الوحدة و العزلة و الفكرة و الرأي ، و الحاجة و المصلحة ، و الذكرى المؤلمة ، و البؤس المشترك ، فنطقت كل منهما بما نطقت به الأخرى ، و شعرت بما شعرت به ، و فكرت فيما فكرت فيه ، و كان الله تعالى إذ زوى عنهما الأرض الفسيحة ذات الطول و العرض ، و حرمهما فيها نعمة العيش الهني ، أبدلهما منها بتلك الروضة الغناء من الحب و الإخلاص ، لتعيش فيها ناعمتين هانئتين ، لا تمر بسمائها غيمة ، و لا ترجف بأرضها رجفة. فإذا اضطرمت بين جوانبها في بعض الأحايين نار أقوى من نار الصداقة و اشد منها لهيبا و استعارا لا تلبث أن تهب عليها عاصفة من دينهما و تقواهما فتلوي بهما عن سبيلها و تطير بهما إلى العالم الثاني كما تتطاير الشعلة الملتهبة في جو السماء إذا فقدت مادتها التي تتغذى بها على وجه الأرض. و كان أعظم ما يؤنسهما و يروح عنهما و يمازج بين شعورهما و إحساسهما رؤية طفليهما الصغيرين بين أيديهما يمرحان و يلعبان و يعدوان و يطفران ، و ينامان في مهد واحد ، و يستحمان في إناء واحد ، و يطير كل منهما شوقا إلى صاحبه إذا فقد مكانه و غاب عن وجهه ، كأنهما أخوان شقيقان ، بل توأمان متشابهان. و كثيرا ما كانت ترضع إحداهما ولد الأخرى فتمنحه من عطفها و حنانها ما تمنح ولدها ، حتى قالت هيلين مرة لمارغريت : ((سيكون لكل منا ولدان و لكل من ولدينا أمان)). و كان اجتماع ذينك الطفلين اليتيمين على ثدي واحد بعدما فجعهما الزمان بأسرتيهما ، و حرمهما حنان أبويهما و عطفهما ، سببا في نموهما و ترعرعهما ، و سرورهما و غبطتهما ، كالصنوين الباقيين من شجرتين قد عصفت الريح بهما و بأغصانهما إذا لقح احدهما بالآخر أوراقا و أثمارا بأبهى و أجمل مما لو بقي كل منهما في مكانه. و كان يلذ لاميهما كثيرا الحديث عنهما ، و عن مستقبل حياتهما ، و عن اتصالهما بعقدة الزواج متى بلغا أشدهما ، كأنما قد بقيت في زوايا قلبيهما بقية من ذلك الألم الماضي : الم حرمانهما الهناء الزوجي الذي كانتا تتعللان به في مؤتلف حياتهما فهما تتعللان عنه برؤية ولديهما متمتعين به. إلا أن حديثهما هذا كان ينتهي أحيانا ببكائهما و نشيجهما حينما تذكران أنهما قد أساءتا إلى نفسيهما بطموح إحداهما إلى منزلة في الحياة فوق منزلتها ، و نزول الأخرى فيها إلى مقام دون مقامها ، فعاقبتهما الطبيعة على تمردهما و شذوذهما بهذا العقاب المؤلم الشديد الذي تقاسيانه و تذوقان مرارته. و لكنهما لا لتبثان أن تسمعا صوت طفليهما الصغيرين يبغيان في مهدهما ، و يتناغيان حتى تعودا إلى سكونهما و استقرارهما و تشعران ببرد العزاء يتدفق في صدريهما ، خصوصا عندما تذكران أن الهناء الذي فاتهما في ماضيهما لن يفوت ولديهما في مستقبل أيامهما ، و كانتا تقولان أنهما سيقضيان حياتهما بعيدين عن مفاسد المدنية و شرورها و تقاليدها العمياء ، و أوهامها الباطلة ، فلا ينالهما من أذاها شيء.
|
||||
![]() |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
الحياة, الطبيعية |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc