الحمدلله و الصلاة و السلام على سيدي رسول الله و آله و صحبه و من والاه
و بعد
فقد نقل المعترض على أهل السنة نقلا عن أحد المخالفين لأهل السنة ممن شانه إثبات علو ذات الله تعالى على خلقه و رأى في ذلك محالات ! و إستحالات ! و كأن علو الذات الإلهية على الخلق تُلزم بإلزامات سخيفة و نقولات ضعيفة و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
و هذا شأن الجهمية الحلولية منذ القدم : ينفون علو الله تعالى ويقولون انه في كل مكان و هاهي الجهمية المعطلة تنفي وجود الله بالكلية و تصطلح على ذلك بأنه لا داخل العالم – أي الخلق – و لا خارجه ! فنفته بالكلية و العياذ بالله حتي قيل لهم : ان وجود الله تعالى عندكم وجود معنوي لا حقيقي , و هذا فعلا هو حقيقة قولهم
قال المخالف :
(الاستواء على العرش المذكور فى جملة آيات مع خلق السموات والأرض بأن المقصود هولازم معناه ، وهو تدبير المملكة الإلهية ..الخ )
أما انه لازم معناه : فلم نسمع بذلك من النبي صلى الله عليه و سلم و لا من الصحابة و لا من التابعين , بل الذي حققناه من مذهب السلف انهم يعنون به العلو و الإرتفاع ذكر ذلك عنهم جماعة من الإمام البخاري في صحيحه و المفسر ابن جرير الطبري في آخرين ,, هذا أولا
أما ثانيا : فلا نعرف عند العرب إن اللازم مقدم على المعنى الحقيقي مطلقا , بل عندهم ان اللفظ له معنى حقيقي في نفسه و إثبات لازمه لا يعني نفي المعنى الحقيقي له
و ثالثا : قوله (فمهما فرض فى الاستقرار من نفى الكيفية فهو استقرار حاصل بعد أن لم يكن )
كلام من لا يفهم و لا يعقل : فالله تعالى أثبت أنه استوى على عرشه بعد خلق السموات و الأرض و الزعم ان هذا الإستواء حاصل بعد ان لم يكن : زعم صحيح لا ينفيه عقل و لا شرع بل من هو كمال الله تعالى فالذي يفعل أكمل ممن لا يفعل و أنتم لا تثبتون لله تعالى المشيئة و القدرة و الفعل لأن هذا عندكم يسمي حلول حوادث ! أما أهل السنة فيثبتون لله تعالى أفعاله فمنها النزول كل ليلة الى السماء الدنيا بنص حديث نبينا محمد صلى الله عليه و سلم و من أنكر ذلك فإنما ينكر كلام النبي صلى الله عليه و سلم فهو ملحد بكلام النبي صلى الله عليه و سلم و لن ينفعه تعطيله يوم القيامة
ثم قال المخالف : (
فإذا فهم من الاستواء والمعية ظاهرهما الذى هو الظرفية المكانية لزم التناقضلأن الاستقرار على العرش يمنع المعية المكانية مع أهل الأرض ، والتناقض فى كلامهتعالى محال ، ولزم اتصاف القديم جل وعلا بصفات الحوادث وهى المعية المكانية ومايتبعها وهو محال . )
و هذا من جهله لأن القائل بأن الله تعالى فوق عرشه لا يقول بأن هذا ظرفية مكانية لله تعالى بمعنى ان الله تعالى محصور و العياذ بالله في شيء من خلقه ! إنما فهم هذا الجاهل مثله فلم يعرف معتقد مخالفه بل أطنب في الكلام بغير علم و الله المستعان
ثم ان قوله ان المعية و الإستواء يلزم منها التناقض مردود و بيانه :
إن المعية الحقيقة لا تقتضي أن تكون معية بالذات في أصل وضع اللغة، فالعرب تقول مازلنانسير والقمر معنا، وهو في السماء وهذا في الأرض وتلك معية حقيقية لايلزم منها تماس ولا اختلاط.
فهذه معية حقيقة و لم تكن مستلزمة لمعية الذات هذا في المخلوقات فما بالك بالواحد القهار الذي ليس كمثله شيء ؟
ثم اندفع قائلا (رابعا : قال الله تعالى فى سورة الأنعام : ﴿ وهو الله فى السموات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ﴾ فلو فهم الاستواء بمعنى الاستقرار للزم التناقض مههذه الآية الشريفة والتناقض فى كلام الله تعالى محال . )
و هذا أيضا إنما أُتي من جهله , فإن العرب لا تفهم من هذه الآيات الشريفة ان الله تعالى بذاته في الأرض و السموات المخلوقة , و المعنى الصحيح لهذه الآيات ان الله تعالى معبود من في السموات و الأرض
قال الإمام العلامة حافظ المغرب أبو عمر ابن عبدالبر المالكي رحمه الله ( قال أبو عمر فإن احتجوا بقول الله عز وجل { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } وبقوله { وهو الله في السماوات وفي الأرض } وبقوله { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم }
الآية وزعموا أن الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى قيل لهم لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض وكذلك قال أهل العلم بالتفسير فظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش والإختلاف في ذلك بيننا فقط وأسعد الناس به من ساعده الظاهر )
ثم قال المخالف (خامسا : قال الله تعالى : ﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ﴾ .
فلو كانتعالى مستقرا على العرش لكان محمولا بالملائكة المحمولين بقدرته ، ولكانوا أقوىوأولى بتدبير الملك ، ولكان مفتقرا لمن يحمله ، وكل هذا من صفات الحوادث الفقراءالعجزة ، ولكنه تعالى قديم غنى عما سواه ، قادر لا نهاية لقدرته . )
و الجواب من وجوه :
الوجه الأول : كيف عرفتَ هذا ؟ فأنه لا يستطيع نقل حرف واحد من هذا الهذيان من الكتاب أو السنة أو بنقل صحيح عن السلف
الوجه الثاني : ان معرفة حقيقة الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه , فكيف حكمتَ بأن إستواء الله تعالى على عرشه يعني انه محمول بالملائكة ؟
الوجه الثالث : ان هذا قياس الغائب على الشاهد , و هذا ممنوع عندنا أم عندكم فالظاهر جوازه و إلا ما تفوهتَ بهذا الهراء الذي لا يقوله عاقل
الوجه الرابع : نحن نقطع يقينا ان الله تعالى هو حامل عرشه بقدرته و قوته و لم يكن هذا المعنى يناقض هذه الآيات فإن الله تعالى لا يحتاج الى عرشه بل خلقه لحكمة و استوى عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو فاتركوا عنكم التشنيع على كلام الله تعالى و اختلاق الأكاذيب و المنكرات لنفي هذا العلو الذي فطر الله عليه جميع الناس و لا يدفعه الا من انتكست فطرته و العياذ بالله
ثم قال المخالف : (أولا : بما أن الأرض كروية والسموات محيطة بها والعرش فوق السموات ، فلو كانالاستواء على العرش بمعنى الاستقرار المكانى لزم اتصافه تعالى بما لا يليق بعلوهورفعة شأنه على خلقه ولزم التغير فى صفاته تعالى وكل هذا محال للأدلة الآتية :
أ- أن أهل الأرض يفهمون أن الله تعالى فوقهم على فرض أنه تعالى مستقر علىالعرش ، ولكن إذا درات الأرض نصف يوم وجاء اليل انعكس الأمر ، فيفهمون أن رب العزةتعالى تحتهم وهو محال من وجهين : ارتفاع المخلوق على الخالق جل وعلا ، وتغير صفاتالخالق سبحانه وما أدى إلى المحال فهو محال .
ب- إن أهل الأرض فى القسم المقابليفهمون أن رب العزة تعالى ليس فوقهم بل تحتهم وهذا محال لأنه لا يصح أن الخالقتعالى فوق قوم وتحت آخرين .
فإذا درات الأرض نصف يوم انقلب حال هؤلاء فصاروايفهمون أن رب العزة تعالى فوقهم بعد أن كان فى نظرهم تحتهم والتغير فى صفات القديمتعالى محال . )
و هذا كله هراء و لا يتم له و الجواب أيضا من وجوه :
الوجه الأول: أن جهة السماء ثابتة وهي فوق . وجهة الأرض ثابتة وهي تحت ... و لاأحد عاقل يقول أن السماء الآن تحتي أو ستكون تحتي بعد زمن معين.. !! ولو قالها شخص لأتهم في عقله .
الوجه الثاني : أن الآرض تدور حول نفسها وليس حول السماء حتى تكون السماء تارة فوقها و تحتها تارة أخرى .
الوجه الثالث: قولنا ان الله تعالى في السماء لا يعني انه تعالى حال فيها بل له تعالى العلوالمطلق و هذا معلوم مشهور من كلام أهل السنة
الوجه الرابع: يلزم من هذا الكلام ان تكون الملائكة التي في السموات تحت الأرض تارة وبجانب الأرض تارة أخرى ! و معلوم انه ما من عاقل يقول ذلك
الوجه الخامس : يلزم أيضا ان يكون العرش فوق بعض الناس و تحت البعض الاخر ! و الاشاعرة يقولون بأن العرش هو اعلى الأفلاك
الوجه السادس : ان أهل الأرض لا يدور بمخيلتهم هذا الهراء المريض , فهم مفطورون على علو الله تعالى و لا يقول أي شخص منهم : يا الله , إلا و كان قلبه يطلب العلو لا يطلب سفلا و لا شمالا و لا جنوبا
الوجه السابع :الجهات الست المخلوقة هي للحيوان فإن له ستة جوانب يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرىفتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذيرجليه. وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة،فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذاما يكون تحت هذا. لكن جهة العلو والسفل للأرض و السموات لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركزهو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليهالناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية.
فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين ومايتبعهم. ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات لا يقال أنه تحت أولئك،وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه، وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه على السماء، وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أوالفلك أن الجانب الآخر تحته.
و بهذا يندفع تشنيع هذا الرجل و لله الحمد