معنى الحَسَدُ:
الحسد هو أن يرى الرجلُ لأخيه نعمة، فيتمنى أن تزول عنه، وتكون له دونه. [النهاية لابن الأثير جـ1 ص383]
كلمة الحسد في القرآن:
جاءت كلمة الحسد في القرآن الكريم بمشتقاتها المختلفة خمس مرات. [المعجم المفرس لألفاظ القرآن ص201]
الرد على من ينكر الحسد:
قال الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه-: «لا ريب أنَّ اللَّه سبحانه خَلَقَ في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص، وكيفيات مُؤَثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنَّه أمرٌ مُشَاهَد محسوس. فأنت ترى الوجه كيف يَحْمرُّ حُمْرة شديدة إذا نظر إليه من يستحي منه ويصْفر صُفْرة شديدة عند نظر من يخافه إليه.
وقد شاهد الناس من يَسْقم من النظر وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ولشدة ارتباطها بالعين يُنسبُ الفعل إليها وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح.
والأرواح مختلفة طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذًى بَيْنًا، ولهذا أمر اللَّه سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحسد في أذى المحسود أمرٌ لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابلُ المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بذلك الأفعى، فإنَّ السُّمَّ كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر في طَمْس البصر.
روى الشيخان عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اقتلوا الحيَّات، واقتلوا ذا الطفيتين -خطان أبيضان على ظهر الحية-. والأبتر، -قصير الذنب أو مقطوع الذَنَب-، فإنهما يطمسان البصر ويُسقطان الحَبَلَ -الجنينُ في بطن أمه-) [البخاري حديث 3297، ومسلم 2233، زاد المعاد لابن القيم جـ4 ص166]
أنواع الحسد:
الحسد نوعان: حسد مذموم، وحسد محمود، وسوف نتحدث عنهما بإيجاز.
أولاً: الحسد المذموم: المقصود بالحسد المذموم هو أن يرى الإنسان نعمة على إنسان آخر فيكره ذلك ويتمنى زوالها عنه وانتقالها إليه.
وهذا النوع من الحسد ذَمَّه اللَّه وحَرَّمه في كتابه وحذرنا منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة.
قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌٌ﴾ [البقرة:109].
قال ابن كثير -رحمه اللَّه-: «يحذر اللَّه تعالى عباده المؤمنين من سلوك الكفار من أهل الكتاب، ويُعْلِمُهم بعداوتهم لهم في الظاهر والباطن، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين» [تفسير ابن كثير جـ2 ص18]
وقال سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيمٌ﴾ [النساء: 54].
قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونٌَ﴾ يعني: اليهود، وقوله تعالى: ﴿ النَّاسٌَ﴾ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: «حسدوه على النبوة، وأصحابه على الإيمان به». [تفسير القرطبي جـ5 ص252]
وحذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحسد المذموم لما يترتب عليه من مفاسد في الدين والدنيا، وذلك من خلال أحاديثه الشريفة، والتي سوف نذكر بعضًا منها:
روى الشيخان عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللَّه إخوانً) [البخاري حديث 6076، ومسلم حديث 2559]
روى الترمذي عن الزبير بن العوام أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تَحْلِقُ الشعر ولكن تحلق الدين) [صحيح الترمذي 2038]
روى النسائي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد) [صحيح النسائي 2912]
مراتب الحسد المذموم:
ذكر أهل العلم مراتب للحسد المحرم، سوف نذكرها فيما يلي:
ا
لمرتبة الأولى: أن يحب الإنسان زوال النعمة عن الغير، وأن تنتقل إليه، ولذا يسعى بكافة السُّبُل المحرَّمة إلى الإساءة إليه ليحصل على مقصوده، كأن يحصل على داره، أو يجعله يطلِّق امرأته ليتزوجها، أو يكون صاحب منصب، فيحب أن يحصل عليه بدلاً من ذلك الغير. وهذه المرتبة هي الغالبة بين الحُساد.
المرتبة الثانية: أن يحب الإنسان زوال النِعْمة عن الغير، وإن كانت هذه النعمة لا تنتقل إليه، وهذه المرتبة في غاية الخُبْث ولكنها دون المرتبة الأولى.
المرتبة الثالثة: أن لا يحب الإنسان نفس هذه النعمة لنفسه، ولكنه يشتهي أن يكون لديه مثلها، فإن عجز عن الحصول على مثلها، أحب زوال هذه النعمة عن الغير كي لا يظهر التفاوت بينهما. [الإحياء للغزالي جـ3 ص298]
ثانيًا: الحسدُ المحمودُ: المقصود بالحسد المحمود هو أن يرى الإنسان نعمة على غيره، فيتمنى أن يكون له مثلها دون أن يكرهها أو يتمنَّى زوالها عن ذلك الغير. [النهاية لابن الأثير جـ1 ص383]
ويُسمى هذا النوع من الحسد المحمود بالغِبْطة أو المنافسة، ومن المعلوم أن المنافسة في عمل الخيرات وطلب الآخرة أمر حثنا عليه الله في كتابه والنبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة.
قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمٌِ﴾ [الحديد: 21]، وقال سبحانه: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونٌَ﴾ [المطففين: 26].
روى البخاري عن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل عَلَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلما أُوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يُهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أُوتيتُ مثل ما أُوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) [البخاري حديث 5026]
عمر ينافس أبا بكر الصديق -رضي الله عنهما-
روى أبو داود عن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقته يومًا. قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أبقيت لأهلك؟) قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: (يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلتُ: والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا . [صحيح أبي داود للألباني حديث 1472]
المؤمن حقًا لا يحسد أحدًا:
من صفات عباد الرحمن أنهم لا يحسدون أحدًا على نعمة أَنْعَمَ الله بها عليه.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونٌَ﴾ [الحشر: 9].
قال ابن كثير -رحمه الله-: «قوله تعالى: ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوٌ﴾ أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فَضَّلَهم الله به من المنزلة والشرف والتقدير في الذِّكر والرتبة» [تفسير ابن كثير جـ13 ص489]
العين حق:
إنَّ الحسد بالعين ثابت بالكتاب والسنة ولا ينكره إلا جاحدٍ.
معنى العين:
نظرٌ باستحسان مشوبٌ بحسد من خُبْث الطبع يحصلُ للمنظور إليه ضرر منه. [فتح الباري لابن حجر جـ10 ص210]
قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴿51ٌ﴾ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينٌَ﴾ [القلم:51-52]
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: ﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمٌْ﴾ بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل» [تفسير ابن كثير جـ14 ص102]
عن ابن عباس أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العين حق، ولو كان شيء سابق القَدَر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلو). [مسلم حديث 2188]
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوِّذ الحسن والحسين يقول: (أُعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ويقول: كان أبوكم إبراهيم يعوِّذ بهما إسماعيل وإسحاق) [البخاري حديث 3371]
عن عائشة قالت: (أَمَر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نسترقي من العين) [البخاري حديث 5738، ومسلم حديث 2195]
عن أسماء بنت عُمَيْس قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ا لي أرى أجسام بني أخي -بناء جعفر بن أبي طالب-ضارعة أي: -نحيفة- تُصيبهم الحاجة. أي: -الجوع-. قالت: لا، ولكن العين تسرعُ إليهم. قال: ارقيهم) [مسلم حديث 2198]
مقارنة بين الحاسد والعائن:
«
الحاسد والعائن يشتركان في الأثر، وهو أنَّ كل منهما يقع منه الضرر، ويختلفان في الوسيلة، فالعائن مصدر حسده العين، والحاسد مصدر حسده القلب حيث يتمنى زوال النعمة عن الغير». [بدائع الفوائد لابن القيم جـ2 ص231]
كيف تؤثر العين في المحسود ؟
قال ابن القيم -رحمه الله-: قالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعث من عينيه قوة سُمْيَّة تصل المَعِين أي: -المحسود- فيتضرر.
قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر انبعاث قوة سُميَّة من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها
على الإنسان هلك، فكذلك العائن. وقالت فرقة أخرى: لا يُستبعدُ أن ينبعث من عيون بعض الناس، جواهر لطيفة، غير مرئية فتصل المَعِين وتتخلل مسام جسمه فيحصل له الضرر. [زاد المعاد جـ4 ص165، 166
منقول