في عالمنا الإسلامي اليوم، ترتفع شعارات وتسود مقولات وتشيع مفردات ومصطلحات، يختلط فيها القومي بالعرقي. والسياسي بالعقائدي والفكري بالسلوكي، وتتداخل فيها حدود الانتماء الديني والمذهبي والقومي مع الانتماء السياسي الملكي والجمهوري والدستوري، وتضيع في ظل هذا التداخل وذلك الاختلاط الفوارق بين القوم والأمة والقبيلة والشعب والوطن. ولعل أبرز صورتين معاصرتين لهذا الضياع هما: عبارة سعد زغلول في مصر “الدين لله والوطن للجميع¨، وشعار زكي الأرسوزي منظر القومية: “أمة عربية واحدة¨ ففي الأولى وضع المواطنة قبل الدين بالنسبة للحياة العامة، والثانية تخلط بين الأمة والقوم فهناك قومية عربية أو تركية أو فارسية، وهناك أمة محمدية أو أتاتوركية أو ماركسية. فالقومية لسان والأمة سلوك وعقيدة.
هذه الشعارات والمقولات والمصطلحات ليست جديدة وضعها الفكر المعاصر كلها لأول مرة، فمعظمها نجده في كتب التراث، وبعضها نجد أصلاً له في التنزيل الحكيم جرى توظيفه بعد ليّـه لمقاصد سلطوية سياسية حيناً، أو لأهداف مذهبية وقومية وعرقية حيناً آخر.
قلة من الذين كتبوا في الفكر الإسلامي، ونقدوا العقل العربي والإسلامي، تعرضوا لهذه الشعارات والمقولات والمفردات بالدراسة والتحليل. منهم من أعرض عنها ترفعاً فجاءت كتبه لصفوة أكاديمية منتقاة تسكن في أبراج بعيدة عن الواقع المعاش عند باقي الناس في الحارات، ومنهم من تجاهلها تقية خوفاً من سياط النقد، أو من قرارات المنع في هذا البلد أو ذاك، أو من تكفير أصحاب المنابر له على منابرهم، ناهيك عن سيل من كتب تطوير الخطاب الديني وتجديد الفقه الإسلامي وندوات تقريب المذاهب والأديان رأيناها تغرق عالمنا العربي الإسلامي في مشرقه ومغربه بعد أحداث 11 أيلول، يحاول أصحابها “تلميع¨ صورتهم أمام الحضارة والديموقراطية في عواصم الغرب، واضعين القواعد والأسس للخطاب معهم وكأن العرب من أبناء الأمة الإسلامية لايحتاج خطاب بعضهم بعضاً لأي تطوير، يمارسون بكل صفاقة أبشع أنواع تحريف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم من بعد مواضعه، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، كالوسطية والتحريف والتجديف والإفراط والتفريط، وصياغة العبارات بدقة مدهشة بشكل تحمل معنى الشيء وضده في آن معاً.
يقول أحدهم في كتاب له عن تجديد الفقه الإسلامي تحت عنوان التشريع والعقل: “أما في الإسلام فلا يعد العقل مصدراً من مصادر الفقه..¨. وهذا لعب مفضوح على الألفاظ مدروس بعناية. صحيح بديهةً أن الله هو الذي صاغ تنزيله الحكيم كمصدر للمعرفة وللتشريع، صياغة ليس فيها دور إنشائي للعقل الإنساني، لكن العقل الإنساني هو المصدر الوحيد لفقه وفهم هذا التنزيل. والكاتب في حقيقة الأمر لايهمه التشريع ولا العقل ولا التنزيل، مايهمه هو ألا يُتهم بالاعتزال.
كان لابد من هذه المقدمة قبل أن نبدأ الكلام عن الولاء والبراء، أحد تلك الشعارات. ويبقى أن نوضح أن الموضوع شائك ومعقد وحساس لايكفي قول في سطور للإحاطة به، كتب فيه عديد من أنصاره سنحاول هنا ألا نكون منهم، رغم مانقتبسه أحياناً من كتبهم، وكتب فيه عديد من خصومه سنحاول هنا ألا نقلدهم رغم ماقد نستعين به أحياناً من عباراتهم. ولانزعم أننا وفيناه حقه من جميع جوانبه فذلك يحتاج في رأينا إلى أكثر من بضعة سطور، يعمل عليه فريق من المختصين بجملة علوم أبرزها: التاريخ واللغة وعلم الاجتماع والفقه والتفسير. لكن إشعال شمعة واحدة يبقى أنفع من لعن العتمة، وكتابة صفحة واحدة نسمي فيها الأشياء بأسمائها أجدى من مجلدات تغرق في التورية وتحكمها الكنايات والتشابيه.
الولاء:
الواو واللام والياء أصل صحيح في اللسان العربي ومفردة قرآنية من الأضداد وردت مشتقاتها في 217 موضعاً من التنزيل الحكيم أولها في قوله تعالى {ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} البقرة 64. وآخرها في قوله تعالى {أرأيت إن كذب وتولى} العلق 13. ومنه الولي والمولى والولاية والتولي والموالاة. وفي كل هذه المواضع لاتخرج عن أحد معنيين: الإقبال بالإتباع، والترك بالإعراض. أما في الأول فيقول تعالى:
ـ {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} المائدة 56.
ـ {ولكل وجهة هو مولّيها..} البقرة 148.
ـ {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله..} البقرة 115.
وأما في الثاني فيقول تعالى:
ـ {سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها..} البقرة 142.
ـ {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا} الإسراء 46.
ـ {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} آل عمران 64.
والولي والمولى هو السيد المُتَبَعُ، وهو التابع المطيع الموافق لأوامر ونواهي سيده. أما في الأول فيقول تعالى:
ـ {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} البقرة 257.
ـ {ومالكم من دون الله من أولياء ثم لاتنصرون} هود 113.
ـ {إن وليي الله الذي نزل اكتاب وهو يتولى الصالحين} الأعراف 196.
وأما في الثاني فيقول تعالى:
ـ {ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون} يونس 62.
ـ {ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} مريم 45.
ـ {وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} الأنعام 128.
تلك هي الحدود اللغوية للولاء، سواء في الجانب الشكلي بالاشتقاق أم في جانب المضمون بالدلالة والمعنى. لكن هذا الولاء أخذ عند البعض معنى اصطلاحياً، تحول معه من مفردة عربية قرآنية إلى مصطلح فقهي. وتواكب هذا التحول مع تحولات في الدلالة والمعنى لمصطلحات أخرى مثل: “العلماء¨ و”الأولياء¨ و”أولي الأمر¨ و”الحرابة¨ و”الردة¨ و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر¨ متأثرة حيناً ومؤثرة حيناً آخر بولادة معان جديدة لم تكن موجودة قبلاً مثل: “الفقه¨ و”العصمة¨ و”التقية¨، حتى ليصعب ـ إن لم نقل يستحيل ـ الجزم تحديداً بمعيار التراتبية التاريخية أيها كان البيضة وأيها صار الدجاجة.
قلنا أن الولاء من ألفاظ الأضداد في اللسان، فهو إما إقبال وإتباع أو ترك وإعراض، ولابد كي نفهم معنى الولاء في وجهيه من أن نجيب على أسئلة هامة مثل: إتباع ماذا؟ وترك ماذا؟ وهل الولاء ـ إتباعاً وتركاً ـ موقف فكري نظري؟ أم هو موقف سلوكي عملي؟ وهل هو فردي أم جماعاتي، أم هو للفرد والجماعة في آن معاً؟ وهل هو سلوك بمعنى أنه فعل وعمل، أم هو ناظم يحكم السلوك عند الفرد والجماعة؟ فإن كان بوصلة يهتدى بها، فهل هي من وضع الله تعالى أم من وضع الفقهاء الذين حولوا الولاء إلى مصطلح؟ وإن كان الولاء سلوكاً أو ناظم سلوك عند الجماعة، فهل هو كذلك على مستوى القوم والأمة والشعب والقبيلة؟ وهل يحكم الولاء التعارف الذي جعله الله هدفاً إلهياً في قوله تعالى {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13؟ أم أن التعارف يحكم الولاء؟.
نستهل بالقول إن الولاء علاقة إنسانية اجتماعية، تبدأ عند الفرد فكراً نظرياً حين يقرر أن يتخذ لنفسه ولياً متّبَعَاً يقلده في كل مايفعل ويأتم به في كل مايعمل، وهذا معنى قوله تعالى {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات..} البقرة 148، ثم تصبح سلوكاً عملياً يجسد ذلك الفكر النظري، فإن أصبح الولي المتبع واحداً عند جماعة من الناس وتوحدت عندهم الوجهة، حسب تعبير آية البقرة 148، وتجانس السلوك صار الولاء جماعاتياً وأصبح اسم هذه الجماعة في التنزيل الحكيم “أمة¨، يقول تعالى:
ـ {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..} آل عمران 110، والواضح أن تجانس السلوك الذي جعل من المخاطبين بالآية أمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
ـ {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا..} يونس 19، والاختلاف هنا اختلاف تغاير في الفكر والسلوك، وليس اختلاف تنازع وتصادم.
ـ {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون..} القصص 23، والأمة في الآية هي مجموعة الرعاة الذين وحّد بينهم سلوك واحد هو السقاية.
ـ {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..} الأنعام 38.
ـ {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والأنس..} الأعراف 38. والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أن وحدة السلوك يمكن أن تجمع بين مجموعات من الإنس والجن والدواب والطيور فتكون كل مجموعة منها أمة.
ـ {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وماكان من المشركين} النحل 120 ـ 123.
هذه الآيات الأربع ترسم لنا صورة إمام واجب الإتباع هو إبراهيم، له طريقة في السلوك تفرد بها، تجسدت في أربع مميزات: القنوت لله، والحنيفية عموماً، والحنيفية عن الشرك خصوصاً، والشكر لنعم الله، والاهتداء لصراطه المستقيم. ونزل الأمر الإلهي وحياً على قلب محمد (ص) بإتباعه في طريقته السلوكية. وإنما قلنا “إمام¨ بدلالة قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً..} البقرة 124، وأما التفرد في السلوك ففي قوله تعالى (كان أمة)، فالأمة كما تعني مجموعة أفراد جمعتهم وحدة سلوكية واعية، فإنها تعني النهج والمسار والطريقة بدلالة قوله تعالى {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} الزخرف 22. وأما قولنا “واجب الإتباع¨ فبدلالة قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم}. ونلاحظ في الآيات أنه سبحانه ذكر محل الإتباع مرتين وحصره في الحنيفية وفي ترك الشرك، ليؤكد على أهمية تحديد موضع الولاء حين نلتزم به أو نلزم به الآخرين. وأمتنا الآن هي أقل الأمم حنيفية على سطح المعمورة وبالتالي فهي أقرب للشرك من بقية الأمم لأنه كلما زادت الحنيفية عند الإنسان بعد عن الشرك.
إن تحديد موضع الولاء ومحله للإجابة على سؤال مثل: الولاء في ماذا؟، هو الأساس في فهم قوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} المائدة 55. والآية تقرر أمراً بصيغة الإخبار يطلب من المخاطبين الولاء لله بطاعته وإتباع مايدعوهم إليه وترك ماينهاهم عنه، والولاء لرسوله بالتصديق والتأسي به كما تأسّى هو بإبراهيم (ع)، وطاعة مايأتيه من ربه، ثم يطلب منهم الولاء بالإتباع والتأييد والمؤازرة لفئة هي فئة الذين آمنوا تتميز بسلوكيات ثلاثة: الإيمان بالله قانتين راكعين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. ونلاحظ أن الطاعة دخلت في مفهوم الولاء بوجهيه، أي الطاعة في الإقبال والإتباع والطاعة في الإعراض والترك، وذلك بدلالة قوله تعالى {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} النساء 59. وانظر في هذه المقارنة بين آيتي المائدة 55 والنساء 59:
المائدة 55: {وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}.
النساء 59: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر}.
والمتأمل في هذه المقارنة يرى بكل وضوح أن أولي الأمر هم ذاتهم الذين آمنوا، والذين أمرنا تعالى بتوليهم وإتباعهم في الإيمان وفي إقامة الصلاة وفي إيتاء الزكاة، هكذا نفهم (ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم) لأن الشعائر عندهم تختلف عن شعائر الذين آمنوا. وأن الذين نتولاهم لاعلاقة لهم مطلقاً بالحكام من أمراء وسلاطين ولا بأهل الحل والعقد. إنه معنى جديد لأولي الأمر اصطلح عليه الفقهاء، خدمة لسلاطينهم، يمنحونهم به غطاءً شرعياً يضمن حكمهم الفردي واستبدادهم السياسي حتى إن كانوا غاصبين. وهذا نموذج من نماذج المفردات التي تحولت إلى مصطلحات في عملية تحريف من نوع خاص أشار إليها تعالى بقوله {..ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه}. المائدة 41. وهذا هو تحريف الدلالة بتبديل المعنى مع الإبقاء على المفردة كما هي لفظاً وحروفاً. أما إن استهدف التبديل الألفاظ ذاتها طبقاً لقوله تعالى {فمن بدله من بعد ماسمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه..} البقرة 187، فهذا تحريف من نوع آخر أشار إليه تعالى بقوله {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} المائدة 13. هكذا يتضح الفرق بين تحريف الكلام عن مواضعه وتحريف الكلام من بعد مواضعه.
قلنا في تعريف الولاء إنه “علاقة إنسانية اجتماعية¨. فأما قولنا “اجتماعية¨ فيعني أن الإنسان المنفرد في جزيرة معزولة لايحتاج إلى الولاء، إذ لابد فيه من ولي ومولى. فإن صاح بنا مستنكر من أنصاف المثقفين ـ وهم كثر ـ إن ولاية الله تنسحب حتى على المنفردين بأنفسهم في الصوامع والسراديب باعتباره خالقهم. قلنا: أولاً تلك علاقة أخرى بين المخلوق وخالقه لاينكرها إلا المجرمون. ثانياً، هذا خلط خطير في أسماء الله الحسنى، شاع في أوساط عوام الأمة الإسلامية، حتى صاروا يسمون أبناءهم: عبد الدائم، وعبد الموجود، وعبد المولى، وغيرها من صفات وصف تعالى بها نفسه في التنزيل الحكيم لكنها ليست من الأسماء الحسنى التي من بينها “الخالق¨. ثالثاً، حين يسمي سبحانه نفسه بالولي والمولى فهو يخص بولايته صراحة الذين آمنوا به من جانب ويحدد محل هذه الولاية ومجالها من جانب آخر. وهذان الجانبان يبدوان واضحين في قوله تعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات..} البقرة 257. أما الخالق، فهو ولي كل الناس بالخلق مؤمنهم وكافرهم.
وأما قولنا “إنسانية¨، فيعني أنها علاقة عقلانية، إن غاب عنها الجانب العقلي تحولت إلى تقليد غريزي غير واعٍ، عادت معه الجماعات الإنسانية لتصبح أسراب طيور تتبع إمامها أينما ذهب، وقطيع بقر يلحق قائده كيفما توجه. ومن هنا تأتي ضرورة تحديد محل الولاء ومجاله في الإجابة على سؤال مثل: الولاء بماذا؟ a suivre