فالبدع الحسنة: متفق على جواز فعلها، والاستحباب لها، ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي.
وقد عرَّفَ أبو شامة البدعة الحسنة في آخر كلامه كما ترى، وقوله: (متفق على جوازه) يعني به من يُقبلُ قولهُ في الإجماع، فخرج بذلك من يُرَدُّ قولُهُ كابن تيمية ومن على منهجه، فلا مسوِّغَ لمن ناقضَ هذا القول؛ لأنه خرقٌ لإجماع الأمة، وخرقُ الإجماع حرام.
7 ـ تعريف الإمام ابن الأثير:
قال ابن الأثير رحمه الله: البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح، ومالم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها.. وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثَّل للبدعة الحسنة بقول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة ثم قال: وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وقوله: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: كل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة.
8 ـ تعريف الإمام الحافظ محيي الدين النووي رحمه الله المتوفى سنة 676هـ.
بَدَعَ : البدعة، بكسر الباء، في الشرع هي إحداث مالم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته، أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام رحمه الله ورضي عنه في آخر كتاب القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة.وللبدع الواجبة أمثلة ثم ساق كلام الإمام العز كاملاً كما تقدم.ثم قال: وروى الــبــيــهقـي بــإسـناده فــي مـناقب الـشـافعـي عن الــشـافعي رضي الله عنه قال: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدع الضلالة. والثانية ماأحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من العلماء وهذه محدثة غير مذمومة. وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى. هذا آخر كلام الــشـافعي رضي الله تــعالى عنه.
9ـ تعريف الحافظ الفقيه بدر الدين العيني رحمه الله المتوفى سنة885هـ.
قال الإمام العيني في عمدة القاري: البدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم البدعة على نوعين إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة. وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة.
10 ـ تعريف الإمام السبكي:
قـال الـسـبــكي : الــبــدعــة فـي الــشــرع إنمــا يــراد بــها الأمــر الحــادث الــذي لا أصــل لــه فــي الـشــرع، وقــد يـطــلق مـقيــداً، فـيــقال: بــدعة هــدى، وبـــدعة ضــلالة. انتهى.
11ـ تعريف الإمام الكرماني:
قال الكرماني في شرحه للبخاري: البدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وهي خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة. وحديث »كل بدعة ضلالة« من العام المخصوص.
12 ـ تعريف الشيخ عبدالحق الدهلوي:
قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في شرح المشكاة: اعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة.
13 ـ تعريف ابن تيمية:
ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى تعريفاً للبدعة فقال: وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لا يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة.
وهذا التعريف ليس جامعاً ولا مانعاً ولا منضبطاً وليس فيه من البيان شيء ولا من فهم النصوص ما يدل على عمق قائله،فقد علمت التعاريف اللغوية للبدعة والتعاريف الشرعية، فأصبح من الواضح لديك بطلان هذا التعريف جملة وتفصيلاً، وانتقاده حداً ومعنى، وبناء على ركاكة هذا التعريف أخفق ابن تيمية الحراني في تأويل قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هي، وسيأتي بيان ذلك في موضعه.
14 ـ تعريف السيد المحدِّث عبدالله بن الصدِّيق الغماري:
قال رحمه الله: البدعة الحسنة ما كانت على غير مثال سابق ولها أصل. وقال في موضع آخر: البدعة الحسنة هي التي توافق أصول الشرع وإن كانت محدثة باعتبار شخصها، فهي مشروعة باعتبار نوعها لدخولها في قاعدة شرعية أو عموم آية أو حديث، ولهذا سميت حسنة. اهـ.
قلت: والتعريف جامع إلا أنه غير مانع،ولعلَّ أقربَ التعاريف إلى الصواب على ما نراه، هو ما سُقناه من كلام الإمام الغزالي والإمام السبكي رحمهما الله تعالى، فهذه التعاريف مؤيدة بالكتاب والسنة، كما ستعرفه في هذا الكتاب.
وأستنتج بعد هذا كله وأستخلص من ذلك تعريفاً أراه جامعاً مانعاً يفي بالغرض، فأقول: البدعة الحسنة: هي إظهار صورة مخصوصة لحالة مخصوصة ألحَّت الدواعي على إبرازها بالقياس الصحيح.
معنى البدعة في القرآن الكريم
جاء ذكر مادة (بدع) في القرآن الكريم، وذلك في أربعة مواضع:
الموضع الأول والثاني: قال الله تعالى: {بديع السموات والأرض} [البقرة:117]، [الأنعام:59].
الموضع الثالث: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} [الأحقاف:9].
الموضع الرابع: قال الله تعالى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد:27].
الموضعان الأول والثاني: قال ابن منظور: البديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء، وهو الذي بدع الخلق، أي بدأه كما قال سبحانه: بديع السماوات والأرض أي خالقها ومبدعها. انتهى.
الموضع الثالث: قال الخليل: البدع: الشيء الذي يكون أولاً في كل أمر كما قال تعالى: قل ما كنت بدعاً من الرسل أي لست بأول مرسل. انتهى.
فمعنى البدعة في المواضع الثلاثة واحد، وهي البدعة اللغوية.
وأما الموضع الرابع؛ فإن البدعة المذكورة فيه إنما هي البدعة الشرعية التي تعنينا هنا، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر عن بني إسرائيل أنهم ابتدعوا في أمر دينهم مالم يكتبه عليهم، وهذا هو الابتداع الشرعي الذي هو مجال بحثنا ونقاشنا. فلنقف على هذه الآية ولننظر فيها بشيء من التأمل و التفكر، لنرى مدلولها في تحسين فعلهم أوتقبيحه، وبعبارة أخرى لنرى إن كان الله سبحانه وتعالى قد رضي منهم هذه البدعة وأثابهم عليها، أم ردها عليهم وذمهم بها.
فنقول وبالله التوفيق: لقد ذهب عامة المفسرين إلى أن الله سبحانه وتعالى قد رضي منهم هذه البدعة، وأمرهم بالدوام عليها وعدم تركها، وجعلها في حقهم كالنذر الذي من ألزم نفسه به فعليه القيام به، وعدم تركه والتهاون فيه. فمن نذر نذراً ما، ولم يوف به فإنه لا يلام على أن نذر هذا النذر، وإنما يلام على عدم الوفاء به.
وكذلك هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة الرهبانية لم يذمهم الله سبحانه على ابتداعها؛ كما قال الفخر الرازي: لم يعنِ الله بابتدعوها طريقة الذم، بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها، ولذلك قال تعالى بعده: ما كتبناها عليهم.
وقال العلامة الآلوسي: »يعلم منه أيضاً سبب ابتداع الرهبانية، وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقاً، والذي تدل عليه ظاهراً ذم عدم رعاية ما التزموه« انتهى.
فغاية ما تفيده الآية في ذلك النص على أن الرهبانية إنما هي محض بدعة من عند أنفسهم لم يكتبها الله عليهم، دون تلميح من قريب أو بعيد إلى أن الله سبحانه وتعالى قد ذمهم على هذا الابتداع، بل على العكس من ذلك قد يلمح من سياق الآية ما يدل على امتداحهم على هذه البدعة، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: من قوله تعالى: ...إلا ابتغاء رضوان الله حيث نص على صحة قصدهم من هذه البدعة وإخلاصهم فيها. قال الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: "وإنما عطفت هذه الجملة على جملة وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفضائل المراد بها رضوان الله، والمعنى: وابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناها لهم، ولكنهم ابتغوا بها رضوان الله، فقبلها الله منهم؛ لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم"
والوجه الثاني: من قوله تعالى: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم... فهذا نص من الله سبحانه وتعالى على أنه قد أثاب الذين رعوها حق رعايتها وأثابهم أجرهم، وهذا دليل قبول منهم ورضاً بفعلهم. قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم؛ قال: فدل بذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحق الأجر الذي قال جل ثناؤه فيه: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم إلا أن الذين لم يرعوها حق رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم ، وا لمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب".
وقوله: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة، وكثير منهم أهل معاصٍ وخروج عن طاعته، والإيمان به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
فبهذا يعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يذمهم على الابتداع ولم يرد بدعتهم عليهم، بل قد رضيها منهم ومدحهم عليها.
وإنما ذمهم الله سبحانه وتعالى على عدم رعاية ما ابتدعوا وعدم القيام بحقه، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى (264/17): "وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية، وعن أبي أمامة الباهلي -واسمه صدي بن عجلان- قال: » أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعاً لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ".
وخلاصة القول في هذه الآية ما حكاه السيد العلامة عبد الله بن صديق الغماري في كتابه (إتقان الصنعة):
فقوله تعالى: ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها قد استنبط العلماء من هذه الآية مجموعة من الأحكام منها:
إحداث النصارى لبدعة الرهبانية من عند أنفسهم.
عدم اعتراض القرآن على هذا الإحداث، فليس في الآية - كما قال الرازي والألوسي - ما يدل على ذم البدعة.
لوم القرآن لهم بسبب عدم محافظتهم على هذه البدعة الحسنة: فما رعوها حق رعايتها واللوم غير متجه للجميع، على تقدير أن فيهم من رعاها كما قال ابن زيد، وغير متوجه لمحدثي البدعة كما قال الضحاك، بل متوجه إلى خلفهم كما قال عطاء«.
ومن خلال هذا التحقيق يتبين لنا خطأ ما ذهب إليه الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره (6/567- 568) حيث قال: "وقوله تعالى: إلا ابتغاء رضوان الله أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.".
فإنه بذلك قد خالف جمهور المفسرين كما تبين لنا، وقد حمَّل النص القرآني ما لا يحتمل، بل إن من أوضح ما يدل على صحة ما ذهبنا إليه، وعلى بطلان قوله، ما ذكره هو نفسه من الأحاديث المفسِّرة للآية بعد قوله السابق؛ كالحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، وقواه ابن كثير نفسه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله، قال: هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، لم ينج منها إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال، ولم تكن تطيق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكر الله تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
فهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الفرقة التي ابتدعت الرهبانية ورعتها حق رعايتها هي إحدى الفرق الثلاث الناجية من بني إسرائيل، وإنما نجوا ببدعتهم التي ابتدعوها ورعوها حق رعايتها.
ومثله في الدلالة على ما أردنا من بطلان قول ابن كثير وصحة قول الجمهور، مارواه النسائي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت ملوك بعد عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بدّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة قيل لملوكهم :ما نجد شتماً أشدّ من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهؤلاء الآيات مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم. فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها. فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البُقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم. وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم. قال: ففعلوا ذلك فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها والآخرون قالوا: نتعبَّدُ كما تَعَبَّدَ فُلاَنٌ، وَنَسيحُ كما ساح فُلاَنٌ، وَنَتَّخذُ دُوراً كما اتَّخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا به، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، انحط رجلٌ من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدَّقُوه، فقال الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال: يجعل لكم نوراً تمشون به؛ القرآن، واتبِّاعَهُم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لئلا يعلم أهل الكتاب، يتشبهون بكم، أن لا يقدرون على شيء من فضل الله الآية.
ومن هنا يتبين لنا قطعاً بطلان قول ابن كثير رحمه الله ومن سلك مسلكه، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يذمهم على ابتداع الرهبانية، وإنما امتدحهم بها ورضيها منهم؛ فتكون هذه الآية نصاً قرآنياً عظيماً في إثبات البدعة الحسنة. والله تعالى أعلم.
اعتراضات الشاطبي:
اعترض الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الاعتصام على الاستدلال بهذه الآية على جواز إحداث البدعة بـ:
الاعتراض الأول: أن الآية لا يتعلق منها حكم بهذه الأمة،لأن الرهبانية نسخت في الشريعة الإسلامية فلا رهبانية في الإسلام.
والجواب ـ كما نقل هو عن ابن العربي ـ أن معنى الرهبانية في الآية يدل على ثلاثة معان:
1ـ رفض النساء.
2ـ اتخاذ الصوامع للعزلة.
3ـ سياحتهم في الأرض.
والمنسوخ في ديننا هو المعنى الأول، أما الثاني والثالث فمستحب عند فساد الزمان.لما جــاء عن أبـي ســعـيــد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن).
وهذا الحديث يفيد الإقرار بالعمل بهذه الآية في المعنيين الأخيرين، ويكون منزلته هنا من القرآن البيان والتوضيح: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44].
وانعقد الإجماع على أننا مكلفون بما علمنا من شريعتنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وأمرنا في شريعتنا بمثله.
الاعتراض الثاني: أن البدعة في الآية ليست بدعة حقيقية وإنما هي بدعة إضافية، لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق، بل لأنهم أخلوا بشرطها، وهو الإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
والجواب: أنه ليس في الآية ـ كما تقدم ـ ما يدل على ذم البدعة، أو ذم المبتدعين لها، بل الذم متوجه لجمهور الخلف الذين لم يرعوها حق رعايتها، أو متوجه للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم، كما قــال ابن عــبــاس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره.
و أن الإيمان لم يأت كشرط لإحداث البدعة، لأنها حدثت قبل بعثة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فليست شرطاً لمن عمل بها قبل البعثة.
و أن الإيمان والاتباع جاء شرطاً في الحصول على أجر البدعة لمن حضر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يبق منهم إلا القليل؛ انحط صاحب الصومعة من صومعته، وجاء السائح من سياحته،وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه فقال الله تعالى لمن آمن: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته.
الاعتراض الثالث: أنه لو كانت البدعة في هذه الآية حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه، لأن هذه حقيقة البدعة، أي هي الفعل المخالف للشرع.
والجواب: أن كلامه هذا مبني على تعريفه للبدعة الذي لم يسلمه له العلماء، فهو دليل غير مسلم.