بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يُعدّ التوحيد الأساسَ الأعظم الذي قامت عليه الرسالات السماوية، وهو الميزان الذي تُقاس به الأعمال والتصورات والمواقف. وقد تنوّعت الأساليب القرآنية في ترسيخ هذا الأصل، فجاءت أحيانًا عبر التشريع، وأحيانًا عبر القصص، ومن أبلغ تلك النماذج ما ورد في قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام، حيث عُرضت من خلاله صورة دقيقة للعناية بالتوحيد والحرص عليه، في سياقٍ تربويٍّ عميق الدلالة.
أولًا: السياق القرآني ودلالته العقدية
ورد ذكر الهدهد في سورة النمل ضمن سياقٍ يتناول مظاهر الملك والتمكين، ثم ينتقل فجأة إلى قضية عقدية محورية، حين قال تعالى على لسانه:
﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [النمل: 23–24].
ويُلاحظ أن النص القرآني قدّم وصف الواقع السياسي والحضاري قبل الإشارة إلى الخلل العقدي، وهو ترتيب مقصود يدل على أن التقدم المادي أو التنظيمي لا يُغني عن سلامة المعتقد، ولا يُعدّ معيارًا للحكم على الاستقامة العقدية.
ثانيًا: الغيرة على التوحيد بوصفها وعيًا معرفيًا
يبرز في خطاب الهدهد بعدٌ معرفيٌّ واضح، حيث لم يقتصر على نقل الخبر، بل قدّم تعليلًا عقديًا دقيقًا، حين قال:
﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النمل: 25].
وهذا التعليل يكشف أن الغيرة على التوحيد في هذا النموذج القرآني ليست انفعالًا مجردًا، وإنما هي ثمرة إدراكٍ لعظمة الله، وربطٍ بين صفات الربوبية واستحقاق العبادة. وهو ما ينسجم مع القاعدة الأصولية التي تقرر أن العلم أصل العمل، والبصيرة شرط الإصلاح.
ثالثًا: البعد التربوي في الموقف
لم يقف الهدهد عند حدود الملاحظة أو الوصف، بل نقل ما رآه إلى نبي الله سليمان عليه السلام، في صورة بلاغٍ منضبط، خالٍ من التهويل أو التجريح، مما أسهم في فتح بابٍ للهداية وتصحيح المسار العقدي لقوم سبأ.
ويُستفاد من ذلك أن العناية بالتوحيد في المنهج القرآني تقوم على:
• التشخيص الدقيق للواقع
• البيان الواضح للمشكلة
• إيصال المعلومة إلى الجهة القادرة على المعالجة
وهو منهج إصلاحي قائم على الحكمة والتدرج.
قال ابن القيم رحمه الله:
“الغيرة المحمودة هي التي تحمل صاحبها على حفظ حدود الله، مع العلم والحكمة”.
رابعًا: دلالات النموذج في الواقع المعاصر
تُبرز قصة الهدهد أن الغيرة على التوحيد قيمة تربوية أصيلة، تتطلب وعيًا علميًا، وفهمًا للسياقات، وقدرة على التعبير الرشيد. كما تؤكد أن الإصلاح العقدي لا ينفصل عن الأسلوب، ولا يتحقق إلا عبر الجمع بين المعرفة والبلاغ الحكيم.
ومن هنا، فإن استحضار هذا النموذج القرآني يعين على ترسيخ منهج متوازن في تناول قضايا العقيدة، بعيدًا عن الإفراط أو التفريط، ومبنيًّا على الفهم، والحجة، والبيان.
خاتمة
إن الهدهد في القرآن ليس مجرد عنصر قصصي، بل نموذج دلالي غني، يعكس أهمية العناية بالتوحيد، ويؤكد أن الغيرة عليه تقوم على البصيرة، لا على الانفعال، وعلى الإصلاح الهادئ، لا على ردود الأفعال.
وبذلك يقدّم القرآن نموذجًا تربويًا متكاملًا، يربط بين سلامة المعتقد، ورشد الخطاب، وحكمة المسار، في معالجة أعظم القضايا وأجلّها: قضية التوحيد.