في وسط المدينة والريف والجامعة ودور العبادة، الجميع يحمل هاتفه الذكي المزود بكاميرا متطورة عالية الدقة أو هاتفه الغبي -لكن الكاميرا متطورة وعالية الدقة- ليصور أقصى لحظات سعادته وعمق مأساته، لحظاته العابرة، ورقة شجر على كرسي في المحطة، او ربما صفحة من كتاب فلسفي لم يقرأ غيرها.. ظاهرة تفريغ الذكريات من العقول وتعبئتها في الهواتف بالتقاط الصور، لنقل "هوس الصورة" ..
حين كنت أجلس مع جدتي قديما كنت أستمع إلى شريط الذكريات الاكثر دقة على الاطلاق مشحونا بكمية من الامثال والحكم تلك التي تشربتها من خلال جميع ما عاشته طول الثمانين أو التسعين حولا التي مضت من حياتها، تتذكر جدتي الحدث قبل الاربعين والخمسين عاما بشخوصه؛ أصواتهم وضحكاتهم ولباسهم بالألوان، لماذا لم تحتج هاتفا ذكيا لتصور كل ذلك؟ ولماذا كل ذلك محفور في ذاكرتها!!
ذلك الجيل قبل جيلين عاشوا بمشاعر صادقة حاضري العقل منفتحي الأذهان فتمكنوا من قلب اللحظة وتمكنت منهم،
كانوا يعيشون الحياة فيألمون ويفرحون ويبكون ويضحكون، فترسخ فيهم تلك الانفعالات والحالات الوجدانية، لتصير ذكرى يتسامرون بها مع أحفادهم..
اليوم تعيش هواتفنا الحياة بدلا عنا، نحزن في منشور ونبتسم في آخر، ونستمتع بشرب القهوة في فيديو, وفي لحظة ما يتعطل ذلك الجهاز ويأخذ معه حياتنا ولحظاتنا ومشاعرنا المخزنة فيه، فنكتشف واقعا رماديا فارغا من كل معنى غارقا في المأساوية أو اللاشيء لأننا لا نعرف عن حقيقته شيئا -هواتفنا من كانت تعرف-؛ شعور قاتل بالفراغ والتيه والضياع يتسلل إلينا، وسؤال واحد يتردد في الذهن كيف أعيد إلى نفسي حالة توازنها؟ والاكيد أن الجواب واضح ستركض في الأرجاء تبحث عن بديل لهاتفك المعطل يعيدك إلى حالة الوهم السعيد التي كنت تعيشها، حالة الهوس بكل ماهو غيري والهروب من كل ما يفتح باب "أناك" تخشى معرفتها وانكشافها أمامك، تركض بعيدا عن نفسك وحياتك.. تريد جدارك وحصن الامان الخاص بك .. ولن تمضي عليك الساعة الا وقد حصلت على بديل تلتقط به صورة وانت تشعر بالأسى على صورك القديمة الضائعة وقد عدت الى نظامك المعتاد...
خلال تلك الساعة بين الهاتف القديم والهاتف الجديد جربت أصدق حالاتك الشعورية وأقربها إلى الواقع وأكثرها أثرا في نفسك وربما تكون الذكرى الوحيدة التي امتلكتها في شبابك لأنك ستحرص ألا تعيشها مجددا..!