التأييد والمناصرة المفقودة.
فالرؤية في هذا النص مشدودة إلى أمراء النفط وسلوكهم، وجاءت صورة مدينة القدس في سياق بيع هؤلاء القضية نفسها، والدماء التي تغوص فيها القدس، لبيان بشاعة فعلهم، وليس لبيان حال المدينة، ولا لبيان الموقف الصريح للشاعر منها، وإن كان موقف نصرته لها ظاهراً في شجاعته الكاشفة عن مرارة الواقع وتشريحه، ورغبته تكاد تظهر في الانتصار للقدس التي لم تكن يومئذٍ تحت سيطرة الصهاينة بل كانت الصفقة (البيع) سرية، والدماء جزءاً من رؤاه الشعرية قبل وقوع كارثة (1967م) فكانت رؤيته لأمراء النفط واقعية، وكان أمره لهم من باب الشماتة بهم (تمرغوا..) أي استمروا في غيكم وما أنتم فيه، وكان حديثه عن القدس والنسوة من باب قياس المستقبل القريب على الماضي القريب، فَتَشابُه المقدماتِ يقود إلى النتائج نفسها، وشعوره بالمرارة والدهشة والفجيعة لا يكاد النص يخفيه، فتلك رؤيته وقد تحققت، وذاك واقع الأعراب يزداد ظهوراً للناس.
القدس وشعراء الأرض المحتلة:
وجاءت القدس في سياق قصيدة (شعراء الأرض المحتلة) بعد هزيمة 1967م ليبين عجز الكلمة عن تغيير الواقع، فقال بلسان حال الكتاب:
((وَنُنَادي:/يَا رَبَّ الأربابْ/نَحنُ الضُّعفاءُ.. وَأَنتَ المُنتَصِرُ الغَلَّابْ/نَحنُ الفقراءُ.. وَأَنتَ الرَّزَّاقُ الوَهَّابْ/نَحنُ الجُبَنَاءُ.. وَأنْتَ الغَفَّارُ التَّوابْ/شعراءَ الأرضِ المُحتَلّهْ/ما عادَ لأعصابي أعصابْ/حُرُماتُ القُدسِ قَدِ انتُهِكَتْ/وصلاحُ الدِّينِ مِنَ الأسلابْ/ونُسَمِّي أَنفُسَنَا كُتَّابْ؟؟)) [1968م]
ظاهر هذا المقطع الشعري إظهار ضعف الكتاب وفقرهم وجبنهم، وتفسير مواقفهم على أنها نتيجة لضعفهم في مواجهة الواقع، على جهة افتراض تقدمهم في الفطنة والوعي على من حولهم من الناس. والذريعة الأخرى ضيق ذات اليد اقتصادياً، فكان لا بد من التقصير في مواجهة الانحراف، أو الانضمام إلى تياراته العاملة على تدمير الأمة ومستقبلها، والمحافظة على تخلفها، وتعويق حركتها قدر ما يستطيع المخربون في هذه الأمة، والجبن الغريزي عند بعض الكتاب والشعراء، ويلاحظ ابتداء الشاعر جمل الرؤية المصروفة إلى الشعراء بقوله (نحن) في كل صفة من الصفات المذمومة، على جهة التغليب، وعلى جهة وحدة المصاب بآفة من هذه الآفات أو بها جميعاً، على اختلاف المراد بالضمير (نحن) ومعلوم أن الضمير من المعارف في باب النحو العربي، غير أن التعميم في الضمير يقربه من حدود التنكير مما يجعله قريباً من المغايرة على تكرار اللفظ، من غير أن يمتنع المراد من الجهة الافتراضية الصناعية، والسياق يكاد يدل على المغايرة أكثر من دلالته على وحدة المقصود بكلمة (نحن) فليس الكتاب والشعراء سواء في هذه المسألة، ولو أنه لا يمتنع أن يصاب الشاعر بهذه الصفات في أحوال مختلفات باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإظهار العجز، وفي الضمير (نحن) جعل الشاعر نفسه واحداً منهم حتى لا ينفروا من قولته، وهو لاشك على خلاف موقفهم في أغلب شعره.
وفي الرؤية الباطنية للنص يظهر الحكام (الأرباب) الذين أعرض الشاعر عن وضع المسؤولية عليهم مباشرة في تغير أحوال الشعراء والكتاب، وذلك من خلال قوله: (يا ربَّ الأرباب) فرب الأرباب هو الله، والأرباب المتفرقون هم الحكام، وفي ذكر هذا الدعاء (النداء) إشارة إلى قدرية الشعراء، وركونهم إلى المكتوب عليهم.
وفي توجيه الخطاب إلى شعراء الأرض المحتلة بابٌ عجيبٌ من الدبلوماسية الفنية. فإن شئت تأويل الكلام على أن المقصود هم الصهاينة وحدهم؛ لأن شعراء الأرض المحتلة يقعون تحت سلطان هؤلاء، واستسلام شعراء الأرض المحتلة لسلطان الاحتلال من باب التسليم بالقدر، وهم عاجزون عن دفع القدر بالقدر، أو أن يكونوا ممن يحقق قدر الله في الثورة على الاحتلال، فهو دعاء يقرر أموراً، وهو إخبار عن واقع محدد في الأرض المحتلة، والتماس الأعذار للسخرية منها، وليس لقبولها أو الإقرار بشرعيتها.
وإن شئت أن تقول: إن في ضمير (نحن) انضمامَ الشاعر إليهم، وهنا تبدأ فكرة المساواة بين أرباب الأرض المحتلة مباشرة من الصهاينة، وأرباب الأرض التي لم تطأها دباباتهم، فهو يقرر وحدة الحال بين الفريقين، ويوحد شعراء العرب على تفرق الأرباب، واختلاف الواقع بين الفريقين.
ويعلن الشاعر موقفه من وحدة الحال القمعية التي يعيشها الشعراء العرب على أرضهم، وقسوة القيود، وسطوة السلطان وجهل الرقيب، وانتهاك حرمات القدس، وسلب الصهاينة مكانها وعمرانها، وازدادت الفجيعة أن السلطان صلاح الدين آخر محرري القدس كان من بعض الأسلاب، وربما كان اسم صلاح الدين إشارة إلى استلاب تاريخ القدس من جهة الصهاينة، وربما كان إشارة إلى إفساد الدين نفسه فلا يصلح لنا دين بعد سقوط القدس، وكل ذلك تطيقه آلة البيان في سياقه ونظمه.
فهذه رؤية تشخص واقع الشعراء وتحلم بتغييره وتركِ الاستسلام لعقيدةٍ قدرية ترضى بكل شيء، وتقنع بنصيبها من حياةٍ مهما يكن قليلاً. ونزار يأبى ذلك ولا يريده.