هل يمكن أن يتعارض العقل مع النقل ؟
من المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده ، والسبب في ذلك سبب منطقى وهو وحدة المصدر فالذي خلق العقل هو الله ، والذي أرسل إليه النقل هو الله وهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان ، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته لصلاح صنعته وألزم الإنسان بمنهجه وشرعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله تعالى كما قال سبحانه : ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى ﴾ (طه : 123 ) ،
ومعلوم عند سائر العقلاء أن أولى من يضع نظام التشغيل للمصنوعات صانعها ، قال شيخ الإسلام : ( كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول ، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح ولكن كثيرا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا ، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفا بالأدلة الشرعية ، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ) ، وقال أيضا : ( من قال بموجب نصوص القرآن والسنة أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح ) .
ما هي أسباب التعارض بين العقل والنقل إن وجدت ؟ لو حدث تعارض بين العقل والنقل فذلك لسببين لا ثالث لهما :
• الأول : أن النقل لم يثبت فينسب مدعى التعارض إلى دين الله ما ليس منه كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وينقلونها للناس دون تمحيص ، فماذا يصنع العاقل إذا سمع خطيبا ، يذكر في مرة حديثا مرفوعا إلى رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله القَلَمَ ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ ) ، ثم يسمعه مرة أخرى يروى حديثا آخر : ( أول ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك ) ، ثم ثالثا فيه : ( أول ما خلق الله نورى ) ؟
لا شك أن العاقل يقف حائرا بين هذه الروايات أي الأشياء خلق أولا ؟ وسيبعث ذلك في نفسه شكا ، كما أنه من الخطأ التوفيق بين هذه الروايات قبل البحث عن ثبوتها ، وكان يجب على من نقل هذه الروايات أن يتثبت من صحتها أولا ، وبالبحث وجد أن الحديث الأول ثابت صحيح ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله القَلَمَ ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ ) ( وهو حديث صحيح رواه الترمذي وصححه الألباني ) .
أما الثاني ( أول ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك ) فموضوع باتفاق ، كما ذكر العجلونى في كشف الخفا ومزيل الإلباس ، وكما ذُكر في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ،
وأما الثالث ( أول ما خلق الله نورى ) فهو حديث موضوع أيضا رواه عبدا لرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء ، قال : يا جابر ، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك – خلقه - من نوره ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ، ولا جنة ولا نار ، ولا ملك ، ولا سماء ولا أرض ، ولا شمس ولا قمر ، ولا جني ولا إنسي ، فلما أراد أن يخلق الخلق ، قسم ذلك النور أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول حملة العرش ، ومن الثاني الكرسي ، ومن الثالث باقي الملائكة ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الأول السموات ، ومن الثاني الأرضين ، ومن الثالث الجنة والنار ، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله .. وعلى هذا المنوال تأتينا اختراعات الصوفية والأباطيل العاطفية ، وما شابه ذلك من الأمور البدعية .
فأمثال هذه الأحاديث التي يتناقها غير الراسخين في العلم من الدعاة ، هي التي تحدث الفوضى وتدعو إلى تعارض العقل مع النقل ، فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح ، وينبغي على أهل العلم أن يتقوا الله في نقلهم للأحاديث الضعيفة والموضوعة بحجة ترغيب الناس في الإيمان والطاعة ، فإن من أبرز السلبيات التي تظهر من ذلك فتح باب البدعة على مصراعيه ، وتشويه الوحي بمصدريه القرآن والسنة .
السبب الثاني في التعارض أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله علي النحو الصحيح
أن العقل لم يفهم النقل ،
ومثال ذلك تشكيك بعض أتباع المستشرقين من الإسلاميين أساتذة الجامعات وشيوخ الفضائيات في حديث الذباب الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا وقعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدِكم فليَغْمِسهُ كله ثمَّ ليَطْرَحهُ، فإنَّ في إحدَى جَناحَيهِ داءً وفي الآخر شفاءً ) فهذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الطبية التي يجب أن يسجلها له تاريخ الطب بأحرف ذهبية ، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحي الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنا ، وذكر تطهير الماء إذا وقع الذباب فيه ، فلو تلوث بالجراثيم الموجودة في أحد جناحيه ، فما علينا إلا أن نغمس الذبابة في الماء لإدخال عامل الشفاء ، الذي يوجد في الجناح الآخر ، الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم الموجودة بالماء ، وقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة الأسرار الغامضة في هذا الحديث ، فهناك خاصية عجيبة في أحد جناحي الذباب ، هي أنه يحول البكتريا إلى ناحية منه ، وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام ، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واحد منها هو مبيد البكتريا ، الذي يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه .
وكذلك حديث ولوغ الكلب في الإناء الذي رواه مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُولُ اللّهِ صلي الله عليه وسلم قال : ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلبُ ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ) كانوا قديما يطعنون في الحديث ويتهكمون من السنة لقلة علمهم وضعف إيمانهم حتى ثبت علميا أنه المكروب الذي يحمله لعاب الكلب ، لا يمكن أن يزول من الإناء ، بالمنظفات الحديث أبدا ، لا صابون ولا إيريل ولا برسيل ، ولا أي عامل من عوامل التطهير ، لا بد من غسله سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ، هكذا تقول معامل التحاليل الكيمائية ، فتبا للآراء العقلية التي تعارض الأدلة النقلية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وما أثبته السمع الصحيح ، لم ينفه عقل صريح ، وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح ، وإنما يَظُنُّ تَعَارُضَهُما من غلط في مدلوليهما ، أو مدلول أحداهما ) .
نهاية أقدام العقول عقــــال : وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا : وحاصـل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا : سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا مـن رجال ودولة : فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قـد علت شرفاتها : رجال فزالـوا والجبال جبال