لأنهم لم يكونوا يجاهرون بتلك المواقف كمبادئ يعتقدونها ويعتنقونها ويؤمنون بها إيمانا مطلقا، وإنما كانت بدافع مصلحي نفعي شخصي، فلما تم نيل المطلوب الكامن في النفس من رغبات وطموحات خفية، لم يبق لتلك اليوتوبيا أي أثر، لأنها لم تكن لأجل الصالح العام بل كانت تستهدف المصلحة الشخصية الضيقة، ولبست لباس المصلحة العامة امام الناس فقط لا رصيد لها في القلب والمعتقد والمبدأ، مثلما لبس الذئب جلد الخروف لأجل الاصطياد والإيقاع بالضحايا.
وكثيرة هي النماذج التي تدعي المثالية وتكثر النقد وتحشد الأدلة وتدعو إلى قيم العدل والرشاد، وفي أول لحظة توافيها الفرصة تتحول إلى نماذج مستنسخة وربما أسوأ من النماذج التي كانت تنتقدها. بل إنني ومن خلال التجربة رأيت حتى بعض المنتسبين للدين، الدعاة إليه في الظاهر، يكثرون التحذير من الانحراف الذي ظهر في المجتمع، فإذا تولوا أي أمر ظهر مخبرهم الخفي، بل منهم من يتحول إلى شر من أسوأ النماذج المنحرفة التي توجد في أي المجتمع، كان يحاول إصلاحه من قبل.
لذلك فهذه الظاهرة عامة ولا تختص بالأستاذ الجامعي، بل إن استحضار سياق الآية التي نزلت عقب موقعة أحد وهي قوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، تبين لنا أن نوازع النفس لم ينجو منها حتى خيار الناس وأفاضلهم ـ ولو بقدر ضئيل لا يكاد يذكر بالمقارنة بحالة عصرناـ فكيف بالنماذج البشرية في وقتنا الحاضر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وغلب طالحها صالحها.