كلمة في العفو الشامل
ربما من يقول بأن العفو عن بعض المجرمين هو ظلم لطرف أو إنحيازلآخر،ولهذا وجب توضيح مانبتغيه من هذا العفو.
إن العفو لايكون بجرّة قلم أو بقرار سياسي أو ضعف أو هروب إلى الأمام ،أو تبجيل لهؤلاء المجرمين الذين تثبت إدانتهم من طرف المحكمة العادلة بعد التحرّي ، بل هو أولا من خلال هذا التصوّر تضييق الخناق على من لازالوا يشككون في كل مبادرة تهدف إلى إخراج البلاد من أزمتها الراهنة ، ومن أن هؤلاء المشككين يقولون بأن أصحاب المبادرة يريدون الحكم ويريدون الإنتقام ،فبهده الطريقة نقطع أمامهم الطريق، ونسمح بذلك للمصلحين الذين هم في مراكز متقدمة من خلال هذا الموقف ،من أننا واعون تمام الوعي وأننا نميز بين الألوان ولانخلط الصالح بالطالح، ومن جهة أخرى أن تطبيق الأحكام يقتضي أن نزيل شريحة كبيرة من هذا المجتمع ،لأن الصراع لم يكن بين حزب وحكومة ولاهو صراع بين شخص وآخر، إنما هو صراع بين مشروعين ،وقد ثبت بما لايدع مجالا للشك ،بأن الجزائر لن تتعافى إلا بعد أن يتوافقا الطرفان ويتعايشا في تسامح وتآخي وتنافس شريف يحقق المصلحة العامة ،ويعطي لكل ذي حق حقه دون غلوّ ولاتفريط.
ومن جهة أخرى هو أن العفو لايكون من ضعيف، لأن الضعيف لايملك أسباب القوّة التي تمكنه من العفو ، لأنه لو كانت عنده هذه القوة لما عفا ،بل العفو يكون من باب القوّة ولمصلحة الأجيال التي لم تشارك في هذه الأزمة ،بل هي ضحية صراعات ،وتمزيق نسيج إجتماعي وثقافي وسياسي، ومن حقها أن نرسم لها طريقا يسمح لها بأخذ المشعل والذهاب بعيدا بالجزائر نحو الرقي.
فالعفو هو من باب المصلحة العامة وليس لمصلحة خاصة، ولن يتم العفو، إلا بعد أن تكشف الحقيقة كاملة ويطلب المجرم العفو عليه، وهوالذي حكمت عليه المحكمة وأدين بأدلّة قاطعة لاتخضع للشك ،ويتعين مصير المختطفين والمفقودين والذين أعدموا وتكشف المقابر الجماعية، والأموال التي نُهبت تحت غطاء الإرهاب أو التي أستعملت لتبييضها وتكشف الدول التي شاركت من قريب أو بعيد في إذكاء نار الفتنة، بعد نقاش صريح ومسئول تناقش فيه جميع الأمور التي هي محلّ خلاف، مثل قانون الأسرة والعلمانية وحرية العقيدة واللغة وفق ميثاق يحفظ حقوق الجميع وحتى نعالج الأزمة نهائيا.
فمسألة العفو إذن على أشخاص ، هم سيموتون في النهاية بغير الأحكام ،هي من باب المصلحة العامة ،وتنفيذ الأحكام لايزيد الأمور إلا تعقيدا ،فالمحكمة هي ليست محكمة إلَهية ولاعدلا مطلقا ، ولايمكن للمحكمة أن تعيد الأرواح التي أزهقت ولا الأموال التي أتلفت وإنما تحكم للناس بالعدل وتعرف الناس بالحقيقة وسيكون هذا مدخلا لدورها ، ومسألة العفو هي ليست مطلقة بل يمكن لمن ظلم أو أعتدي عليه في ماله أو عرضه أن لايسمح بحقه أمام المحكمة الإلهية التي يؤمن بها ، والعفو على من أساء إليه في هذه الدنيا هو لمصلحة الوطن ،وما نطمح إليه من خلال العفو الشامل ،هو رسم المعالم إلى الشباب التائه الذي يموت في أعماق البحار بسبب اليأس والقنوط ،أو الذي رمى به الظلم والتهميش إلى حمل السلاح ، أو الذي دخل في عالم الهلوسة أو الذي لاتعرف له لونا فكلما جاءت ريح تمايل معها ، وإلى العوانس والذين رمى بهم القنوط إلى الإنتحار ناهيك عن الأزمات النفسية التي ترتبت عن هذه الأزمة التي لها جذور تمتد إلى ماقبل التسعينات وإلى كل الإطارات والعقول التي هجرت .
علينا أن نلتحق بقطار الحضارة ،وبإجراء المحاكمة هذه نعيد أولا الإعتبار إلى المحكمة التي أصبحت عبارة عن جهاز إداري يخضع إلى توصيات مركزية، ونؤسس بعد ذلك إلى مرحلة جديدة ، وهي بناء دولة الحق والقانون ، التي يطمح إليها كل الشرفاء والمصلحين والعاقلين ،الواعين بما ينتظر الجزائر من تحرشات، طمعًا في مناخها وجغرافيتها ومعادنها وترابها الخصب وموقعها الإستراتيجي.
يتبع