و ليس للمسلمين أن يوالوا الكافرين أو يستعينوا بهم على أعدائهم، فإنهم من الأعداء و لا تؤمن غائلتهم و قد حرم الله موالاتهم، و نهى عن اتخاذهم بطانة، و حكم على من تولاهم بأنه منهم، و أخبر أن الجميع من الظالمين، كما سبق ذلك في الآيات المحكمات، و ثبت في: (صحيح مسلم )، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة و نجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله جئت لأتبعك و أصيب معك و قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم لتؤمن بالله و رسوله؟ قال لا قال ((فارجع فلن استعين بمشرك)) قالت ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم كما قال أول مرة فقال لا قال ((فارجع فلن استعين بمشرك)) قالت ثم رجع فأدركه في البيراء فقال له كما قال أول مرة ((تؤمن بالله و رسوله؟)) قال نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ((فانطلق)) فهذا الحديث الجليل، يرشدك إلى ترك الاستعانة بالمشركين، و يدل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يدخلوا في جيشهم غيرهم، لا من العرب و لا من غير العرب؛ لأن الكافر عدو لا يؤمن.
و ليعلم أعداء الله أن المسلمين ليسوا في حاجة إليهم، إذا اعتصموا بالله، و صدقوا في معاملته.
لأن النصر بيده لا بيد غيره، و قد وعد به المؤمنين، و إن قل عددهم و عدتهم كما سبق في الآيات و كما جرى لأهل الإسلام في صدر الإسلام،
و يدل على تلك أيضا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقلُونْ[27]
فانظر أيها المؤمن إلى كتاب ربك و سنة نبيك عليه الصلاة و السلام كيف يحاربان موالاة الكفار، و الاستعانة بهم و اتخاذهم بطانة، و الله سبحانه أعلم بمصالح عباده، و أرحم بهم من أنفسهم، فلو كان في اتخاذهم الكفار أولياء من العرب أو غيرهم و الاستعانة بهم مصلحة راجحة، لأذن الله فيه و أباحه لعباده، و لكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى، و العواقب الوخيمة، نهى عنه و ذم من يفعله، و أخبر في آيات أخرى أن طاعة الكفار، و خروجهم في جيش المسلمين يضرهم، و لا يزيدهم ذلك إلا خبالا، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[28]
و قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[29]
فكفى بهذه الآيات تحذيراً من طاعة الكفار، و الاستعانة بهم، و تنفيراً منهم، و إيضاحاً لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، عافى الله المسلمين من ذلك، و قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[30]
و قال تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ[31].
................
إن اجتماع المسلمين حول الإسلام، و اعتصامهم بحبل الله، و تحكيمهم لشريعته، و انفصالهم من أعدائهم و التصريح لهم بالعداوة و البغضاء، هو سبب نصر الله لهم و حمايتهم من كيد أعدائهم، و هو وسيلة إنزال الله الرعب في قلوب الأعداء من الكافرين، حتى يهابوهم و يعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، كما حصل لأسلافهم المؤمنين.
فقد كان بين أظهرهم من اليهود و النصارى الجمع الغفير، فلم يوالوهم و لم يستعينوا بهم، بل والوا الله وحده، و استعانوا به وحده، فحماهم و أيدهم و نصرهم على عدوهم و القرآن و السنة شاهدان بذلك، و التاريخ الإسلامي ناطق بذلك، قد علمه المسلم و الكافر. و قد خرج النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر إلى المشركين، و في المدينة اليهود، فلم يستعن بهم، و المسلمون في ذلك الوقت ليسوا بالكثرة، و حاجتهم إلى الأنصار و الأعوان شديدة، و مع ذلك فلم يستعن نبي الله و المسلمون باليهود، لا يوم بدر و لا يوم أحد، مع شدة الحاجة إلى المعين في ذلك الوقت، و لا سيما يوم أحد، و في ذلك أوضح دلالة على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بأعدائهم، و لا يجوز أن يوالوهم أو يدخلوهم في جيشهم، لكونهم لا تؤمن غائلتهم، و لما في مخالطتهم من الفساد الكبير، و تغيير أخلاق المسلمين، و إلقاء الشبهة، و أسباب الشحناء و العداوة بينهم، و من لم تسعه طريقة الرسول صلى الله عليه و سلم و طريقة المؤمنين السابقين فلا وسع الله عليه.
و أما حقد غير المسلمين على المسلمين إذا تجمعوا حول الإسلام، فذلك مما يرضي الله عن المؤمنين و يوجب لهم نصره، حيث أغضبوا أعداءه من أجل رضاه، و نصر دينه و الحماية لشرعه.
و لن يزول حقد الكفار على المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم و اتبعوا ملة أعدائهم، و صاروا في حزبهم، و ذلك هو الضلال البعيد و الكفر الصريح، و سبب العذاب و الشقاء في الدنيا و الآخرة، كما قال سبحانه: وَ لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ[36]
و قال تعالى: وَ لا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[37]
و قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَ لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ[38]
فأبان الله سبحانه و تعالى في هذه الآيات البينات: أن الكفار لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، و ندع شريعتنا، و إنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
و أخبر أنه متى أطعناهم و اتبعنا أهواءهم، كنا من المخلدين في النار، إذا متنا على ذلك، نسأل الله العافية من ذلك، و نعوذ بالله من موجبات غضبه و أسباب انتقامه.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.