الأصل الرابع : القياس الفاسد أو ( التوسع في القياس )
يتفنن الحركيون بالاستدلالات الغريبة على إثبات مشروعية الأمور التي يستوردونها من دول الكفر ، ويجعلونها بديلاً للوسائل الشرعية الصحيحة
فمن ذلك استدلال بعضهم بقصة الرجل الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء متاعه في الطريق لما آذاه جاره على جواز المظاهرات !
واستدلال البعض الآخر بقصة النساء اللواتي شكون ضرب أزواجهن لهن عند النبي صلى الله عليه وسلم على جواز المظاهرات
ولا أريد مناقشة الدليل من جهة السند ودلالاتها اللغوية على المراد ، فإن بابنا هنا أصول الفقه ، ولا شك أن هذه الاستدلالات من باب قياس الجار على الحاكم ، والزوج على الحاكم ، إذ أنها ليست نصاً في المسألة فاستدلالهم من جهة القياس
وهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته للنصوص والإجماع والنظر الصحيح
أما النصوص فكثيرة قال مسلم [4888]:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ:
يَا نَبِي اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ .
وَقَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ.
وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ. وَقَالَ: فَجَذَبَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ.
وقال البخاري [7055]: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ:
دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ
أقول : والتظلم العلني ينافي الصبر ، فضلاً عن مطالبته بالتنحي فهذا مصادمٌ للأمر النبوي مصادمةً صريحة
وأما مخالفته للإجماع فقال الصنعاني في سبل السلام (5/464 ) :
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْفَعَ عَمَّا ذُكِرَ إذَا أُرِيدَ ظُلْمًا بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ ، إلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ السُّلْطَانِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ .اهـ
والسلطان ليس كغيره إجماعاً ، وهذا يدل عليه النظر الصحيح فإن شكاية الجار والزوج لا يترتب عليه سفك دماء وفوضى في الغالب بخلاف الخروج على الحاكم المسلم
ومن أقيستهم الفاسدة استدلالهم باستشارة عبد الرحمن بن عوف لنساء الأنصار في أمر الخلافة حتى العذارى في خدورهن على خروج النساء في المظاهرات ومشاركتهن في العملية السياسية ( الانتخابات )
وهذا مع عدم صحة القصة ، إلى أنه لا يدل على مقصودهم فالرواية تقول ( العذارى في خدورهن ) ، ولم يقل أنهن خرجن مزاحمات للرجال الكتف بالكتف ، وربما ما هو أكبر من ذلك والله المستعان
ولم تكن الاستشارة - إن صحت - للفاسقات والفاجرات ، ولم يخيرهن بين ( سني ) و ( رافضي ) أو ( مسلم ) و ( نصراني ) ولها حرية الاختيار بل إنما خير بين رجلين هما خير الناس بعد الأنبياء وأبي بكر وعمر ، فأين هذا من ذاك يا أولي الحجى
وأقسيتهم الفاسدة كثيرة وليس هذا مقام استقصاءها ، وإن كان هذا أمرٌ شركهم فيه عدد من فقهاء الإسلام ، ولكن لا يعرف في تاريخ الإسلام فقيهٌ استخدم القياس الفاسد لإباحة الديمقراطية أو بعض مظاهر الانحلال
وعند الكلام على علم الجرح والتعديل تتلاشى جميع أصول الفقه الحركي
فتجد منهم من يمنع منه مع كثرة أدلته وفوائده لئلا ينفر الناس من حوله ، وهذا تطبيق فاسد لفقه سد الذريعة إذ أن الداعية إذا تنازل عن ثوابته لئلا ينفر الناس منه لا يلبث حتى يجد نفسه لا يدعو لشيء إلا لنفسه وبعض المشتركات التي لا يخالفه فيها حتى الرافضة
قال أحمد في الزهد 916:
حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ قَالَتْ : مَنْ أَسْخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللَّهِ كَفَاهُ النَّاسَ ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ. ( وهذا هو الصواب موقوف على عائشة )
وتجد منهم من يزعم أن علم الجرح والتعديل خاص بزمن الرواية ، وهنا يرتدي الحركيون عباءة الظاهرية ، فإن الجرح والتعديل في باب الرواية إنما كان لحفظ الدين ، وبهذه العلة يكون في الأبواب الأخرى ، وهذا قياسٌ صحيح تام الأركان
فانظر إلى كثرة استعمالهم للقياس الفاسد ، وإنكارهم لهذا القياس الصحيح ، وإن كان لا كبير حاجة له فإن علم الجرح والتعديل قد ثبتت مشروعيته بأدلةٍ مستقلة
وينكرون علم الجرح والتعديل ، وعلى من خاض فيه ولو بفتاوى العلماء
وينتفع بعضهم من هذا العلم فينبهه السلفيون على بعض أغلاطه ، فيرجع عنها ، ومع ذلك تجده يذم الكلام في الناس مطلقاً فأين ذهب ( فقه المصلحة ) ، والسكوت على أخطاء الناس عموماً الناس وأهل البدع خصوصاً يترتب عليه من المفاسد الشيء الكبير
قال الشاطبي في الاعتصام ص202 :
فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ:
إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِمْ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي الْمُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَتَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بِعَيْنِهِ.اهـ
والأمر في شرح حال القوم ، وتلاعبهم بأديان الناس وأموالهم ودمائهم وأعراضهم يطول وأرجو أن أكون قد وفيت ببعض المطلوب في هذه الكتابة المتواضعة ، سائلاً المولى عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل هذا صلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم