![]() |
|
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
الترخُّص بمسائل الخلاف ضوابطه وأقوال العلماء فيه
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() الترخُّص بمسائل الخلاف
ضوابطه وأقوال العلماء فيه الدكتور خالد العروسي الأستاذ المساعد بقسم الشريعة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة أم القرى ملخص البحث مسألة الترخّص بمسائل الخلاف ، من المسائل التي بحثها الأصوليون والفقهاء على حدٍّ سواء، وهي مسألة أحسب أنّا أحوج ما نكون إلى ضبطها الآن ، فالواقعون فيها بين مشدِّدٍ منكرٍ لجواز الترخص بها مطلقاً ، وبين متساهلٍ مستهينٍ بها ، فأجاز العمل بمسائل الخلاف مطلقاً ، إلا أن أثر وخطر الفريق الثاني أعظم ، لولع الناس والعوام بكل سهل ولو كان منكراً مستغرباً . وكلا الفريقين على خطأ ، وكلاهما قد خالف مذهب الأئمة والسلف القائل : بالجواز ولكن بضوابط وقيود ، وفي هذا البحث الذي أقدمه بين يديك ، حاولت تتبع مذاهب الأئمة في هذه المسألة ، فجمعت أقوالهم وأقوال أصحابهم في هذه المسألة ، مستدلاً على هذا ببعض تفريعاتهم وفتاواهم ، وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وثمانية مباحث هي : 1 - الخلاف : أسبابه ، وبيان أنه من السنن الكونية . 2 - الاختلاف هل هو رحمة ؟ 3 - فضل معرفة علم ما يختلف فيه . 4 - بيان زلاّت العلماء . 5 - تأصيل المسألة . 6 - أقوال العلماء في المسألة . 7 - قاعدة مراعاة الخلاف . 8 - ضوابط العمل بمسائل الخلاف . والحمد لله رب العالمين . مقدِّمة الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتمَّ علينا النعمة ، وجعلنا خير أمّة أخرجت للناس ، حثَّنا على التآلف والاجتماع ، ونهانا عن التفرق والاختلاف. والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين ، سيّدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين . أما بعد : فمنذ غرّة سنيِّ الطلب ، تلقينا عن مشايخنا وأساتذتنا ، حبَّ أسلافنا من العلماء ، وتوقيرهم ، ومعرفة حقوقهم وأفضالهم ، فهم بحور العلم الزاخرة ، وجباله الشوامخ ، فاستقرَّ ذلك في نفوسنا ، وجعلناه ديناً ندين الله تعالى به . وجعلوا آية هذه المحبة والتوقير ترك التعصب لمذهب على آخر ، وعدم الإنكار على مقلدة المذاهب في اختياراتهم واجتهاداتهم ، ففي هذا الاختلاف رحمة للأمة كما صحّ عن كثير من السلف . وأئمة المذاهب مجتهدون ، والمجتهد مأجور في كل الأحوال ، حتى أسلمنا ذلك إلى جواز الأخذ بقول أيِّ إمام من الأئمة ، من غير نظرٍ إلى دليل ، فكون المسألة تُعدُّ من مسائل الخلاف ، هي دليل الإباحة . ومما زاد من غلواء هذا ، ما كنّا نسمعه من بعض أهل العلم من جعلهم الخلاف حجّةً يحتجون بها في معرض الجدال والنقاش ، وسبباً للبحث عن الرخص للعوام من الناس من غير ضابط ولا قيد ، ويستدلون بما سطّره بعض أسلافنا من العلماء - رحمهم الله - في كتبهم من أنه لا إنكار في المجتهدات ، فبلغ السيل زباه ، حتى صار العوام من الناس يلوكون هذه الكلمة من غير معرفة لمعناها فيرددون : المسألة فيها خلاف . ولا تحسبنَّ أن هذه الآفة التي ابتلي بها زماننا ، هي أمر مستجد ، بل هي قديمة ظلّت تتحدَّر من زمان إلى زمان ، ومن قرن إلى قرن ، تنصُّ برأسها بين حين وآخر ، يعينها على هذا النصوص ، قلَّة العلماء العاملين ، وكثرة الجهّال الذين يفتون بغير علم . وخير من يصف هذا الحال هو الشاطبي ، وإنك لواجدٌ في كلامه كلَّ غَناء ، وكأنه يرى زماننا رأي العين ، يقول : (( وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية ، حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة ... فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع ، فيقال : لِمَ تمنع ؟ والمسألة مختلف فيها ، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها )). ويقول : (( ويقول - أي المخالف - : إن الاختلاف رحمة وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور ، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، والذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجَّرت واسعاً ، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك )) . ويقول : (( الورع قلَّ ، بل كاد يعدم ، والتحفظ على الديانات كذلك ، وكثرت الشهوات ، وكثر من يدعي العلم ، ويتجاسر على الفتوى فيه )) . وقال : (( صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه ، أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته ..... ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً لشهوته )) . ورحم الله الشاطبي فما زاد على ما نشاهده في أيامنا هذه قلامة ظفر . والإشكال الذي كنت أقف أمامه حائراً متعجباً ، أن ما نقلوه عن بعض الأئمة من أنه لا إنكار في مسائل المجتهدات ، وأن الخلاف خير ورحمة ، هو صحيح وثابت ، ثم أجد ما يناقضه مسطوراً في كتبهم ، فيفتون بجلد شارب النبيذ متأولاً أو مقلداً ، ويزجرون من لا يتم ركوعه وسجوده ، وينكرون على من يلعب الشطرنج وغيرها من مسائل الخلاف التي تتفاوت درجات الإنكار فيها بين الوعظ والتعزير . ولكن سرعان ما أعزو هذا العجب إلى قلَّة فهمي ومعرفتي بكلام الأئمة . ومضى على ذلك دهر ، حتى وقفت على نصٍ لإمام من أئمة الحنابلة هو ابن مفلح - رحمه الله - يعجب مما عجبت منه فقال : (( ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه ، أو قلَّد مجتهداً فيه ، كذا ذكره القاضي والأصحاب ، وصرّحوا بأنه لا يجوز . ومثلّوه بشرب يسير النبيذ ، والتزوج بغير ولي ، ومثلّه بعضهم بأكل متروك التسمية ، وهذا الكلام منهم مع قولهم يحدّ شارب النبيذ متأولاً ومقلداً أعجب ، لأن الإنكار يكون وعظاً وأمراً ونهياً وتعزيراً وتأديباً ، وغايته الحدُّ ، فكيف يحدُّ ولا ينكر عليه ؟ أم كيف يفسق على رواية، ولا ينكر على فاسق )) . إذن هو تناقض وقع فيه بعض أتباع الأئمة ، ومقلدة المذاهب ، فعلمت يومئذ أن العمل بمسائل الخلاف ليس على إطلاقه ، وما يردده كثير من أهل العلم من أنه لا إنكار في المجتهدات ليس بصحيح ، فالمسألة لها ضوابط وآداب ، يجب أن تراعى عند الترخص بها ، لذلك تجد المحققين من أهل العلم كابن تيمية وابن رجب وغيرهما يفرقون بين الاجتهاد والتقليد ، المقبول منه والمردود بكونه : (( سائغاً )) ، وهي كلمة مجملة ، يعنون بها الاجتهاد أو التقليد الملجوم بضوابط الشرع وآدابه . وفي هذا البحث حاولت - مستعيناً بالله - جمع أقوال العلماء في مسألة الترخص بمسائل الخلاف ، توسطت فيه بين أقوال المنكرين على جواز الترخص مطلقاً ، وبين أقوال المفرِّطين المتساهلين الذين يأخذون المسألة على إطلاقها ، فجمعت هذه الضوابط من كلام العلماء - لاسيما المحققين منهم - على اختلاف مذاهبهم ، وذكرت بعض الآداب التي يجب على المفتي مراعاتها ، خاصة في هذا الزمن ، الذي أصبح فيه العالــم قرية صغيرة ، فالفتوى التي تصدر في مكة مثلاً أو في القاهرة ، لا تلبث ساعات ، بل دقائق ، حتى يعلم بها ، كل مَن في أرجاء هذه المعمورة ، وما تهيجه من شرٍّ وفتنة إذا لم تكن مضبوطة بضوابط الشرع . وسطّرت في هذه الصحف بعض المباحث التي لها صلة بهذه المسألة ، فبيّنت أسباب اختلاف العلماء ، والخلاف هل هو رحمة أم لا ؟ ثم دفعت ما ظُنَّ أنه تناقض في كلام أسلافنا من الأئمة ، وذكرت الأصل الذي تفرعت منه هذه المسألة مبيناً صحة هذا الأصل أو سقمه . هذا والله تعالى أسأله أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، إنه سميع مجيب .
|
||||
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]()
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() المبحث الثاني : الاختلاف هل هو رحمة ؟
شاع وذاع على لسان كثير من السلف أن اختلاف الأمة في الفروع هو ضرب من ضروب الرحمة ، فروى عن القاسم بن محمد قوله : (( كان اختـلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمـة )) وعن عمر بن عبد العزيز: (( ما يسرني باختلاف أصحاب النبي ش حُمْرُ النَّعَم )) واشتهر حديث عند الفقهاء وهو : (( اختلاف أمتي رحمة )) . وهذا كله حق لا مرية فيه ، إلا أنه حق يعوزه شيء من التفصيل، وهذا التفصيل ذكره الإمام الشافعي - رحمه الله - في (( رسالته )) حيث جعل لهذا الاختلاف المرحوم قسيماً آخر ، وهو : الاختلاف المحرَّم ، فلما سئل - رحمه الله - ما الاختلاف المحرّم ؟ قال: (( كل ما أقام الله به الحجة في كتابه ، أو على لسان نبيِّه منصوصاً بيّناً لم يحلَّ الاختلاف فيه لمن علمه )) واستدل على ذلك من كتاب الله تعالى بقوله عز وجل: ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) [ البينة : 40 ] وبقولـه تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ) [ آل عمران : 105 ] فهؤلاء المخالفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم ، وجاءتهم البينة ، فاختلفوا للبغي والظلم ، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل . ومن ههنا نشأ الوهم عند من أطلق جواز الترخّص بمسائل الخلاف ، مستدلاً بعموم أقوال الأئمة ، فأصابهم في ألفاظ العموم ، ما أصاب غيرهم في ألفاظ العموم في نصوص الشارع ، فسمعوا أن الاختلاف رحمة ، فاعتقدوا أن هذا شامل لكل خلاف ، ولم يتدبروا أن الخلاف له ضوابط وشروط ، وإلا كان محرّماً مذموماً . أما كون اختلاف أصحاب النبي تعالى رحمة ، فلأنهم كانوا على الحنيفية السمحة ، ففتحوا باب الاجتهاد للناس ، فتنازعوا وهم مؤتلفون متحابون ، يُقرُّ كل واحد منهم الآخر على اجتهاده ومن لطيف توجيهات ابن تيمية في كون الخلاف رحمة قوله ما ملخصه : إن النزاع قد يكون رحمة لبعض الناس ، لما فيه من خفاء الحكم ، فقد يكون في ظهوره تشديداً عليه ، ويكون من باب قوله تعالى : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) [ المائدة : 101 ] لهذا صنّف رجل كتاباً سماه : (( كتاب الاختلاف )) فقال أحمد : سمه (( كتاب السعة )) وضرب لها مثلاً بما يوجد في الأسواق من الطعام والشراب والثياب ، فقد يكون في نفس الأمر مغصوباً ، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك ، كان كله له حلاً لا إثم عليه بحال ، بخلاف ما إذا علم . وبيَّن رحمه الله أن من تبعات الخلاف المحرّم أن يخفى عنهم العلم بما يوجب الرخصة ، فكما أن الله تعالى حرّم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم ، وشريعة محمد ش لا تُنسخ ، لكنهم يعاقبون بتحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل الله ورسوله عندهم ، كما فعل ذلك كثير من الأمة اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيْمان والطلاق ، واعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التي يحتاجون إليها كضمان البساتين ، والمشاركات ، فصارت محرمة عليهم تحريماً كونياً ، وتحريماً شرعياً في ظاهر الأمر . وشرور الخلاف لا تنقضي ، وشرُّها إذا استحال إلى تعصب للمذاهب والآراء بالباطل ، واتباعٍ للظن وما تهوى الأنفس . وما يتبع ذلك من تباغض وتدابر ، بل وتلاعن . وإذا أنعمت النظر وجدت أن أكثر هذه المسائل المتنازع فيها هي من الفروع الخفية التي يسوغ فيها الخلاف ، وأغلب هؤلاء المتعصبين إنما قامت عصبيتهم على الانتصار للنفس والهوى لا الانتصار للحق ، وهذا أمر خفي دقيق يتسلل إلى القلوب والنفوس ، لذلك نبّه عليه ابن رجب فقال : (( ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين ، وكثر تفرقهم ، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم ، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله ، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً ، وقد لا يكون معذوراً ، بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض عليه ، فإن كثيراً من البغض إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق ، وهذا الظن خطأ قطعاً ، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه . وهذا الظن قد يخطئ ويصيب . وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرّد الهوى والألفة، أو العبادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله . فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ، ويتحرز في هذا غاية التحرز . وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرّم . وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ، ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه . موضوعاً عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة ، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله ، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ، ولا انتصر له، ولا والى من يوافقه ، ولا عادى من يخالفه ، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه . وليس كذلك ، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده . وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه أنه الحق، إرادة علو متبوعه ، وظهور كلمته ، وأنه لا ينسب إلى الخطأ ، وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق ، فافهم هذا فإنه مهم عظيم )) . وحسبنا شراً ما رُزئت به هذه الأمة من تبعات الخلاف حين حُرمت الكتاب الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته لها ، حتى صار ابن عباس رضي الله عنهما يتحسر ويقول : (( إن الرزية كل الرزية ما حال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كتابه )) وذلك : (( لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : ائتوني بكتاب ، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً . فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا . فاختلفوا ، وكثر اللغط قال : قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع )) . |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]()
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]()
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 6 | |||
|
![]()
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 7 | |||
|
![]() المبحث السادس : أقوال العلماء في المسألة
سبق القول في المبحث السابق أن مسألة الترخّص بمسائل الخلاف ، لها شبه بمسألة من التزم مذهباً فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ؟ ولكنه ليس شبهاً مطلقاً ، لذلك غلط الزركشي - رحمه الله - حين جعل الخلاف جارٍ فيهما على حدٍّ سواء ، فمسألة مخالفة العامي المقلَّد ، أو المفتي المقلِّد لمذهب إمام في بعض المسائل ، الخطب فيها يسير ، والخلاف هيِّن ، وأقوال العلماء فيه بين : مجيزٍ مطلقاً ، ومانعٍ ، ومفصِّل . أما مسألة تتبع الرخص فهي أعم من سابقتها ، فصاحبها يكتفي من فتياه بموافقة قول إمام - ولو كان نادراً - من غير نظرٍ في ترجيحٍ أو دليل، ويجعل كل خلاف دليلاً على الحلِّ أو التحريم . وهذا الفرق أشار إليه أبو العباس ابن تيمية في (( المسوّدة )) فقال : (( قلت : التخيير في الفتوى والترجيــــح بالشــهوة ، ليس بمنزلة تخيِّر العامي في تقليد أحد المفتين ، ولا من قبيل اختلاف المفتين على المستفتي ، بل كل ذلك راجع إلى شخص واحد ، وهو صاحب المذهب ، فهو كاختلاف الروايتين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، راجع إلى شخص واحد ، وهو الإمام ، فكذلك اختلاف الأئمة راجع إلى شريعة رسول الله ش ، حتى إن من يقول : (( إن تعارض الأدلة يوجب التخيير )) لا يقول : إنه يختار لكل مستفت ما أحب ، بل غايته أنه يختار قولاً يعمل به ويفتي به دائماً )) . فإذا بان لك هذا الفرق فمذاهب العلماء في هذه المسألة لا تعدوا ثلاثة هي : الأول : منع الترخّص مطلقاً ، وهذا القول مبني على القول بوجوب الاقتصار على مذهب واحد ، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع ، فإذا لم يجز مخالفة الإمام في بعض المسائل ، فمن باب أولى ألاّ يجوز على وجه الإطلاق وهذا المذهب جزم به الجيلي في (( الإعجاز )) . الثاني : الجواز مطلقاً وهو قول ذهب إليه بعض العلماء . الثالث : المنع ، ما لم يكن الخلاف فيه سائغاً فيجوز ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة ، وجمهور السلف ، وحكى ابن عبد البر الإجماع على تحريم تتبع الرّخص للعوام ، وفسّقه الإمام أحمد ويحيى القطان ، ونُقل عنه قوله : (( لو أن رجلاً عمل بكل رخصة : بقول أهل المدينة في السماع يعني الغناء، وبقول أهل الكوفة في النبيذ ، وبقول أهل مكة في المتعة ، لكان فاسقاً )) . وحكى الزركشي أن إسماعيل القاضي قال : (( دخلت على المعتضد فدفع إلى كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، وما احتج به كل منهم ، فقلت إن مصنف هذا زنديق ، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلّة ، ومن جمع زلل العلمــــاء ، ثم أخذ بها ذهـب دينه ، فأمــــر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ))، وصحَّ مثل هذا الكلام عن طائفة من السلف . وهذا الكلام المنقول عن الأئمة محمول على إذا ما كان الخلاف غير سائغ، وآية ذلك أن الأئمة قد نُقل عنهم ما لا يحصى من المسائل ، في جواز الأخذ برخص العلماء إذا كان مما يسوغ الاجتهاد فيه فقد صحّ أن الإمام أحمد سئل عن مسألة في الطلاق فقال : (( إن فعل حنث )) فقال السائل : (( إن أفتاني إنسان: لا أحنث )) فقال : (( تعرف حلقة المدنيين ؟ )) قلت : (( فإن أفتوني حلّ )) ، قال (( نعم )) ، وروي عنه روايات أنه سئل عن الرجل يسأل عن المسألة فأدله على إنسان ، هل علي شيء ؟ قال : (( إن كان متبعاً أو معيناً فلا بأس ، ولا يعجبني رأي أحد )) . وعقد الخطيب البغدادي رحمه الله باباً في كتابه (( الفقيه والمتفقه )) سماه باب التمحل في الفتوى ، فقال : (( متى وجد المفتي للسائل مخرجاً في مسألته ، وطريقاً يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه ، كرجل حلف أن لا ينفق على زوجته ولا يطعمها شهراً، أو شبه هذا، فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها، أو دين لها عليه، أو يقرضها ثمن بيوتها ، أو يبيعها سلعة وينويها من الثمن ، وقد قال الله تعالى لأيوب عليه السلام لما حلف أن يضرب زوجته مئة ) وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ( [ ص : 44 ] )) ثم ساق الخطيب آثاراً كثيرة في هذا المعنى ، وهذا هو الفقه ، لا إفراط فيه ولا تفريط يقول النووي : (( ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرّمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعه ، أو التغليظ على من يريد ضرّه وأما من صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها ، فذلك حسن جميل ، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان( ) : (( إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد فيحسنه كل أحد )) )) . أما المذهبان الأولان فإنهما ليكادان يتساقطان من شدة الوهن ، فالأول قال بالمنع ، وبوجوب الاقتصار على مذهب واحد ، وهذا القول مخالف للإجماع لأن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين ، بل هو مخيَّر ، فإذا قلَّد إماماً بعينه ، وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه ، لاسيما الإجماع ، لا يرفع إلا بما مثله في القوة، كذا قال الشيخ عز الدين . ثم إن السنة قد جاءت في إيقاع العبادات على أوجه متعددة ، كالأذان ، والإقامة ، وأحاديث التشهد ، وصلاة الخوف ، وغيرها ، فمن الأئمة من اقتصر على بعض تلك الوجوه ، وترك الأخرى ، لظنه أن السنة لم تأت به ، أو أنه منسوخ ، فالتزام مذهب معين قد يؤدي إلى هجر هذه السنن . أما المذهب الثاني القائل بالجواز مطلقاً ، فما سبق من كلام الأئمة في هذا المبحث ، والمباحث الأخرى ، كافٍ في الرد عليه . وفي الجملـــة فالخير كل الخير في التوسط ، وصدق المرداوي حين قال : (( وهذا هو الصواب ، ولا يسع الناس في هذه الأزمنة غير هذا )) فنستدرك على الشيخ قائلين : (( بل لا يسع الناس في كل زمان غير هذا )) . |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 8 | |||
|
![]()
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 9 | |||
|
![]()
|
|||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc