من المباحث اللغوية والمصطلحات الشرعية التي تناولتها أقلام أكثر علماء الإسلام، وَاتَّفَقت نظراتهم فيها حينا واختلفت حينا آخر، هي معاني كلمات: الكفر، والإيمان، والإسلام، والشرك، والنفاق، والعصيان، والكبيرة.
وللإباضية في هذه المواضع مفاهيم كما لغيرهم، فكل المذاهب تأخذ أحكامها من كتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولكن قد يختلفون في طرق الاستنباط.
ومن هذه المفاهيم ما يلي:
? الإيمان والإسلام والكفر.
? كفر النعمة.
? الوعد والوعيد.
? الولاية والبراءة والوقوف.
? خلود العصاة في النار.
? الشفاعة.
وهذه القضايا مرتبطة ببعضها البعض، وتكمل بعضها بعضا، و يترتب عليها التعامل بين الناس.
مفهوم الإيمان:
يرى الإباضية أن النطق بالشهادتين وحده لا يكفي لأن يكون الإنسان مسلما، بل يلزم أن يترجم هذا القول والاعتقاد إلى عمل صالح، فالإسلام اعتقاد وقول وعمل، ولا يتم إسلام المرء إِلاَّ بهما معا. فالاعتقاد: هو الإيمان الخالص بالله وملائكته وكتبه ورسله. والقول: هو النطق بكلمة الشهادة، والعمل: هو الإتيان بجميع الفرائض، واجتناب جميع المحرمات، والوقوف عند الشبهات.
فطبيعة الإسلام تقتضي من الفرد المسلم أن يؤمن بالله ورسله، ثُمَّ يصرح بلسانه بهذا الإيمان، وبعدها يندفع للعمل بما جاء في هذه الرسالة التي آمن بها. ﴿ وَمَنَ اَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾ (فصلت) والثواب والعقاب في الآخرة منوطان بالإيمان والعمل معا، وليس بالإيمان ولا بالقول فقط دون ارتباطها ﴿ يَـآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَاَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَـقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ(3)﴾ (الصف). ولقد كان رسول الله (ص) يقول وهو يدعو الناس إلى الإسلام في مَكَّة: «أيها الناس، قولوا لا إله إِلاَّ الله تفلحوا» وكفار قريش كانوا يعلمون أَنَّها ليست كلمة تلاك بالألسن ولو كانت كذلك لقالوهَا، وعصمت دماؤهم، وَإنَّمَا هي التزام بمقتضى هذه الكلمة، وانقياد كامل لله ورسوله، وهم غير مستعدين لذلك، ولذلك فلم يؤمن إِلاَّ من أدرك المعنى الحقيقي للكلمة. وعلى هذا الأساس يفهم قول النبي (ص): «من قال لا إله إِلاَّ الله دخل الْجَنَّة». فمن قال: «لا إله إِلاَّ الله مُحمَّد رسول الله» عليه أن يعمل بمقتضاها، وهذا الذي عليه الإباضية، أَمَّا غيرهم فإن الذي يقرأ في كتب الإيمان والعقائد يجد عدة تفسيرات لهذا الحديث تترد بين رأي الإباضية، وبين من يأخذ بظاهر الحديث، ويقول: إِنَّ كلمة التوحيد كافية لدخول الْجَنَّة.
ومن هذا نفهم أَنَّهُ لا يختلف مفهوم الإسلام عن مفهوم الإيمان عند الإباضية إذَا تفرقا، فكلاهما شيء واحد من الناحية الشرعية، أَمَّا من الناحية اللغوية فمعنى كُلّ منهما واضح، فالإسلام: يعني الانقياد، والإيمان: يعني التصديق.
يقول الشيخ علي يحي معمر: «لو ألقيت نظرة إلى العالم الإسلامي الذي يموج بملايين البشر، يشهدون أن لا إله إِلاَّ الله وأن مُحمَّدا رسول الله، ويفخرون بأنهم مسلمون لأذهلتك النتيجة. تجد أحدهم يقول: لا اله إلا الله مُحمَّد رسول الله، لكن قلبه ممتلئ بحب غير الله، وجوارحه تتسابق إلى ما نهى الله عنه. فما وزن المسلم الذي لا يقرب الصلاة، أو لا يؤدى حق الله في ماله، وما وزن المسلم الذي ينفق الأموال في كُلّ سبيل إِلاَّ سبيل الله، ويشترك في كل مشروع إِلاَّ مشروع الخير، ويغشى كل مجلس إِلاَّ مجلس الذكر.
إنك تستطيع أن تجد آلاف الصور لملايين من البشر كُلّها تخالف ما أنزل الله، وهؤلاء كلهم محسوبون على الإسلام.
إن عشرة آلاف من المسلمين عندما كان الإسلام إيمانا وقولا وعملا استطاعوا أن يهدوا الملايين إلى دين الله بسلوكهم قبل أن يهدوهم بأقوالهم وأسيافهم، واستطاع أولئك الآلاف القليلة أن يثبتوا حكم الله قويا مزدهرا في بلاد الله وإن كان أهلها على غير الإسلام، لأَنَّ أولئك القلة كانوا مسلمين حقا بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم»[1].
كيف يحكم الإسلام على هؤلاء الناس الذي يؤمنون بالله ورسوله قولا، ويخالفون أوامر الله ورسوله عملا، وكيف يتعامل الفرد المسلم والمجتمع المسلم معهم. وما مصير هؤلاء في الآخرة. هذا ما سيأتي بيانه، ولكن قبل ذلك يلزم أن نبين أقسام الناس في الدنيا والآخرة وأقسام الذنوب.
كفر النعمة:
ينقسم الناس في الدنيا إلى مسلم وكافر.
أَمَّا المسلم فهو المؤمن التقي الموفي بدينه الحريص على إسلامه, القائم بالواجبات والمجتنب للمعاصي والسيئات، وهو الذي يرجو رحمة رَبِّه ويخشى عذابه ويتوب كُلَّ ما أذنب.
وأَمَّا الكافر: نوعان: كافر كفر شرك (الخارج من الملة) . وكافر كفر نفاق أو كفر معصية، وهو ما يطلق عليه الإباضية: كفر النعمة.
فالكفر بمعنى الشرك: لا يطلق إلاّ على من أنكر معلوما من الدَّين بالضرورة كوجود الله، أَو أشرك به غيره، أو أنكر شَيئًا الوحي أو الرسالة، أو البعث أو الحشر أو الحساب أو الجنة أو النار.
وكفر النفاق أو كفر النعمة: فيطلق على كُلّ من ارتكب كبيرة من الكبائر العملية كالسرقة والزنى والخمر، أو تركية كترك الصلاة وعدم صيام رمضان... وغيرها، والمذاهب التي لا تطلق الكفر على مرتكب المعصية الكبيرة، إِنَّمَا ذلك لأَنَّ الكفر عندهم مرادف للشرك[2].
وقد وردت كلمة الكفر بهذه المعاني في عدة آيات من القرآن الكريم، فأحيانا تأتي بمعنى الشرك، وأحيانا بمعنى كفر النعمة، كما وردت في أحاديث صحيحة عن النَّبِيّ (ص) ومن أمثلة ذلك من القرآن الكريم:
¨ قول الله تعالى: ﴿ لِيَـبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنـَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبـِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)﴾ (النمل)، ومعنى الكفر هنا: هو جحود نعمة الله تعالى وفضله وإحسانه.
¨ قول الله تَعَالىَ: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيـَةً كَانَتَ ـ امِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾ (النحل).
¨ قول الله تعالى: ﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)﴾ (آل عمران) والكفر هنا يعني: ترك الحج مع الاستطاعة.
¨ قول الله تعالى ﴿ وَمَن لـَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ(44)﴾ (المائدة)
ومن الأحاديث:
¨ قول النبي (ص) «من ترك الصلاة فقد كفر» وقوله أيضا: «بين العبد والكفر ترك الصلاة».
¨ قول الرسول (ص) : «الرشوة في الحكم كفر».
¨ قوله (ص) فيمن أتى كاهنا: «من أتي كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على مُحمَّد».
¨ قوله (ص) فيمن يتهاون بالصلاة: «من ترك الصلاة كفر».
¨ قول الله تعالى فيمن يتعامل بالربا: ﴿ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ اَثِيمٍ(276)﴾ (البقرة)
وكثير من هذه النصوص التي وردت بهذا المعنى، والتي إذا أمكن تأويل بعضها بالشرك أو بالردة، فإن بعضها الآخر لا يمكن تأويله إِلاَّ على كفر النعمة الذي هو بمعنى العصيان أو الفسوق، أو ما يطلق عليه أهل الحديث: «كفر دون كفر».
ففي كل الأمثلة السابقة لا يمكن أن نحصر كلمة «الكفر» على الخروج من الملة أو الشرك بالله، ولذلك يتبين تقسيم الكفر عند الإباضية إلى قسمين:
كفر شرك ، وكفر نعمة.
فكفر الشرك: مرتبط بأصول العقيدة، وهو مرادف للشرك.
أَمَّا كفر النعمة: فهو مرتبط بالأعمال، وكلاهما سماه القرآن كفرا كما في الآيات السابقة.
ولقد استغل بعض الكتاب المتحاملين على الإباضية - قديما وحديثا - إطلاق الإباضية كلمة الكفر على مرتكبي الكبائر من المسلمين، فقالوا بأن الإباضية يقولون بكفر مرتكبي الكبائر من المسلمين دون أن يبينوا معنى الكفر المقصود، ذلك لأَنَّهُم يفهمون معنى الكفر بأنه الكفر المرادف لكلمة الشرك: وهو الخروج من الملة، ومن ذلك يفهم القارئ من هذه الكتب كأن الإباضية يقولون: بأن مرتكب الكبيرة مشرك، وهذه مخالفة للحقيقة، بل من الشبه التي استغلت على مدى التاريخ للصد عن الفكر الإباضي, فكثير من الناس حين يسمعون أن الإباضية يحكمون بكفر عصاة الموحدين، يحسبون أن هذا الحكم إخراج للمسلمين من الدين، وحكمٌ عليهم بالشرك، وهذا ما ذهب إليه الخوارج، فالإباضية فرقة من الخوارج، وهكذا يبنون نتائج على مقدمات كاذبة مشوهة، فيتورطون في خطأٍ شنيع، وينسبون إلى فرقة من أحرص فِرَق الإسلام على قول الْحَقِّ واتباعه، ومن أشدها تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله، ينسبون إليها أقوالاً وآراءً هي أبعد عنها من الذين ينسبونها إليها، ولو رجع هؤلاء إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإلى سنة رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، ثُمَّ اطلعوا على كتب الإباضيَّة وناقشوها في أدلتها ومستنداتها، وعرضوها على الميزان الذي وضعه مُحمَّد (ص)، وفهموا المعنى الذي يقصده الإباضية من كلمة الكفر حين تطلق على الموحدين، إِنَّهُم لو فعلوا ذلك لوفروا على أنفسهم وصمة الجهل، وعلموا أن هؤلاء الناس يحاسبون أنفسهم على كُلّ دقيقة وجليلة، قبل أن يحاسبهم الناس، وأَنَّهم لا يقدمون على قول أو عمل، إِلاَّ إذا انبنى على آية محكمة أو سنة متبعة. وأعتقد أن ما تَقَدَّم يكفي لإيضاح المقصود من إطلاق كلمة الكفر على العصاة ويقصد بذلك كفر النعمة.
وقد يسأل سائل لماذا استعمل الإباضية كلمة الكفر على العصاة، ولم يستعملوا كلمة أخرى مثل الفسوق والنفاق، والسبب كما يقول الشيخ علي يحي معمر رحمه الله :
«أَوَّلاً: أَنَّها الكلمة التي أطلقها القرآن والسنة النبوية عليهم في كثير من المناسبات كما ذكرنا بعضها فيما سبق.
وثانيا: أن كلمة النفاق كان لها أثرا خاصا في تاريخ الإسلام، فقد اشتهر بها عدد من الناس في زمن رسول الله (ص)، آمنوا ظاهرهم ولم تؤمن قلوبهم. فكان القرآن الكريم ينزل بتقريعهم ويفضح بعضهم، ويتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، حتَّى اشتهروا بهذا الاسم، وعرفوا به قال تعالى ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنم بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمُ, إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)﴾ (التوبة)
ولقد استعمل الإباضية كلمة الكفر في وصف العصاة الذين يرتكبون الموبقات أو ما يشبهها، لأَنَّ الرسول (ص) حين وصف تارك الصلاة والراشي والمرابي وغيرهما بالكفر، ولم يحكم عليهم بالشرك أو الردة أو الخروج من الملة.
فاستعمل الإباضية كلمة الكفر في المواضع التي استعملها القرآن الكريم ورسول الله (ص) وفيما يشبهها، وهي تعني كفر النعمة كما هو واضح من الآيات والأحاديث السابقة.
ومن الجدير بالذكر أنه قد وافق الإباضية على إثبات كفر النعمة جماعة كبيرة من العلماء؛ منهم: البيهقي، وابن الأثير، وابن العربي، والحافظ ابن حجر، والعيني، والقسطلاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وابن عاشور، وغيرهم»[3].