ومن تحصيل الحاصل الإشارة إلى أن الرجز كان ، فوق مصاحبته للإنسان العربي في خصوصيات حياته ، في بيته وعمله وسفره ، إطاراً للحماسة الحربية والفخر بالنفس أثناء القتال بخاصة – والأمثلة على هذه الظاهرة مما لا داعي إلى إنفاق الوقت والحيز فيه .
وإذا استقر بنا هذا الوضع ، ساغ لنا أن نجعل الرجز منطلقاً للقول :
إن للأدب الشعبي فنوناً تختص به وتتضمن معانيه التي تتدفق بها شجون الحياة ، وينبض بها نبضها الذي يعد الدقائق والثواني والأيام ، ثم عد السنين والأجيال والقرون .
ومن هذه الفنون ما يصور الصلة الإنسانية بين الأم والطفل ، وهي صلة ، قد لا تعد من المواقف المهيبة الرهيبة ولا يوصف موضوعها بالجلالة والسمو ، لكنها ، بإنسانيتها وطبيعتها ، تعد بالمقياس الحاضر نفسه تجارب شعرية حقيقة لصدروها عن التجربة والإحساس لا عن الثقافة والتعلم والإنشاء .
من هنا فإن ترقيص الأطفال ، الذي يعبر عن هذه الصلة ويصورها شعراً ، إنما هو أدب شعبي أصيل يصدر من شغاف الأم وهي ترى ثمرة أحشائها بين يديها تخاطبها وتتمنى لها الأمنيات وتفخر بها وتدللها وترقصها حتى تطيب نومتها ولا عجب أن يكون الرجز هو الإيقاع الذي انصبت فيه هذه الأشعار ، أو فلنسمها الأغاني المرقصة ، فهو الوزن الأقدم للتعبير الشعري الذي يصلح للصلة القدمى بين الأم ووليدها ، وهو إيقاع أو وزن يحفل بالحركة والنشاط والسرعة والحماسة .
فمن هذه الأشعار ما يرقص بها الذكر ومنها ما ترقص بها الأنثى .
فمن نماذج الأولى قول أمنا التراثية :
يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامي في البلد
أهكذا كل ولد
أم لوم يلد مثلي أحد (10)
وقالت أم أخرى ترقص بنتها :
ماذا علي أن تكون جارية
تمشط رأسي وتكون الفالية
وترفع الساقط من خماريه (11)
وما أجل هذا الرجز الصريح البسيط الصافي من الأكدار ومن الأغراض التي تناولها الأدب الشعبي القديم ، ما رأينا من النصوص التي يرددها الكهان ، وكذا قصص الأبطال ووقائع الحروب وأحاديث السمار التي يراد بها ( الخرافات الموضوعة من حديث الليل ، أجروه على كل ما يكذبون من الأحاديث وعلى ما يستملح ويتعجب منه ) (12) ، وأطلقوا عليها اسم أحاديث خرافة (13) .
ومن الموضوعات التي طرقها الأدب الشعبي :
قصص المحبين العذريين الذين ماتوا حباً :
ومنهم ، المزقش الأكبر ( عوف ، أو عمرو ، بن سعد البكري ، ت نحو 75 ق.هـ / 550م ) ، وعمرو بن عجلان النهدي ( ت 46 ق.هـ / 566م ) . وتوبة بن الحمير العذري ( ت 30هـ / 650 ) ، وقيس بن ذريح الليثي ( ت 68هـ / 688م ) .
ومنهم المغناطيس الأكبر لجذب الأساطير والأشعار وتجميعها ، وخزانة المبالغة في العذاب ، ونعني به قيس بن الملوح العامري ( ت نحو 70 هـ / 690م ) وصاحبته ليلى اللذين عبرت أسطورتهما حدود الجنس العربي إلى الآداب الشرقية وحظيت بأكبر قالب جديد يسابق به الخيال ويضع لها تفصيلات تجوز المقدار لتثير العطف والعواطف ، وتجري بالدموع كالسيول على مثال العشق وإمام العاشقين قيس بن الملوح العلوي (14) .