هذه الدولة العظيمة يقتضي الحديث عن الأسس التي قامت عليها، والرسالة التي تحملها إلى الناس كافة، وعن رصيد هذه الأسرة الكريمة التاريخي في الوفاء بحق مبادئ الدعوة الإصلاحية في جزيرة العرب، والتضحيات الجسيمة التي قدمها قادتها وأفرادها وكل المؤمنين بها عبر التاريخ، والسير الوضيئة لأئمة هذه الدولة ورجالاتها، والإنجازات التي تحققت في ظلها في كل العصور. وقد حاولت في هذا البحث المتواضع أن أعطي صورة مجملة عن الحالة السياسية والدينية والمعيشية في الجزيرة العربية قبيل قيام الدولة السعودية، وما كانت عليه من سوء وتخلف وانحراف ، وما ظهر فيها من البدع والخرافات والجهل بأمور الدين والدنيا، والتقصير في أداء فرائض الإسلام والجهل بأصوله وأحكامه.
وأن ذلك كله من بواعث حركة الإصلاح في الجزيرة العربية، وقيام الدولة السعودية، وأن الدولة السعودية دخلت التاريخ الحضاري بتلك البيعة المباركة التي تمت بين الإمامين الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبدالوهاب، وظلَّ قادتها أوفياء لمبادئ الدعوة ومنهاجها في العمل الإصلاحي ومضامينها التي تضمنتها كتب إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورسائله وإجاباته، ومثلتها الدولة السعودية في واقع الحياة في أدوارها المختلفة، كما أخذت العبرة والدروس البالغة في نجاح مشروعها الحضاري في إقامة دولة إسلامية عزيزة الجانب، في حين فشلت كل المشاريع الأخرى الإصلاحية، التي حاول أصحابها إقامتها على غير الإسلام، وفي مسيرة هذه الدولة عبر التاريخ وما يحصل لها من لطف الله في التأديب كلما تراخت الدولة في الالتزام بمبادئ الدعوة التي قامت عليها، حتى تعود إلى مركز القيادة مرةً أخرى وهي أقوى مما كانت عليه.
ولا شك أن الملك عبدالعزيز- رحمه الله- مؤسس هذه الدولة العظيمة التي نتفيأ ظلالها الوارفة اليوم، من أعظم القادة العظام في العصر الحديث؛ لأنه حقق لأمته ما لم يحققه لها غيره، أقام هذا الكيان على نفس الأسس التي قامت عليها الدولة السعودية الأولى، وكان وفياً لمبادئها ومضامينها، ومقدراً لجهود المؤمنين بها معه في إقامة هذه الدولة الإسلامية العتيدة، وأنه حقق مشروعه الحضاري وفق منهج إصلاحي متميز، وأن أبناءه البررة كانوا سواعد قوية له في التأسيس، وترسية القواعد وإشادة البناء وتطوير الحياة بكل مرافقها وأوجه النشاط فيها.
وقد حاولت في هذا البحث أن ألقي الضوء على كل هذه الأمور الآنفة الذكر بصورةٍ مجملة، وبما يسمح به حيز هذا البحث المحدد الصفحات، كما حاولت أن أجيب عن سؤالٍ مهم يتعلق بالمسؤولية عن تنمية مكتسبات الدولة السعودية الحديثة وكيفية المحافظة على منجزاتها في خطوط عريضة عامة.
أرجو أن أكون بذلك قد وفيت بالتزامي بالكتابة عن هذه الدولة العظيمة ورسالتها الإصلاحية الخالدة بصورةٍ تبين أن هذه الدولة جسدٌ والدعوة لها بمثابة الروح ، وأن تتحقق بهذا البحث المنفعة والفائدة والتذكير بالأسس التي قامت عليها هذه الدولة وأن يحظى بالقبول من لجنة المؤتمر الموقرة ،والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المبحث الأول : الفصل الأول : الحالة السياسية في نجد قبيل قيام الدولة السعودية:
تعد الفترة الواقعة بين القرن العاشر ونصف الثاني عشر الهجري من أحلك فترات التاريخ بالنسبة للجزيرة العربية وأشدها عتمة، إذ إن هذه المنطقة من العالم الإسلامي ظلت بعيدة عن مراكز الخلافة التي قامت في الشام وبغداد والقاهرة واستنبول، وقليلة الحظ من العناية التي كانت تحظى بها كثيرٌ من البلاد الإسلامية، لا سيما في العصور المتأخرة في أواخر العهد العباسي، ثم في دولة آل عثمان لا في مجال واحد بل في مجالات متعددة، منها الأمن والتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية وغيرها ،ولم تقم في هذه المنطقة من العالم الإسلامي دولة مستقلة ترعى شؤون هذه الناحية بعد الدولة الأخيضرية، بل ظلت مرتبطة ارتباطاً عاماً بدولة الخلافة في استنبول ،ويدير شؤون كل بلد أو قرية أميرها المحلي . ودولة الخلافة العثمانية في هذه الفترة من التاريخ قد دبَّ في أوصالها الضعف والوهن ودخلت مرحلة الشيخوخة والهرم، وظهرت فيها بوادر الانحلال واستبداد الوزراء والولاة وقادة الجيش الانكشاري في كثير من أمور الخلافة، وجباية الأموال وفرض الضرائب وإيقاع المظالم.
والجزيرة العربية في هذه الفترة التاريخية قد تراكمت عليها آثار الإهمال الطويل، وفقد فيها الأمن، وقلَّ فيها العلم، وفشا فيها الجهل، وضعفت فيها الزراعة والتجارة، وكثرت فيها الحروب والفتن، وظهرت فيها العصبيات الجاهلية للأسرة والقبيلة والبلد، وصار كل رئيس قبيلة فيها كأنه قائد جيش تحت إمرته المئات من المسلحين، وأحياناً عشرات الألوف، فكانت بذلك هذه الناحية من العالم الإسلامي قليلة الخيرات والعوائد، ومكلفة في ضبط أمنها ورعاية شؤونها، ولهذا لم يكن لخلافة آل عثمان في هذه الفترة التاريخية مصلحة تستدعي تحمل نفقات توطيد الأمن وتأمين السبل ونشر العلم، ومع هذا فإن الدولة العثمانية في هذه القرون تعيش فترة ضعف شديد سميت على أثره بالرجل المريض ولهذا اكتفت الخلافة العثمانية بالتواجد في الحرمين الشريفين، وسواحل الجزيرة العربية، وأهملت داخل الجزيرة، ولهذا تركت هذه الناحية وشأنها فسادت فيها الفوضى وعم الخوف وقطعت السبل وكثرت الفتن وصار النهب والسلب من أهم وسائل الكسب.
وقد عاشت نجد في هذه الفترة التاريخية أشدَّ فترات تاريخها في كل جانب من جوانب الحياة، حتى فقدت كل أنواع الأمن والراحة ،وبشكلٍ لم يشهد التاريخ له مثيلاً من قبل.
هذا ومع أن تاريخ الجزيرة العربيـــة في تلك الحقبــــة لم يكتــــب، وما كتب منــــه لا يتجاوز ذكر بعض الحوادث العظيمة ذكراً مجرداً لا يوضح ملابساتها ودوافعها أو موضعها، والآثار التي ترتبت عليها ،وكما قال المؤرخ عثمان بن بشر " وأعلم أن أهل نجد وعلماءها القديمين والحديثين لم يكن لهم عناية بتاريخ أوطانهم ولا من بناها ولا ما حدث فيها وسار إليها وسار منها إلا نوادر يكتبها بعض علمائهم هي عنها أغنى، لأنهم إذا ذكروا قتالاً أو حادثة قالوا : في هذه السنة جرت الواقعة الفلانية ولا يذكرون صفتها ولا موضعها ،ونحن نعلم من زمن آدم إلى اليوم كله قتال ،ولكن نريد أن نعرف الحقيقة والسبب وما يقع فيها من الغرائب والعجب وكل ذلك في تاريخهم معدوم" (1).
ومع هذا الإهمال والتقصير من علماء نجد في العناية بتاريخ هذه المنطقة فإن نظرةً فاحصةً فيما دوَّنه الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه وما عنون له بكلمة (سابقة) وأتى في كل سابقة تحت كل سنة لاحقة من الأحداث ما يدل على سوء حال نجد في أخبار تلك السوابق التي بدأها بأول سابقة في سنة خمسين وثمانمائة وكانت تقطر دماً، إذ ذكر فيها أن صدر وادي حنيفة يسكنه ثلاث أسر هي أسرة آل معمَّر في أعلى وادي حنيفة من الجبيلة إلى حريملاء،فوق " غصيبة لآل يزيد إلى دون الجبيلة، وفي هذه السنة يقول ابن بشر: " قدم ربيعة بن مانع من بلده المسماة الدرعية عند القطيف على ابن درع صاحب (حجر والجزعة) قرب الرياض فأعطاه ابن درع (المليبد وغصيبة) المعروفين في الدرعية فنزل ذلك وعمره حتى قال : ثم ولد لمانع المذكور ربيعة وصار له شهرة واتسع وحارب آل يزيد ثم بعد ذلك ظهر ابنه موسى وصار أشهر من أبيه، واستولى على الملك في حياة والده، واحتال على قتل أبيه ربيعة، فجرحه جراحاتٍ كثيرة وهرب إلى أحمد بن حسين ابن طوق رئيس العيينة، فأجاره وأكرمه لأجل معروفٍ سابق عليه، ثم إن موسى سطا بالمزايدة وجميع المؤلفة على آل يزيد في النعمية والوصيل وقتل منهم في ذلك الصباح ثمانين رجلاً، وتشتت آل يزيد ولم تقم لهم قائمة "(2).
هذه الصورة التي ذكرها الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه عن حالة الناس في وادي حنيفة خاصة ونجد بصفةٍ عامة في هذه السابقة تحكى حياة الناس في مختلف أقاليم نجد، فثلاث عوائل في الجزء الأعلى من وادي حنيفة، كل أسرة لها حدود وإمارة واستقلال عن أختها، وبينها تقوم الحروب والفتن والمنازعات على الحدود والمراعي والمياه ولأتفه الأسباب، وكم في هذا الوادي من البلدان والأسر التي لها الأوضاع نفسها وتتكرر فيها هذه الصور، هذا في القرن التاسع الهجري.
والسابقة الأولى في تاريخ ابن بشر وفي كل قرنٍ من القرون التالية حوادث وأخبار لا تقل عن هذه الصورة، ولكن على يد بعض الأشراف والأتراك، في حملاتٍ ظالمة مارسوا فيها أشدَّ أنواع الظلم والتعسف ونهب الأموال وسفك الدماء وتخريب الديار.
وفي سابقةٍ أخرى قال رحمه الله: " وفي سنة إحدى وأربعين وألف خرج زيد بن محمد الشريف أمير مكة جلوي على نجد، وتولى مكانه نامي بن عبدالمطلب من جهة الترك، ثم انهزمت دولته وتولى زيد المذكور، وكانت ولاية نامي مائة يوم بعدد حروف اسمه، وفيها مقتل آل تميم، قتلوا في مسجد القارة المعروفة بصبحاء في سدير".
وفي القرن الحادي عشر ذكر ابن بشر في سوابقه " أنَّه في سنة 1058هـ قتل دوَّاس ابن محمد بن عبدالله بن معمر رئيس بلدة العيينة، وتولى في العيينة محمد بن حمد بن عبدالله وأجلى منها آل محمد فلم تتم لهم الولاية في العيينة إلا تسعة أشهر"(3).
وفي القرن الحادي عشر الهجري: نقل الشيخ ابن بشر في سوابقه " أنَّه في سنة أربع وثمانين وألف وقعة القاع المشهورة بين أهل التويم وأهل جلاجل، قتل رئيس جلاجل إبراهيم بن سليمان ورئيس بلد التويم محمد بن زامل بن إدريس بن حسين بن مدلج، وعدة رجال من الفريقين، وفيها تولى راشد بن إبراهيم في بلد مرات القرية المعروفة ناحية الوشم، وفيها قتل أمير الدرعية ناصر بن محمد وأحمد بن وطبان"(4).
وفي القرن الثاني عشر الهجري ذكر ابن بشر في سوابقه: " أنه في سنة خمس ومائة وألف هجرية وقعت الحرب بين أهل سدير وقتل فيه محمد بن سويلم بن تميم رئيس بلد الحصون ، وفيها كانت وقعة بين أهل ثادق وأهل البير قتل فيها حمد بن جميعة وغيره وأخذ أهل ثادق خيل ابن معمر، وفيها عدا نجم بن عبدالله على آل كثير وحجروه في بلد العطار وأظهروه آل أبي سلمة"(5).
ولم تكن هذه الحوادث والفتن خاصة بنجد ، بل يجري مثلها في مكة والمدينة والأحساء وغيرها من نواحي الجزيرة العربية.
فيذكر ابن بشر " أنه في سنة 1105هـ ظهر سعد بن زيد صاحب مكة على نجد ووصل الحمادة المعروفة ثم رجع ووقع بينه وبين الحاج فتنة وكثر القتل والقتال في مكة والحرم"(6).
وفي سابقة أخــــرى قال: " وفي سنة ثلاث أو اثنين ومائة وألف هجرية مات محمد آل غرير رئيس آل حميد وبني خالد وقتل ابن أخيه ثنيان بن براك، وقتل أيضاً في مسيرهم الأول حسن جمال وابن عبدان ثم قتل سرحان وتولى في بني خالد سعدون بن محمد آل غرير، قال العصامي في تاريخه وفيها تولى في مكة الشريف سعيد بن سعد بن زيد ولايته الثانية من السنة المذكورة"(7).
ونختم ما اخترناه من سوابق مؤرخ نجد الواقعة قبل ظهور الدولة السعودية، هذه السابقة إذ يقول فيها: " وفي سنة عشرين ومائة وألف قتل سلطان بن حمد العيسى رئيس الدرعية وتولى بعده أخوه عبدالله ثم قتل، وفيها قتل حسين بن مفيز صاحب التويم البلد المعروف في ناحية سدير، قتله ابن عمه فائز بن محمد وتولى بعده في التويم ، ثم إن أهل حرمة ساروا إلى التويم وقتلوا فائزاً المذكور ، وجعلوا في البلد فوزان ، ثم غدر ناصر بن حمد بفوزان فقتله، فتولى في التويم محمد بن فوزان فتمالأ عليه رجال وقتلوه، منهم المفرع وغيره من رؤساء البلد وهم أربعة رجال فلم تستقم ولاية لأحدهم فقسموا البلد أرباعاً كل واحد شاخ في ربعها، فسموا المربوعة أكثر من سنة.
قال ابن بشر وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليهـــا وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة، ولا تعرف الأشياء إلا بأضدادها فهذه قرية ضعيفة قليلة الرجـــال والمال وصار فيها أربعة رجال كلٌ منهم يدعي الولاية على ما هو فيـــه"(8).
تلك أمثلة مختصرة عما كان يتم في قلب جزيرة العرب قبل قيام الدولة السعودية، كل قرية فيها أمير مستقل بشؤونها ، ومسؤوليته لا تتعدى حدود بلده ، وعمران قريته، ومرعى سوارحهم ، وكثيرا ما تقع الخلافات والفتن والحروب بين القرية وجارتها في الوادي الواحد والناحية الواحدة ولأتفه الأسباب ، وغارات قبائل البادية متكررة على بعضها البعض، بل وعلى قرى الحاضرة ومواشيهم وثمار نخيلهم، والحروب واقعة ومستمرة في تأرجحٍ يوم لك ويوم عليك، فلا يوجد للخلافة العثمانية سلطان في هذه البلاد يزع الناس بعضهم عن بعض، ويؤمن السبل ويقضي بين الناس وفق نظام محدد، ويأخذ حق المظلوم ويردع الظالم، بل ترك الناس يموج بعضهم في بعض وهم في خوفٍ دائم وفتن متتابعة وسبل مقطوعة وتمزق لم يشهد له التاريخ مثيلا.
ولم تقم الفتن والحروب بين قريةٍ وأخرى فحسب، بل تقوم الفتن داخل البلد الواحد، وبين الأسر القاطنـــة فيها، وأحياناً تقـــوم الفتن داخل القريـــة الواحدة والأسرة الواحدة على الأمارة وغيرها، بل يقع الخلاف والاقتتال بين الرجل وأخيه أو ابنه وأبيه، فكل بلدٍ منقسم على نفسه وكل أسرة بين أفرادها خلافٌ، بل ثارات ودماء تؤجـــج روح الثأر والانتقام، حتى وجد في القريـــة الواحدة أكثر من أمير، بل أربعة أمراء في قرى صغيرة الحجم ، قليلة عدد الأفراد ، مثل : بلد التويم في إقليم سدير كما سلف، والأمثلة الشواهد على سوء الحالة السياسية في نجد خاصة ، والجزيرة العربية عامة كثيرة لا يتســـع البحث لذكرها، وما أوردناه من شواهـــد من سوابـــق المؤرخ عثمــان بن بشر- رحمه الله- كافٍ لإعطاء صورة عن تردي الأحوال السياسية في جزيرة العــرب.
فدولة الخلافة العثمانية في القسطنطينية واستنبول مكتفية بتبعية هذه الجزيرة لسلطانها بوضع حاميات محددة الإمكانات ليس لديها قدرة على تأمين السبل ولا إقامة العدل، ولا شأن لها بالتعليم ولا القضـــاء، بل غاية جهودها منصبة في بناء قلاع لتأمين هذه الحاميات، وتأمين مــــرور مصالح الخلافـــة عبر هذه الجزيـــرة، وتقوم بين الحين والآخر بحملات تأديبية لبعض القبائـــل والبلدان التي تعارض بعض هذه المصالح أو تعتدي عليها أو لا تقوم بما تؤمـــر بـــه.
وسوء الأحوال السياسية التي ذكرنا بعض الشواهد التاريخية عليها كانت أحد أسباب قيام الدولة السعودية وحركتها الإصلاحية التي دخلت بها التاريخ الحضاري من أوسع أبوابه وكتب لها به العمر المديد بحمد الله، ونرجو لها مستقبلاً مشرقاً واستمساكاً بهذا الدين أتم وأكمل.