نعم , الدعوة السلفية و "أهل الحديث" هي أحد أهم أسباب التخلف في العالم الإسلامي , و إن كان نمو و صعود هذا التيار له أسبابه السياسية و التاريخية. لكن المحصلة هي أن تيار العلوم النقلية تلقى دعما سياسيا من أصحاب السلطة السياسية القائمة على تغلب العصبيات و السيوف في مقابل إضفاء الشرعية الدينية على حكم المتغلبين , و لم يكن من مصلحة الحكام الفاسدين كما هو في كل زمان أن تنمو نخب مثقفة و متحررة عقليا , لان هذا يزعجها و يزيد من نبرة المحاسبة و النقد . و التيارات السلفية تكلفت بمهمة قمع هذه التيارات تحت مسمى محاربة البدعة و الزندقة . و انظم لهذه الحملة فئات شتى من الناس لأسباب قومية و قبلية و لصراعات تنشأ في كل المجتمعات بين الثقافة الحضرية و ثقافة البدو . و في الوقت الذي كانت فيه التجمعات الحضرية الكبرى منتعشة كان هناك ما يكفي من اجواء التعددية و الانفتاح على الثقافات الاخرى للأخذ منها و الإبداع و التطوير في شتى العلوم ممن كانوا يعتبرون زنادقة عند "أهل الحديث" و لكن بعد أن بدا الحنابلة بالانتشار بدأت حملاتهم الغوغائية الشهيرة في كتب التاريخ ضد مخالفيهم من المذاهب الفقهية الاخرى , فما بالك من موقفهم من الفلاسفة و علماء الرياضيات و الطبيعة الذين كانوا يمثلون الكفر و الزندقة , و هكذا نجحوا تدريجيا في تحريض العامة ثم السلطة السياسية على المثقفين و العلماء في ذلك الزمن و بد جليا للسلطة السياسية الفاسدة أن التحالف مع هذه الطبقة أنفع لها لأنها تحسن التلاعب بعواطف الناس و لأنها أكثر طاعة و انصياعا للسلطة من طبقة المثقفين المتنورين . و الامر ليس محصورا على الحنابلة وحدهم و الذين شكلوا إحراجا للسلطة بتطرفهم في كثير من الفترات بل ينطبق بشكل اكبر على المذاهب الاربعة و على الأزهر و المؤسسة الدينية بصفة عامة .
و التاريخ يا اخي شاهد بوضوح على ان صعود "أهل الحديث" و سلطة الفقهاء بشكل أعم ترافق مع تراجع الاهتمام بالعلوم العقلية . و مهما حول احدهم التباكي أو الإدعاء بأننا نفتري على الجماعة فالتاريخ يضل شاهدا على هذه الحقيقة , بل إن كتبهم لم تكتفي بتجاهل و إهمال هذه العلوم , بل حاربتها بشكل مباشر و غير مباشر , و التاريخ يشهد أيضا أنه منذ صعود هذه الفئة و العالم الإسلامي راح يبدد طاقاته في صراعات داخلية ظاهرها الخلاف الديني و باطنها الصراع السياسي و الاجتماعي , فتفككت الامبراطورية أو بالأحرى كان هذا التيار نتيجة لبداية هذا التفكك و إيديولوجية دينية تبرر الواقع السياسي و الاجتماعي .
ثم عن أي بركة تتحدث يا اخي , و نحن نرزح تحت التخلف و الجهل و الفقر و الظلم و الاستبداد منذ ان بزغ نجم السلفيات المختلفة , العصر الذهبي الوحيد للأمة الاسلامية هو عصر الرازي و ابن سينا و ابن الهيثم و جابر بن حيان و الخوارزمي ممن نجحوا في تقديم شيء ذو فائدة للبشرية حينما كانت هناك فسحة من الحرية للعمل و النشاط الفكري , لكن ما إن احكم تيار الفقهاء السيطرة على الدرس و التعليم حتى توقفت المسيرة , التي كان يمكن ان تؤدي إلى ثورة علمية حقيقة لو استمرت تلك النزعة العلمية . لكن تيار العلوم النقلية أجهض تلك النهضة العلمية و وأدها لتنتقل بذورها إلى أوروبا و تزهر من هناك نهضة علمية لا مثيل لها . و اليوم الفرق واضح جدا بين تلك الامم و امتها البائسة . عن أي بركة تتحدث , عن بركة طالبان و المحاكم الاسلامية في الصومال , أو عن القاعدة في شمال مالي !!!!!
إذا كانت تلك هي دعوة الحق كما تدعي فأين ثمارها ؟؟ لا أبدا , إن الشوك لا يثمر عنبا . في العشر القرون الاخيرة من تاريخنا , لم تزدهر غير العلوم النقلية و لم نزدد إلا تخلفا و ضعفا , التاريخ لا يرحم و لا يكذب . و الحقيقة لا يمكن طمسها .