( أصول الفقه الحركي )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فإن لكل فقيه أصولاً ينطلق منها في فتاويه واختياراته ، يبصرها المعتني بها ، وتكون محلاً للإلزام عند الخلاف ، ولما كان الحركيون يكثرون الكلام في النوازل ومخالفة العلماء ، كان لا بد لهم من أصولٍ ينطلقون منها ، وقد حاولت تلخيص هذه الأصول وأسميتها ( أصول الفقه الحركي )الأصل الأول : تغييب فقه سد الذرائع
الحركيون الذين عرفوا بما يسمى ب ( فقه التيسير ) ، لا يعتبرون هذا الأصل في الفقه الإسلامي شيئاً
ومما ينبغي معرفته أن ( سد الذرائع )أمرٌ متفق عليه عند أئمة الإسلام ولا خصوصية لمذهبٍ فيه دون مذهب كما يدعيه بعضهم ، وإنما خالف في ذلك أصحاب الحيل الذين اتفق السلف على ذمهم
قال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد أن سرد أدلة سد الذرائع في الشريعة الإسلامية من أكثر من مائة وجه (3/ 159) :
وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهى والأمر نوعان أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان أحدهما ما يكون المنهى عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين.اهـ
أقول : ولا خصوصية للإمام مالك بالقول بسد الذرائع وإنما خصوصيته في أنه - رحمه الله - كان يبالغ فيها حتى أنه ليمنع مما دعت إليه الحاجة أو المصلحة الراجحة سداً للذريعة
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (23/ 215) :
وأما مالك فإنه يبالغ في سد الذرائع حتى ينهى عنها مع الحاجة إليها .اهـ
وأهل الرأي أنفسهم صرحوا في كتبهم بإباحة خروج المرأة العجوز دون الشابة للصلوات ، واختلفوا في ماهية الصلوات التي يجوز الخروج فيها عندهم
قال أبو بكر الزبيدي في الجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري :
قَوْلُهُ : (وَلَا بَأْسَ أَنْ تَخْرُجَ الْعَجُوزُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَتَخْرُجُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فِتْنَةَ لِقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَلَهُ أَنَّ شِدَّةَ الْغُلْمَةِ حَامِلَةٌ عَلَى الِارْتِكَابِ وَلِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ غَيْرَ أَنَّ الْفُسَّاقَ انْتِشَارُهُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، أَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ فَهُمْ نَائِمُونَ وَفِي الْمَغْرِبِ بِالطَّعَامِ مَشْغُولُونَ وَفِي الْعِيدِ الْجَبَّانَةُ مُتَّسِعَةٌ فَيُمْكِنُهَا الِاعْتِزَالُ عَنْ الرِّجَالِ فَلَا يُكْرَهُ وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِظُهُورِ الْفِسْقِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَلَا يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ فَجَعَلَهَا كَالظُّهْرِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ جَعَلَهَا كَالْعِيدَيْنِ حَتَّى إنَّهُ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ إلَيْهَا بِالْجَمَاعَةِ.اهـ
أقول : وهذا هو عين فقه سد الذريعة بغض النظر عن تطبيقهم له ، فإنه مصادم للنص
والكلام في أدلة هذا الأصل يطول ، فليراجع من أراده إعلام الموقعين ، وإنما أردت هنا بيان أمرٍ مهم في هذا الباب يهمله الحركيون المنتهجون لما يسمى بـ( فقه التيسير )
وهو أن فقه سد الذريعة يصير أقوى في أزمنة الفتن ، التي يقوى فيها احتمال وقوع ما سد الشارع ذريعة التوصل إليه
قال الحكيم الترمذي في كتاب المنهيات :
فلما ابتعث الله رسوله الله صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام، أمرهم بالصبر والنزول على حكمه، وأكرم الأمة ببعثه، وبشرهم، وبين لهم الثواب في الأجل - وزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة، وعن كل ما أشبه النياحة، وكل سبب من أسبابها؛ حتى نهى عن البكاء؛ فقال في شأن ميت مات بحضرته: (إذا وجب فلا تبكين باكية). أراد بذلك حسم هذا الباب على المسلمين لحداثة عهدهم بأمر الجاهلية، حتى بلغ من حسمه أن نهاهم عن زيارة القبور.
فكذلك كل أمر حرمه الله، وكان لذلك الأمر أسباب، حرم تلك الأسباب الداعية إلى ذلك الأمر، منها تحريم الخمر؛ فلما حرمت الخمر زجر عن كل شراب في دباء، أو حنتم، أو مزفت، أو مقير، أو نقير؛ مخافة أن يشتد الشراب وهم لا يعلمون. وإن كان في زق فاشتد انشق الزق. فلما هدأت النفس،ومرنت عن الانتهاء عما نهوا عنه، أطلق لهم فقال:كنت نهيتكم عن النبيذ فاشربوا، ولا تشربوا مسكراً، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها معتبراً.
ثم قال: (ولا تقولوا هجراً)فبين عليه السلام علة النهى أنهم كانوا إذا زاروا القبور قالوا هجرا، فصاروا إلى النياحة، فلما تمسكوا وعقلوا الإسلام أطلق لهم الزيارة.
وحسم عليهم أبواب النياحة حتى إذا اهتدوا وفقهوا أطلق لهم من ذلك ما لم يكن به بأس.اهـ
أقول : والحكيم الترمذي على تصوفه إلى أن كلامه هنا غاية في القوة ، وقد سمعت الشيخ الألباني يقول كلاماً نحوه في شرح الأدب المفرد
وجاء في مجموع فتاوى نور على الدرب (14/ 463) لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز ما يلي :
297 - بيان صحة حديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها دعاء زيارة القبور
س: يستفسر السائل عن درجة الحديث الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سألته عائشة رضي الله عنها أن يعلمها الدعاء الذي تقول حينما تزور القبور، فعلمها. هل هذا حديث صحيح، وهل يدل هذا على جواز زيارة القبور للنساء ؟
ج: الحديث صحيح، ولكن كان في وقت الإذن، كان نهى الجميع، ثم أذن للجميع، ثم جاءت السنة الأخيرة بمنع النساء، وأمر الرجال بالزيارة، كان أول ما أسلم الناس نهاهم عن زيارة القبور؛ لأنهم حديثو عهد بكفر، فصار هذا حماية لهم من الشرك، وإبعادا لهم منه، ثم أذن.اهــ
أقول : فخلاصة كلام المشايخ أن النهي عن زيارة القبور في أول الأمر ، كان لحداثة الصحابة بأمر الجاهلية ، فنهوا عن زيارة القبور سداً للذريعة ، ثم وقع الإذن بعد ذلك ، وكذلك الانتباذ في الأسقية كان لقرب عهدهم من الخمر
فيستفاد من هذا قاعدة عامة ، وهي أن فقه سد الذرائع يقوى في أزمنة الفتن ، وهذا لا يعقله الحركيون
ففي الوقت التي ينتشر فيه التبرج بين كثيرٍ من نساء المسلمين وتنتشر العزوبة بين الكثير من شباب المسلمين بسبب غلاء المهور ، ويكثر التهييج الغرائزي في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة يأتي من يفتي بجواز الاختلاط أو الدراسة في الجامعات الاختلاطية ، بل ويرسل بعضهم النصائح التي يدعو بها للسماح للمرأة بقيادة السيارة
وفي الوقت الذي تنتشر فيه البدع ، ويقل فيه العلم يأتي من يدعو لمجالسة أهل البدع ومخالطتهم ( وهذه لأهل التمييع لا الحركيين )
وفي الوقت الذي ينتشر فيه الجهل بين المسلمين بالعقيدة السليمة ، يأتي من يشغل الناس بمناظرات الرافضة ، وينشرها أمام العوام ممكناً الرافضة من أسماع العوام
قال الخلال في السنة 801:
أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخُو أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ : كُنْتُ رَفِيقَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ , قَالَ : فَجَعَلْنَا نَسْمَعُ , فَلَمَّا جَاءَتْ تِلْكَ الأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا بَعْضُ مَا فِيهَا قَامَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاعْتَزَلَ نَاحِيَةً , وَقَالَ : مَا أَصْنَعُ بِهَذِهِ , فَلَمَّا انْقَطَعَتْ تِلْكَ الأَحَادِيثُ , فَجَاءَ , فَجَعَلَ يَسْمَعُ.
802: وَأَخْبَرَنَا مُقَاتِلُ بْنُ صَالِحٍ الأَنْمَاطِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ , يَقُولُ : كُنَّا إِذَا اجْتَمَعْنَا مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَجَاءَتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ فِي الْمَثَالِبِ , اعْتَزَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَتَّى نَفْرُغَ , فَإِذَا فَرَغَ الْمُحَدِّثُ رَجَعَ فَسَمِعَ , قَالَ مُقَاتِلٌ : وَسَمِعْتُ غَيْرَ شَيْخٍ يَحْكِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذَا.
فهذا الإمام أحمد مع كل ما حباه الله به من العلم ، كان حريصاً على ألا تطرق سمعه الشبهات حول الصحابة ، فما بالك بمن هو دونه ، وما بالك بالعوام
وفي الوقت الذي افتتن فيه الكثير من الناس ب( الديمقراطية ) ، يهجم الحركيون بكلهم وكلكلهم على الانتخابات ، دون بيان لمفاسد العملية الديمقراطية ، مما أدى بالكثيرين إلى الاقتناع بالديمقراطية ، وأنه لا صلاح ولا نجاح لنا إلا بها
بل ومع هذا وذاك يدعو كثيرٌ منهم إلى خروج النساء في المظاهرات ، ويسمي المظاهرات التي يختلط بها الرجال والنساء من أجل الديمقراطية ب( المباركة ) و ( الثورة النظيفة ) ، فهكذا بلغ كلف القوم بالديمقراطية إلى أن صارت أعراض المسلمين ثمناً بخساً في سبيل تحصيلها
بل بلغ الكلف بالديمقراطية أن يفتي القرضاوي بوجوب النزول في المظاهرات التي تدعو إليها ، وما أظنه يفتي بوجوب صلاة الجماعة ؟!
بل كثيراً ما يتهم السلفيون بالتشديد لأن عامتهم يقولون بوجوب إطلاق اللحية وتقصير الإزار ، ثم يأتي الحركيون ويفتون بوجوب المظاهرات ، ووجوب المشاركة في العمليات الانتخابية مع كل ما فيها من إشكالات شرعية ومشقة على الناس ، ولا يكونون بذلك متشددين !
وفي الوقت الذي ينتشر فيه الجهل بين المسلمين ، يدعو بعضهم عوام الناس وأشباههم إلى الاشتغال بالسياسة ومتابعة القنوات الاخبارية الفاجرة بحجة الاهتمام لأمر المسلمين ، مما أدى إلى انتشار الكثير من أخبار الكفار والفساق الكاذبة بين الناس ، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 38197:
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ يُحَدِّثُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ : حَجَّ عُمَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ خُطْبَةً ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : إِنَّهُ قَدَ اجْتَمَعَ عِنْدَكَ رِعَاعُ النَّاسِ وَسِفْلَتُهُمْ ، فَأَخِّرْ ذَلِكَ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَدِينَةَ ، قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ دَنَوْتُ قَرِيبًا مِنَ الْمِنْبَرِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ ، أَنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ : إِنَّ خِلاَفَةَ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَلْتَةً ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا ، إِنَّهُ لاَ خِلاَفَةَ إِلاَ عَنْ مَشُورَةٍ,, وهذا قد رواه البخاري (6830)
وفي هذا من الفقه أن أمور السياسة والحكم ، لا ينبغي إدخال رعاع الناس فيها ، خلافاً لدعاة حكم الدهماء أو ما يسمونه بالديمقراطية ! ، فكيف بإدخال العامة في متابعة وكالات الأنباء الكافرة ، التي لا يوثق بما تنقل للمسلمين ، وإذا كان الله عز وجل أمر بالتثبت من خبر الفاسق فما بالك بخبر الكافر
ومن ذلك أن فقيهاً حركياً لما سألوه عن الموسيقى التي تصاحب نشرات الأخبار ، فأجاب بأن هذا يعفى عنه لأنه من اليسير ، ولأن السماع غير الاستماع ، وتغافل الفقيه الحركي عن أن كثرة السماع تؤدي بالنتيجة إلى الاستماع ، وأن السماع أمرٌ عارض يعرض للمرء ، وأما موسيقى الأخبار فالمرء يعرف متى تبدأ ومتى تنتهي !
ولا حجة لهم بقاعدة ( ما حرم سداً للذريعة فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة ) ، فإن ذلك مقيد بكون المصلحة ( راجحةً ) ، ولا تكون( راجحةً ) إذا كانت المفاسد التي تقابلها أرجح ، فكيف إذا كانت المصلحة متوهمة ، والمفسدة متحققة أو قريبة التحقق لفساد كثيرٍ من أهل الزمان ؟
بل ربما نهى الفقيه عن الأمر المباح شرعاً ، سداً للذريعة لما يرى من فساد أهل زمانه
قال البخاري في صحيحه 869 :
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَمُنِعْنَ قَالَتْ نَعَمْ
أقول : فهذه أم المؤمنين وهي الفقيهة العاقلة ، جعلت ما أحدث النساء سبباً في منعهن مما كان مباحاً لهن أصلاً ، فكيف بما هو محرمٌ في الأصل ؟! ، مثل الاختلاط في المظاهرات والجامعات ومصافحة الأجنبية للرجل ، ووضع مساحيق التجميل ثم الجلوس أمام الرجال كما تصنع المذيعات في بعض القنوات ( الإسلامية )!
قال بدر الدين العيني في عمدة القاري (9/480) :
لو شاهدت عائشة رضي الله تعالى عنهما ما أحدث نساء هذا الزمان من أنواع البدع والمنكرات لكانت أشد إنكارا ولا سيما نساء مصر فإن فيهن بدعا لا توصف ومنكرات لا تمنع منها ثيابهن من أنواع الحرير المنسوجة أطرافها من الذهب والمرصعة باللآلىء وأنواع الجواهر وما على رءوسهن من الأقراص المذهبة المرصعة باللآلىء والجواهر الثمينة والمناديل الحرير المنسوج بالذهب والفضة الممدودة وقمصانهن من أنواع الحرير الواسعة الأكمام جدا السابلة أذيالها على الأرض مقدار أذرع كثيرة بحيث يمكن أن يجعل من قميص واحد ثلاثة قمصان وأكثر ومنها مشيهن في الأسواق في ثياب فاخرة وهن متبخترات متعطرات مائلات متبخترات متزاحمات مع الرجال مكشوفات الوجوه في غالب الأوقات .اهــ
ثم قال [9/ 481] :
فانظر إلى ما قالت الصديقة رضي الله تعالى عنها من قولها لو أدرك رسول الله ما أحدثت النساء وليس بين هذا القول وبين وفاة النبي إلا مدة يسيرة على أن نساء ذلك الزمان ما أحدثن جزأ من ألف جزء مما أحدثت نساء هذا الزمان .اهــ
أقول : وهذا يبطل احتجاجهم ب( تغير الزمان ) ، الذي اتخذوه مطيةً لإباحة العديد من المحرمات
فالجواب عليه بهذا : وهو أن تغير الزمان لا يعني بالضرورة إباحة المحظور ، بل ربما دل على توكيد النهي إذا كان الزمان زمان فتنة كما تقدم ، مثال ذلك تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين ، ولا يخفاك أن كثيراً من الحركيين يقيمون في بلاد الكفار
النهي معلل بعللٍ عديدة منها أن الإقامة بين الكفار مظنةٌ للتخلق بأخلاقهم ، بل ووقوع محبتهم في قلب المسلم والمرء مع من أحب كما صح الحديث بذلك
قال يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ [2/155] : حدثنا أبو اليمان حدثنا حريز عن سليم عن الحارث بن معاوية أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له كيف تركت أهل الشام فأخبره عن حالهم فحمد الله عز وجل ثم قال لعلكم تجالسون أهل الشرك فقال لا يا أمير المؤمنين قال إنكم إن جالستوهم أكلتم وشربتم معهم ولن تزالوا بخير ما لم تفعلوا ذلك .
أقول : فتأمل نهي عمر بن الخطاب عن مجالستهم ، وهم أهل ذمة وخوفه من مؤاكلتهم ، التي تؤدي إلى محبتهم والمحبة داعيةٌ إلى المشاكلة ، فكيف بمن يقيم معهم في ديارهم ؟
وقال ابن المبارك في الزهد 578 :
قال أخبرنا اسماعيل بن عياش قال حدثنى يحيى الطويل عن نافع قال سمعت ابن عمر يحدث سعيد بن جبير قال بلغ عمر بن الخطاب ان يزيد ابن أبي سفيان ياكل الوان الطعام فقال عمر لمولى له يقال له يرفأ اذا علمت انه قد حضر عشاؤه فأعلمنى فلما حضر عشاؤه اعلمه فاتى عمر فسلم واستاذن فأذن له فدخل فقرب عشاؤه فجاء بثريدة لحم فاكل عمر معه منها ثم قرب شواء فبسط يزيد يده فكف عمر ثم قال عمر والله يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام والذي نفس عمر بيده لأن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقتهم.اهـ
أقول : فيه أن ترك التشبه بالكفار في الأمور التي يستصغرها الناس ، ذريعة إلى ترك التشبه بما هو أكبر ، والعكس بالعكس
والآن نعود إلى موضوعنا الأصل ، وهو ( هل تغير الزمان دل على إباحة هذا المحظور ؟)
الجواب : أن تغير الزمان جعل الهجرة إلى بلاد الإسلام آكد و آكد ، فإذا كان عمر بن الخطاب ينهى عن مخالطة أهل الذمة ، وهم تحت حكم أهل الإسلام ، فكيف نذهب اليوم إلى بلاد المشركين ولهم قوانينهم التي يفرضونها على المسلمين وفيها ما فيها ؟
ففي الكثير من بلدان الكفر ، يفرضون على الرجل أن يخلي بين ابنته أو أخته والزنا إذا هي أرادت ذلك ، على أن تكون قد بلغت السن القانونية لذلك ، ولها أن تقاضيه إذا منعها من ذلك ، وساعتئذٍ سينال العقوبة التي يستحقها لأنه حد من حريتها ، وبعد ذلك سيتم إخراجها من تحت وصايته ، وتكون تحت وصاية الحكومة لتفعل ما تشاء ، هذا مع كون عامة المدارس والجامعات هناك اختلاطية ، فالخطر أقرب إلى المرء من شراك نعله
هذا القانون الذي يفرض على المرء أن يكون ديوثاً ، لم يكن موجوداً في بلدان الكفر التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة مع أهلها ، فهذا يؤكد النهي لا يلغيه
بل اليوم تمتحن بعض دول الكفر نساء المسلمين بلباسهن ، فيمنعوهن مما شاءوا ، ويفرضون ترك الحجاب ، فبدلاً من الهجرة تخرج النساء اللواتي تشبعن بالفقه الحركي إلى الشارع في مظاهرة للتنديد بالتضييق عليهن ، وتأتي طغمة من العلوج ويقومون بتفريق المظاهرة ، وأنت خبيرٌ بما يحصل في تفريق المظاهرات من الهرج والمرج والتدافع ، فإلى الله المشتكى من جناية الحركيين على أعراض المسلمين
بل ربما كان تغير الزمان سبباً في المنع ، مما كان مباحاً في الأصل ، فالزواج من الكتابية المحصنة مباحٌ عند عامة الفقهاء ، ولكن في العديد من البلدان اليوم حق الحضانة عند الطلاق يكون للأم ،وهذا يعرض الولد للتنصير أو التهويد وقد وقع ذلك في عدد من الحالات ، فهنا يمنع الفقيه الحاذق من هذا لهذه العلة
والمراد قوله هنا أن تغير الزمان لا يدل دائماً على إباحة المحظور ، كما نشره فقهاء ( التيسير ) بين الناس ، وتلقاه عنهم الكثير من العوام
يتبع ان شاء الله