بــــسم الله الرحمن الرحيــــم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قبيل مغرب يوم الإثنين السادس جمادى الأولى سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة و ألف من هجرة النبي صلى الله عليه و سلم ، الموافق للخامس عشر من فبراير سنة ستة عشر و ألفين من ميلاد النبي عيسى عليه السلام .
أدرت العِمامة فوق رأسي متلثِّما ، و تعطّرت متضمِّخا مُتشمِّما ، ثمّ خرجت شطر المسجد متيمِّما، قبيل الصّلاة ، و كالعادة كوّمت جسدي فوق صخرة و أسندتُ ظهري إلى الحائط ، أنتظر أن تتوار الشّمس بالحجاب ، و يَشرع قيِّم الجامع في فتح الأبواب .
و بينما أنا من شدّة البرد أتأبّط كفَّيَّ و أضمُّهما من الصّقيعِ إلى جناحيّ . إذ وقفت بجانبي شاحنة صغيرة ، يقودها رجل غريب عن البلد ، فسلّم و تقدّم ، ثمّ أحجم ثم تكلّم ، و قال قولا يقوله النّاس عندنا ( ضيف الله ) ــ بغضّ النّظر عن جواز ذلك أو بطلانه ــ و يقصدون به : عابر سبيل ، فهل من مُضيف ؟
فقلت مرحبا بالضّيف ، بعد أن رددت السّلام .
ثمّ وقفت و عانقته ، فسألته عن حاله ، فقال : إنّه ذاهب إلى غرداية حيث نشأ و يقيم ، و قد أتى عليه النّهار جُلُّه و هو خلف عجلة القيادة ، فركبه من التّعب أمثال الجبال ، و لا يزال بينه و بين وُجهته مفاوز و قفار تنقطع دونها أعناق الإبل و تذوب من هولها أكبادها .
فقلتُ له : المبيتَ و العَشاء .
فقال : إن شاء الله .
فوعدته اللُّقيا بعد الصّلاة .
و بعد انصرافنا منها ، ذهبنا إلى المنزل ، فأعددت له مُتَّكئا ، و بادرت إلى حفنة من جمر فأوقدتُ عليها ، و أعدّتْ أهلي صينيّة الشاي ، مُكتملة الآلة بهيّة الهالة .
و أردت ــ على عادتنا ــ أن أُؤنس ضيفي ، فكالمت جماعة من الإخوان ، ليحضروا قعدة الشاي ، لهم في الأحاديث بدع و فنون ، نزيهة عن آثام أهل البدع و المجون ، بريئة من سفاسف السُّفهاء و ذوي الجنون . قوم تحْلُوا بوجودهم المجالسة و تتمُّ بقربهم المجانسة .
ثمّ وضعت المِجمر بيني و بينه ، و تربّعت على الصينية ، فارخيتُ عقدة العمامة و كشفت اللّثام ، فظهرت تحته لحية أشدُّ سوادا من كُحل أصبهان .
فرأيت أن العَجَبَ نزل عليه كالفيضان ، و أصبح من هول ما رأى بين النّائم و اليقضان .
و ما إن حططت البرَّاد على الجمر ، و أعددتُ الفِرَنَّةَ ( المِجمر أو الكانون ) لهذا الأمر ، حتّى دُقَّ الباب ، و سلّم الأصحاب و الأحباب .
ففتح ابني لهم و إلى صدر المجلس أولجهم . رجالٌ تُزين وجوههم لحىً كآساد الغاب ، و تُسفر ثغورهم عن سيماء الحلِّ و التِّرحاب .
فسلّموا و رحّبوا بالضّيف ، سلاما أحرّ من الرّمضاء في الصّيف ، و هنا هرب الدّم من وجه صاحبنا حتى صار كالسّيف .
و صار الإبريق يقعدُ على أبردَ مما يقعد عليه ضيفنا ، و حدثته نفسه بليلة صبحُها لا يتنفّس و فجرُها لا يُتحسّس .
و عندما أمسى الحديث ذو شجون ، أبان صاحبنا أن الصّمت له فنون ، ثمّ اعتذر بأنّه يريد أن يُهاتف أحدا ، فأوصلته إلى الباب .
فقال : إنه ذاهب إلى المسجد .
فقلت له : و الشاي ؟
فقال : لا إرب لي فيه .
بالرّغم من أنّه قبل أن يُكشف اللّثام ، و تظهر اللّحية للكرام ، كان الشّاي هو المُبتغى و المرام .
فقلتُ : دونك و ما تريد ، و المهمُّ العَشاء . فقال : بعد العِشاء .
ثمّ دخلت ، فسألني الإخوان عن الضيف ، فقلت : عابر سبيل ، و قد سأل الضِّيافة فوجبت ، و لست أعرفه قبل السّاعة .
فقال أحدهم : أيريد المبيت ؟
فقلت : نعم .
فقال : إنّ هذا الأمر لا يخلو من مخاطرة ، و ما تدري من الرّجل ؟
فقلت : سيكون خيرا إن شاء الله ، و ما ينبغي لنا أن نظنّ سوءا بالرّجل .
فقال : إذهب به إلى مكتب الدّرك ليأخذوا معلوماته زيادة في الإحتياط .
فقلت : لا تطاوعني نفسي ، و لا أرى هذا من أفعال الكرام .
و كانت بادرةً لتجود ألسنة القوم بأخبار الكرام و غدر اللّئام .
... و عند العَشاء ، كان الضّيف يأكل على استحياء ، كأنّما أصاب يده الكلل و الإعياء ، و كان كأنّه يُلقِم نملة ، أو يمضغ رملة . و بعد أربع لقيمات أو خمس ، مسح يديه و فمه ، و حمدالله ، ثمّ شكرني على هذا الصّنيع و زعم أنّه كان قد ملأ معدته عشيا ، و لا يزال مريئُهُ منها نديّا .
فاستأذن للخروج .
فقلت مُستغربا : إلى أين ؟
فقال : سأبيت عند رجل آخر .
فقلتُ : أتعرف أحدا هنا ؟
قال : لا ، لكنّ صاحبي كلّم رجلا يعرفه في بلدتكم ، و قد دعاني للمبيت عنده .
فقلت : أنا مُضيفك الأوّل و لي حقٌّ عليك ، و من العار أن أدعك تذهب .
فاعتذر و ألحّ ، فعلمت أن في الأمر خطبا ...
فودّعته و تركته يذهب .
علمتُ بعدها :
أنّه لمّا دخل الإخوان ، أوجس صاحبنا خيفة من هؤلاء الملتحين ، و حدّثته نفسه أنّه قد جاء أجله في هذا الحين .
فخرج من الدّار ، و كلّم صاحبا له في بلده ، ثمّ وجّهه هذا الأخير إلى رجل من معارفه عندنا ليبيت عنده .
ثمّ أخبر الضيف الرّجل الذي بات عنده أنه ظن أنّ اجتماعنا وقت الشاي كان لأمرٍ سوءٍ ، و أنّا قد خطّطنا لنغدر به .
و ما ذلك إلاّ لأنّنا قد ترسّمنا خطى نبيّنا صلى الله عليه و سلم .
فهاله منظر القُمُص القِصار ، و اللّحى المُرخاة ، و الشوارب المُحفاة .
و بُليدتنا صغيرة يعرف الكلّ فيها الكلّ ، و أصحابنا أشهر من نار على علم بحسن الأخلاق و نَبذ الشّقاق و سلوك سبيل الإتّفاق .
فقال له الرّجل : إن هذا الصِّنف الذي تخوّفته ، نسمع عنه و لم نره و الحمد لله ، و الذين استضافوك من خيرة الشّباب و الرّجال ،و ما ظننتَه فيهم واحدٌ من أَضرُب المُحال .
يا ترى أكان يكون حسَن الظَنِّ لو استضافه قومٌ لا قُمُص لهم و لا لحىً ؟
أأصبحت اللّحية و القميص أمارة على الغدر و الشرّ ؟
أيكون جزاء من ضافك و آواك و أدخلك بيته لتبيت فيه و هو لا يعرفك أن تظنّ به سوءا ؟
أم أن هذا من ثمرات أفعال الخوارج ، و الرّجل معذور على إساءته الظّنَّ ؟
هذا ما حدث حقيقة في التاريخ المسطور أعلاه ( أي : أمسٍ الأوّل )
بقلم : المهاجر إلى الله
السُّلميّ
تـــذييـــل
حاتم الطّائي يكرم أضيافه ميتا
من غريب ما حصل لحاتم الطائي بعد وفاته أن نفراً من بني أسد مروا بقبر حاتم فقالوا: نزلنا بحاتم فلم يقرنا، وجعلوا ينادون: يا حاتم ألا تقرى أضيافك؟ ثم ناموا جميعاً وكان رئيس القوم رجلاً يقال له أبو الخيبري فنام أيضاً، حتى إذا كان السحر وثب وجعل يصيح: وا رحلتاه. فقال له أصحابه: مالك! قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي. قالوا: كذبت. فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث. قالوا والله قراك. فظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه فانطلقوا فساروا، وإذا راكب يلحقهم فنظروا فإذا هو عدي بن حاتم راكباً قارناً جملاً أسود فلحقهم وقال أيكم أبو الخبيري فدلوه عليه فقال جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك له وأنه قرى راحلتك لأصحابك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها حتى حفظتها وهي:
أبا الخيبرى وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتامها
فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها
تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وانعامها
وإنا لنطعم أضيافنا من ال ... كرم بالسيف نعتامها
وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه فأخذوه وركبه وذهبوا.
منقول
و هذا قبر حاتم الطّائي بمنطقة حائل بالمملكة العربية السعودية
و هذه أطام بيوت حاتم الطائي