من قديم تعرضت لبيان مفهوم " الوسطية" وخصائصها ومظاهر تجليها , وذلك في كتابي " الخصائص العامة للإسلام" باعتبار " الوسطية " من ابرز خصائص الإسلام , ويعبَّر عنها أيضا بـ "التوازن" أو"الاعتدال" , ونعني بها : التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين , بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير , ويطرد الطرف المقابل , وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه , ويطغى على مقابله ويحيف عليه .
مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة : الربانية والإنسانية , الروحية والمادية , الأخروية والدنيوية , الوحي والعقل , الماضوية والمستقبلية , الفردية والجماعية الواقعية والمثالية , الثبات والتغير , وما شابهها .
ومعنى التوازن بينها : أن يفسح لكل طرف منها مجاله , ويُعطي حقه "بالقسط" أو "بالقسطاس المستقيم" , بلا وكس ولا شطط , وبلا غلو ولا تقصير , ولا طغيان ولا إخسار . كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله " وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" (الرحمن7ـ9). فالوسطية هي التي تقيم الوزن بالقسط , وبلا طغيان ولا إخسار .
عجز الإنسان عن إنشاء نظام متوازن
وهذا التوازن العادل في الحقيقة أكبر من أن يقدر عليه الإنسان ؛ بعقله المحدود , وعلمه القاصر , فضلا عن تأثير ميوله , ونزعاته الشخصية , والأسرية والحزبية , والإقليمية والعنصرية , وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر .
ولهذا يخلو منهج أو نظام يضعه بشر ـ فرد أو جماعة ـ من الإفراط أو التفريط , كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ .
إن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود ـ ماديا كان أو معنوياـ حقه بحساب وميزان هو الله ؛ الذي خلق كل شيء فقدرَّه تقديرا , وأحاط بكل شيء خُبْرا, وأحصى كل شيء عَدَدا , ووسع كل شيء رحمة وعلما .
ولا عجب أن نرى هذا التوازن الدقيق في خلق الله , وفي أمر الله جميعا , فهو صاحب الخلق والمر , فظاهرة التوازن , تبدو فيما أمر الله به وشرعه من الهُدى ودين الحق , أي : في نظام الإسلام ومنهجه للحياة , كما تبدو في هذا الكون الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء .
ظاهرة التوازن في الكون كله
ننظر في العالم من حولنا فنجد الليل والنهار , والظلام والنور , والحرارة والبرودة , والماء واليابس , والغازات المختلفة , كلها بقَدَر وميزان وحساب , لا يطغى شيء منها على مقابله , ولا يخرج عن حدَّه المُقدَّر له .
وكذلك الشمس القمر والنجوم و المجموعات الكونية في فضاء الله الفسيح , إن كلاّ منها يسبح في مداره , ويدور في فلكه , دون أن يصدم غيره , أو يخرج عن دائرته . وصدق الله العظيم إذ يقول :" إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر49) , "..مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ .." (الملك3) , "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (40يس).
والإسلام يريد من الأمة المسلمة : أن تعكس ظاهرة التوازن الكونية في حياتها وفكرها وسلوكها , فتتميز بذلك عن سائر الأمم.
وإلى هذه الخصيصة البارزة يشير قوله تعالى مخاطبا أمة الإسلام :"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .." (البقرة143) .
ووسطية الأمة الإسلامية إنما هي مستمدَّة من وسطية منهجها ونظامها , فهو وسط لأمة وسط . منهج الاعتدال والتوازن الذي سَلِم من الإفراط والتفريط أو من الغلو والتقصير .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع بإذن الله..