الفصل الأول : أسباب ظهور المدارس .
تعدَّدت أسباب ظهور المدارس داخل المذهب إلى أسباب منهجية ، وآخر يرجع إلى المناخ العلمي...وفيما يلي عرضٌ لهذه الأسباب :
أ – الأسباب المنهجية :
*الأول : ويتمثل في حكم العمل بالسنة الأثرية كفتاوى الصحابة وأقضيتهم وعمل أهل المدينة: فإن المدنيين من أصحاب مالك ـ ومن وافقهم من مالكية الأمصار ـ كانوا يقدمون الخبر الوارد عن النبي r وإن عارضه العمل(1) ، وكان غيرهم من بقية المدارس يقدمون العمل على أخبار الآحاد...، وسيأتي مزيد تفصيل عند الحديث على كل مدرسة.
*الثاني : ويتمثل في ترتيب الأولويات ، فإن طائفة من المالكية رأوا ضرورة الاهتمام بتصحيح الروايات وتتبع الألفاظ ، والموازنة بين الأسمعة لدرء ما قد يفهم من التعارض...، وهؤلاء هم مالكية المغرب ؛ وطائفة أخرى اشتغلت بالاستدلال لما ذهب إليه الأصحاب ـ لظروفها الخاصة ـ وتقعيد تلك الاخيارات في قواعد جامعة(2) ..، وهؤلاء هم العراقيون.
ولهذا العامل تعلق بما سيأتي في الأسباب التي تعود إلى البيئة العلمية.
*الثالث : ويتمثل في محاولة طائفة من المالكية الجمع بين خصائص المدارس ، وظهرت جليا في المغاربة الذين راموا الجمع بين منهج العراقيين والمصريين والمدنيين : فاعتبروا الآثار مع عنايتهم بالتفريعات والافتراضات الفقهية ، وقول يحيى الليثي يشير إلى هذا المعنى ، فإنه حاول التوفيق بين نهي ابن القاسم له عن تقديم الآحاد على العمل ، وبين تحذير ابن وهب له من الرأي ، فقال :" رحمهما الله فكلاهما قد أصاب في مقالته. نهاني ابن القاسم عن إتباع ما ليس عليه العمل من الحديث، وأصاب. ونهاني ابن وهب عن كلفة الرأي، وكثرته، وأمرني بالإتباع وأصاب."(3)
ب-الأسباب التي ترجع إلى البيئة العلمية :
*الأول : يرجع إلى بيئة العراق التي كانت محكومة بكثرة المذاهب والطوائف ، واحتكاكها ببعضها يولد جوا من النقاش : كل ينصر قوله ويروم إبطال قول خصمه ، فكان لا بد لأهل كل مذهب من تدعيم اختياراتهم بالحجة والبرهان ، ولهذا السبب اهتم مالكية العراق بالتقعيد الفقهي ، والاعتناء بالاستدلال ، والاطلاع على مذاهب الفقهاء الآخرين (4) .
*الثاني : يرجع إلى مالك نفسه ـ رحمه الله ـ وإلى المنهج السائد في الحجاز ، ذلك أن مالكا كان من أهل الحديث ، بل كان رأسا فيه حتى قال الشافعي : "إذا جاء الأثر عن مالك : فمالك النجم"(5) قال ابن المديني : "سمعت ابن مهدي يقول كان وهيب لا يعدل بمالك أحدا"(6) ، وبقدر إحاطته بعلوم الرواية فإنه كان محيطا بالدراية أيضا = وفقه مالك أظهر من أن يستدل له .
فمن كان من تلامذة مالك مائلا إلى الحديث ، نابذا للتقليد ، متأثرا بالجو السائد في المدينة يومئذ فإنه قدم النصوص على كل شئ ، ولم يقم اعتبارا للعمل وهم عامة المدنيين، وأما من كان فيه نوع تقليد لاختيارت الإمام مالك فإنه قدم العمل على خبر الواحد حين التعارض وهم جمهور المالكية(7).