وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتال أهل البغي ، وبيّنوا أن قتالهم من باب الردع ، وليس من باب قصد القتل كما في قتال الكفار في الجهاد ، وذكروا فروقاً بين القتالين ، فإن البغاة لا يتبع مدبرهم ، ولا يجهز على جريحهم ، ولا يرمون بما يستأصل شأفتهم ، وغير ذلك من الأحكام .
وأما قوة الحجة والبيان ، فإن واقع هذه الفئة يشهد بأن لها أفكاراً وشبهات تربّي عليها أفرادها ، وتسوّغ لهم أفعالهم ، وهذا الأفكار والشبهات موجودة في الواقع ضمن بعض الكتب والمجلات المحظورة ، وكثير منها تسلل إلى بلادنا من الخارج بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات ، وعلى شبكة الانترنت عدد من المواقع المشبوهة التي يتأثر بها بعض الشباب ، ويأخذون جل ما فيها من الفتاوى والتحليلات على سبيل التسليم والاقتناع .
إننا بالحوار الهادف ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، متى ما استطعنا أن نغيّر من قناعات المنتمين إلى هذه الفئة بالحجة والبيان ، ونقطع نسبهم بمصادر التلقي المشبوهة ، فإننا نكون قد وفقنا في تحرير عقولهم من ربقة الفكر المنحرف ، وبالتالي حسم المادة التي تغذي أفعالهم ، وتقنعهم بمشروعيتها .
لا للحوار .. و نعم للحوار :
أساء بعض الناس فهم قضية الحوار مع هذه الفئة ، وحمّلها ما لا تحتمل .. وأنزلها آخرون على مواقف محددة ليثبت عدم جدواها ، ويسقطها من الحساب بالجملة .
هل من المعقول أن نستوقف هذا الشاب المسلح الذي تلطخ بالدم ، وتدرّع بالحزام الناسف ، وصوّب سلاحه ، بل ووضع أصبعه على الزناد ، ونقول : لحظة من فضلك ، نريد أن نجري معك حواراً ومناظرة في الشارع أو الميدان !!! .
لا يشك أدنى منصف أن الدعوة للحوار في هذه الحالة ضرب من الحماقة والجهل !!.
لكن ما المانع أن يكون الحوار الفكري قريناً للردع الأمني ، ووسيلة لكبح جماح هذا الشاب المتهور ، وخلخلة تركيبته الفكرية التي تدفعه إلى الاستماتة في سبيل ما يظنه هو هدفاً مشروعاً .
أقول : نحن بحاجة ماسة إلى أن نبني عملية الحوار على أرضية مناسبة ، وأصول هامة ، ومنها: من نحاور؟ ومتى يكون الحوار ؟ وكيف يكون ؟ ومن يتولى الحوار؟ .
كما أنه لا بد من مراعاة التفريق في التعامل بين المتورطين في هذه الأعمال كلٌ بحسبه ، فليس من تورط في ارتكاب هذه الأعمال أو خطط لها ، كمن ألقى السلاح وسلّم نفسه قبل أن يتلطخ بدم .. كما أن هناك طائفة تلوثت أذهانها بأفكار هذه الفئة المنحرفة ولم تصل إلى حمل السلاح ، فهؤلاء لا بد من فتح قنوات الحوار معهم ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، حتى يعودوا إلى رشدهم ، ويتوبوا إلى ربهم ، كما وقع بحمد الله في بعض الحوارات والتراجعات التي ظهرت في بعض الوسائل .
وبهذا يكون الحوار مع هذه الفئة أحد الأمور المشروعة ، والحلول الناجحة ، لأنه من الإصلاح الذي ينزع الله به فتيل الفتنة .
وإذا كانت هذه الفئة (كما هو معلوم لمن سبر غورها ، وأدرك حقيقتها) تتبنى فكراً قائماً له أصوله المرتبطة ببعض المسائل الشرعية المعلومة كالتكفير ، والعهد والاستئمان ، والجهاد ، والحاكمية ، وإخراج المشركين من جزيرة العرب ، وغيرها من المسائل ؛ فإن هذا الفكر الضال لا بد من مواجهته بفكر راشد يفند حججه ، ويرد شبهه ، بالحجة والبرهان .
حوارات تاريخية مثيرة :
ليس بجديد أن تظهر مثل هذه التيارات الفكرية في الأمة . فقد شهد التاريخ الإسلامي ظهور العديد من الطوائف والجماعات التي خرجت على الأمة ، وانتهجت مبدأ التغيير بالقوة وحمل السلاح .
وكان للعلماء وأئمة الدين دور كبير في مجادلة هذه الطوائف والحوار معها ، وكان من ثمرات هذه المجادلات والحوارات أن رجع بسببها فئام من المنتمين لهذه الطوائف ، وتخلوا عن أغلوطاتهم الفكرية . وهذا مكسب عظيم ، ونجاح باهر ، ينبغي الإفادة منه في التعامل مع مثل هذه الظواهر .
ابن عباس والخوارج :
من أشهر الحوارات التاريخية مع الطوائف المنحرفة مناظرة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما للخوارج حينما خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت هذه المناظرة بحق أنموذجاً فريداً ، وتطبيقاً ناجحاً للحوار ، رجع بسببه فئام من هذه الفئة ، فإلى هذه المناظرة كما ساقها الحاكم في المستدرك 2/150ـ 152 والبيهقي في السنن الكبرى 8/179 ، وسأدرج في ثنايا النقل بعض الملاحظات والتنبيهات وأضعها بين معقوفتين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار وهم ستة آلاف أتيت علياً ، فقلت : يا أمير المؤمنين أبْرِد بالظهر لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم ، قال : إني أخاف عليك . قلت : كلا . قال ابن عباس : فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حُلَلِ اليمن - وكان ابن عباس جميلاً جهيراً – [وهذه لفتة إلى أهمية العناية بشخصية المحاور ومظهره ، وأثر ذلك في قبول الطرف الآخر].
قال ابن عباس : فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم قائلون ، فسلمت عليهم ، فقالوا : مرحباً بك يا ابن عباس ، فما هذه الحلة ؟!! [مظهر من مظاهر الغلو ، والأخذ بالأشد حتى في اللباس] .
قال : قلت : ما تعيبون علي ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل ، ونزلت قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق .
قالوا : فما جاء بك؟ قلت : أتيتكم من عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما يقولون ، وتخبرون بما تقولون ، فعليهم نزل القرآن وهم أعلم بالوحي منكم وفيهم أنزل ، وليس فيكم منهم أحد . [ تذكير بما لدى المخالف من مزيد علم وفضل ، إشارة إلى أنه أقرب إلى الحق عند الاختلاف].
فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشاً ، فإن الله يقول : بل هم قوم خصمون
[ انظر إلى سوء الفهم ، والاستدلال بالنصوص في غير مواضعها]
قال ابن عباس : وأتيت قوماً لم أر قوماً قط أشد اجتهاداً منهم ، مسهمة وجوههم من السهر ، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم .
[لا تلازم بين مظاهر الصلاح وشدة الاجتهاد في العبادة وبين صحة المنهج والهداية للحق]