الهند. وبهذا استطاعت الطبقات البراهمية الدينية والغازية صاحبة السيادة والسلطة في عزلة أرستقراطية عن بقية قطاعات البنية الاجتماعية الأمر الذي أظهر النظام الطائفي على أنه أداة تعويق للتطور الاجتماعي، ووسيلة جمود في المجال الحضاري ( ).
الهندوسية:
الهندوسية هي اتباع أو عبادة الإله فيشنو Vishnu أو شيفا Shiva أو الآلهة شاكتي Shakti أو تجسيداتهم أو مظاهرهم أو ازواجهم أو ذريتهم. وهكذا يندرج ضمن الهندوسيين عدد كبير من اتباع عبادة راما وكرشنا Rama & Krishna (وهما تجسيدان لفشنو) واتباع عبادة درجا Darga وسكاندا Skanda وجانيشا Ganesha وهم على الترتيب زوجة شيفا وابناه.
إشعال النار المقدسة: يوجد في البيت الأري نار مقدسة تشتعل منذ بداية إنشائه، أعني خلال حفل الزواج وهي ليست ناراً عادية، ينبغي ألا تستخدم في إعداد الطعام أو الأغراض المنزلية الأخرى، وكذلك ينبغي إشعالها بأنواع خاصة من الخشب، وبطريقة معينة هي حك العصى ببعضها، وينبغي ألا تترك حتى تخمد. ولابد أنه يتقدم رب الأسرة لهذه النار يومياً بقرابين للآلهة بل إنه في الواقع ملزم بالقيام ثلاث مرات في اليوم.
عبادة البراهمان Brahman روح العالم وقوامها تعاليم الفيدا أو تلاوتها، وعبادة آباء بتقديم الطعام والماء لتغذيتهم، وعبادة الآلهة بإحراق القرابين، وعبادة بهوتاس Bhutas (وهي الموجودات الحية أو الأرواح) بنشر الحبوب في الجهات الأربع والمركز وفي الهواء، وعلى أواني المنزل، ووضع الطعام على عتبة الدار للمنبوذين والحيوانات والطيور والحشرات.
وأهم الواجبات التي يلتزم بها رب الأسرة فهي واجبات نحو الآباء أو الأسلاف، فهو ليس ملزماً فقط بأن يقدم القرابين من الماء أوالطعام يومياً إليهم، وإلى روح البيت التي تسكن الركن الشمالي الشرقي من المنزل، بل إن عليه أيضاً أن يقدم لهم البندا Pinda أي كره الأرز Rice – Ball في يوم ظهور القمر الجديد من كل شهر.
وتسمى العناصر الرئيسية في هذا الاحتفال شراذا Shradha ويجلس فقهاء البراهمة في مكان مكشوف. ويفتتح رب الأسرة الاحتفال وينهيه بحرق قرابين للآلهة في النار المقدسة. لكن الحدث الرئيسي هو التقرب للآباء، فهو يصنع ثلاث كرات أرز وتذهب هذه إلى الموتى الثلاثة من أسلافه الأب، الجد، وأب الجد.
وهذه النظرية الخاصة بالشراذا Shradha هي أن يقدم الأحياء الطعام إلى الأسلاف الذين يقطنون (عالم الآباء) ويضفي الأسلاف النعم على أحفادهم الأحياء بمنحهم إياهم النجاح والازدهار والذرية ( ).
وهكذا تكون (شراذا) هذه هي همزة الوصل بين الأحياء والأموات، وهي التعبير عن التعاون المتبادل بينهم. غير أن هذه العلاقة يمكن أن تنقلب رأساً على عقب إذا لم تؤد الطقوس الجنائزية المناسبة للميت، فما لم يستقر أرواح الموتى في عالم الآباء تظل عرضة لأن تصب البلاء على رؤوس نسلها الذين لم يقوموا بإطعامها عن طريق القرابين، أو ضمان انتقالها إلى عالمها المناسب.
قوانين الزواج: ليس الزواج ضرورة مقتصرة على عبادة الأسلاف، بحيث ينبغي على الرجل أن يتزوج لينجب ابناً يواصل العبادة، ويقدم البندا (أقراص الأرز) لكي تستريح روح ابنه، وإنما الزواج ضرورة مطلوبة لذاتها أيضاً، فليس ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن الرجل المتزوج هو وحدة القادر على تقديم قرابين الطعام للأسلاف، وعندما يصبح أرملاً فإنه يتخلى لابنه عن رئاسة الأسرة، وعن القيام بدور الكاهن المسئول عن نارها المقدسة ويقرر التقاعد.
فالزواج في النظام الهندي إجباري للجميع، والرجل الأعزب طريد الطبقات ليس له في المجتمع مكانة ولا اعتبار، وكذلك الفتاة إن طال بها الأمد وظلت عذراء بغير زواج على أن الزواج لم يكن يترك لأهواء الفرد يختار من يشاء، فهو لا يستطيع أن يتزوج كيفما اتفق، لأن الزوجة الكفء المساوية في المولد والمنحدرة من أسرة أرية أتمت عملية الترسيم وغيرها من الطقوس، هي وحدها القادرة على ممارسة الطقوس المنزلية دون أن تدنسها، وهي وحدها القادرة على إنجاب الابن الطاهر النقي المؤهل لمواصلة عبادة الأسلاف بعد والده.
قانون الأسرة الهندوسية: رب الأسرة هو كاهن دينها وهذا المنصب وراثي –عبادة الأسلاف فيها- وهذه الخاصية تؤول إلى أولئك الأكفاء القادرين على تقديم القرابين إليه بعد الموت وإلى أسلافه، أي إلى أبنائه المتزوجين قبل غيرهم. وفي حالة نقص النسل في نوع الذكور يؤول الإرث إلى أولئك الذين قدموا (البندا) إلى واحداً أو أكثر من الأسلاف، ذلك لأن الإرث يحمل معه الالتزام بتقديم البندا.
ولهذا السبب فإن البنت لا يمكن أن ترث مادام الذكور وحدهم قادرين على تقديم القرابين ( ).
الأهداف الإنسانية: يتعين على المرء لكي يتم تنظيم حياة الفرد ومؤسسات المجتمع، أن يكون في المقام الأول واضحاً فيما يتعلق بالأغراض الأساسية للحياة. وقد تم إنجاز ذلك في الهند، من خلال بحث الأهداف الرئيسية في الحياة، التي من شأنها أن تسهم في كل من رخاء المجتمع أو تحقق سعادة الفرد.
ولكل إنسان أربعة أهداف أساسية في الحياة (العيش الفاضل، وسائل الحياة، المتعة، تحرير النفس) وهذه الأهداف يكافح للوصول إليها، لأن الإنسان مركب من وجود عضوي وروحي، فإن من الضروري إشباع الحاجات العضوية والروحية.
اليوجا: الطريق إلى ضبط النفس: أساليب ضبط النفس المعروفة باسم اليوجا Yoga وهي ممارسة مطلوبة لتحقيق الحكمة التي من خلالها يمكن القضاء على الجهل الذي يتسبب في الخلط بين الروح والمادة، ويمكن إدراك الطبيعة الجوهرية للذات باعتبارها (الروح).
وتبدأ اليوجا بمجموعة من الأوامر الأخلاقية يقصد بها إعادة توجيه إرادة الشخص وأعماله، فبدلاً من التصرف انطلاقاً من قوى الأنا العمياء، فإن الشخص يتصرف انطلاقاً من التعاطف حيال رضاء الآخرين.
ويستبعد كافة التصرفات التي تؤذي الكائنات الأخرى، وكل الأعمال التي تقوم على أساس الكراهية وسوء النية. والتخلص من النوازع الأنانية للأنا.
وكذلك يتعين تجنب الكلمات التي تؤذي الآخرين والحديث الأجوف والثرثرة الخرقاء، كما يستبعد ما هو ملك الآخر أي لا ترغب فيما يملكه شخص آخر، بل ينبغي القضاء على الرغبة بأسرها في امتلاك الخيرات، حتى ما يدعى بـ (الملكية المشروعة) ويقضي هذا المبدأ بأنه بينما يجوز استخدام كل ما هو ضروري للحياة من قبل أي شخص يحتاجه، فإن مبدأ الملكية نفسه هو تعبير عن الطمع.
كما أن من يمارس اليوجا ينبغي أن يلتزم العفة ولا يمارس النشاط الجنسي، لأن ممارسة الجنس يمثل لوناً من القيد والعبودية.
فممارسة اليوجا تقضي على الدوافع التي تؤدي إلى النشاط المحرم وتقوم بإحلال الحب المفعم بالتعاطف محل الرغبة والكراهية كمنبع أساسي للفعل، فإن من يمارس اليوجا يخطو خطوة أولى رائقة نحو التحرر.
وكذلك فإن ممارسة اليوجا تدفع المرء لأن يكون أكثر روحانية والنقاء الداخلي، فمن يمارس اليوجا يقضي على كل الآثار المترتبة على الأفكار والأفعال السابقة. وكذلك تؤدي ممارسة اليوجا إلى الرضا والقناعة والزهد والتقشف وكبح جماح الشهوات ونكران الذات ( ).
وقد ساد التفكير الهندوسي نزعتان فيما يتعلق بالألوهية، وهما نزعة التعدد أي تعدد الآلهة في المرحلة الأولى حيث عبدوا مظاهر الطبيعة من جبال وأنهار وحيوانات ونار، واعتقدوا أن لهذه المظاهر الطبيعية أرواحاً فجعلوا لكل مظهر من مظاهرها إلهاً يعبدونه، نزعة أخرى مقابلة للنزعة الأولى وهي نزعة الوحدانية، وتلك كانت في المرحلة الثانية من حياتهم، فقد تخلوا عن عبادة الآلهة المتعددة ليعبدوا إلهاً واحداً. أي أنهم جمعوا الآلهة المتعددة في إله واحد ورأوا فيه خالق للعالم وحافظ له ثم يهلكه ويرده إليه في نهاية المطاف، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء فهو (براهما) من حيث هو خالق أو موجود، وهو (فشنو) من حيث هو حافظ، وأخيراً هو (سيفا) من حيث هو مهلك.
فكأن الهندوس قد آمنوا بثالوث مقدس مؤلف من:
براهما: سيد جميع الآلهة وهو القوة الخالقة في الطبيعة.
فشنو: إله الحب ويعاون المصابين ويذود عن الفقراء ويبعث الموتى من القبور.
وسيفا أو شيو: فهو إله الإرادة ولا تظهر عادة إلا في ميادين القتال والمنازعات، فهو يمثل الدمار ويضع نهاية لكل شيء ( ).
الكرما: Karma كلمة سنسكريتية معناها الحرفي (الفعل) وهو من أهم العقائد في الديانة الهندوسية، قانون الجزاء المسيطر على حياة سائر الأحياء، في الكون، ليس لأحد أن يتخلص منه، فالحياة بمثابة حلقة في سلسلة حياة يحياها المرء يحددها فعله في الحياة السابقة.
وهذا القانون هو المسئول عن الثواب والعقاب وإليه يرجع اختيار الصورة التي تتناسخ فيها الأرواح على أساس ارتباط المعلول بالعلة فتناسق الروح تلقائياً داخل إطاره للتلبس بالجسد الجديد الذي تتوافق ملابسات حياته مع الميول الذاتية لهذه الروح ومع أعمالها في دورة حياة سابقة.
تناسخ الأرواح: Transmigration
يرجع اعتقادهم في التناسخ إلى سببين: أولهما أن الروح عندما تفارق الجسد لا تزال على صلة بالعالم المادي بما فيه من شهوات وملذات لم تتحقق بعد، وثانيهما أن النفس خرجت من الجسم وعليها ديون كثيرة لابد من أدائها وأن تتذوق ثمار أعمالها التي قامت بها في حياتها السابقة.
فالأرواح لا تموت ولا تفنى أبدية الوجود، لا سيف يقطعها ولا نار تحرقها ولا ماء يغرقها ولكنها تنتقل من بدن إلى بدن كما يستقبل البدن اللباس إذا بلي وتترمى النفس في الأبدان المختلفة كما يترقى الإنسان من طفولته إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، وذلك أن النفس طالبة للكمال مشتاقة إلى العلم بكل شيء، وهذا يحتاج إلى زمن فسيح، ولما كان عمر الإنسان قصيراً كان لابد أن تنتقل النفس من بدن إلى بدن، وفي كل بدن تستفيد تجارب ومعلومات جديدة ( ).
فالأرواح الباقية تتردد بين الأبدان البالية من الأذل إلى الأفضل دون عكسة تترقي النفس في الكمال حتى يتحقق شوقها إلى علم ما لم تعلم، وتستوفي بذلك شرف ذاتها.
وحدة الوجود:
ساد مذهب وحدة الوجود في العقيدة الهندوسية، فهم يوحدون الله والعالم ويزعمون أن كل شيء هو الله، ويردون كل شيء إلى الله ويعتقدون أن براهمان هو الحقيقة الكلية وأن جميع الأشياء الأخرى ليست سوى أعراض ومظاهر لهذه الحياة الحقيقية.
فالحياة كلها مظاهر لتلك القوة الوحيدة الأصيلة (براهما) فالجبال والبحار والأنهار تنفجر من تلك الروح المحيطة المستقرة في الأشياء وليست الروح الإنسانية إلا جزءاً من الروح الإلهية (براهمان) ( ).
الجينية Jainism
من المذاهب الدينية في الهند، واسم الجينية مستمد من كلمة Jina ومعناها القاهر أو المنتصر أو البطل في اللغة السنكريتية، وهو وصف أطلقوه على معلميهم الكبار الذين يسمون (تيرثانكارا) Tirthankara الذين رسموا الطريق إلى الخلاص من التناسخ.
ويعتبر مهافيرا Mahavira مؤسس المذهب الجيني، وعاش مهافيرا حياة الزهد والتنسك وأعلن عن رغبته الشديدة في التخلي عن الملك والألقاب ومتاع الدنيا والدخول في حياة الرهبنة.
الألوهية: أنكر مهافيرا وجود إله ذلك أن الاعتراف بوجود آلهة قد يخلق طبقة براهمة أو كهنة تمارس استبداداً على الناس وقرر أنه لا يوجد روح أكبر أو خالق أعظم لهذا الكون. ولقد ترتب على عدم اعتراف مهافيرا وأتباعه بالإله والآلهة سلبيات كثيرة متعلقة بالعقائد منها عدم قولهم بالصلاة وامتناعهم عن تقديم القرابين.
والكرما تعني عندهم كائن مادي كثيف ينزلق إلى الجسم ويخالط الروح المنيرة بطبيعتها، ويحجب نورها بكثافة، ولا سبيل لتحرير الروح إلا شدة التقشف والحرمان من الملذات، ولكي تتخلص الروح من الكارما يظل الإنسان يولد ويموت حتى تطهر نفسه وتنتهي رغباته ومعها حياته المادية، فيبقى روحاً خالداً في نعيم خالد، وهذا الخلود في النعيم يسمى عندهم النجاة، وهو ما يعادل الانطلاق في الهندوسية والنرفانا في البوذية.
وخلاص النفس وتحريرها من ربقة الجسد، إنما يكون بالزهد والتجرد من الدنيا حتى العري، فالنجاة خلاصة من الجسد، ولذلك كان الانتماء غاية أو جائزة لا يحصل عليها إلا الخاصة، ومن شروط النجاة أو سبيل الوصول إليها وقتها أنه يتحتم على الناسك ألا يوقع أذى بإنسان أو حيوان، فالحياة بكافة أشكالها مقدسة مصونة ولا يجوز الاعتداء عليها، وعلى ذلك يحرم قتل الحيوان، وبالتالي أكل اللحوم.
ومن شروط النجاة قهر جميع العواطف والمشاعر والحاجات لكي لا يحس الراهب بحب أو كره ولا بسرور أو حزن ولا بحر أو برد ولا بخوف أو بحياء ولا بجوع ولا عطش ولا بخير أو شر، ومن أجل طهارة الروح، فضرورة تمسك المريد بالخلق الحميد والإقلاع عن الخلق السيء وتجنب الأذى والضرر لأي كائن حي والتحلي بالفضائل التالية (العفو – الصدق – الاستقامة – التواضع – النظافة – ضبط النفس – التقشف الظاهري والباطني – الزهد – اعتزال النساء – الإيثار – السيطرة على متاعب الحياة وهمومها – القناعة الكاملة – الطمأنينة – الطهارة الظاهرية والباطنية). وكذلك تجنب الكذب – السرقة – الخيانة – الجشع – العنف .. إلخ ( ).
البوذية:
ظل التفكير الاجتماعي الذي ارتبط بالهندوكية مسيطراً في الهند إلى أن بدأت في الظهور تعاليم البوذية التي تنسب إلى جواتاما بوذا مؤسسها في القرن الخامس قبل الميلاد. وبوذا ينتمي إلى عائلة نبيلة هي عائلة جواتما Gautama وأطلق عليه منذ مولده في نيبال حوالي 565 ق. م اسم سيداهارتا Siddahartha وإن كان قد اشتهر مع ذلك بنسبته إلى العائلة التي عاش في كنفها حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره عيشة مليئة بالرفاهية. ولكن فجأة ترك زوجته وابنه وعائلته كلها ليبدأ حياة العزلة والتقشف ليستغرق في النهاية في التأمل تحت شجرة الحقيقة Bo – Tree حيث تكشفت له أصول الدين البوذي ومعالمه، وبزغت في نفسه النيرفانا Nervana التي أدرك في ضوئها أن العالم بكل ما فيه إنما ينتهي مآله للعدم.
ويتمثل الاعتقاد الأساسي في البوذية في أن الذات الإنسانية وشهواتها وملذاتها هي السبب فيما يعيشه البشر من شقاء وألم، فقد انتهى إلى أن الخلاص من كل هذا إنما يتوقف على القدرة على نبذ هذه الذات وملذاتها، وذلك هو السبيل الوحيد للتحرر من الألم المتمثل في سجن تطلعات النفس المادية.
وقد دعت البوذية إلى القضاء على مظاهر المغالاة والتطرف في التفرقة بين الطوائف المختلفة من حيث الحقوق والواجبات والمسئوليات والالتزامات. وفي هذا الصدد نجد له موقفاً محدداً من البراهمية التي وضعت للناس أقدارهم المحتومة، ثم حثت على التقرب للآلهة وطلب المساعدة منها مؤكداً بذلك نظرة جديدة إلى العالم، حيث رأى أنه أزلي أبدي والأفراد والأشياء تولد وتعيش وتفنى لكي تولد من جديد في سلسلة متصلة لا أول لها ولا نهاية، وبذا تبدو الحوادث وكأنها سلسلة من العلل والنتائج التي تتبادل الفعل والتأثير. وهي نظرة تختلف مع ما ذهبت إليه البراهمية التي أكدت على أن الإنسان إنما يفعل الخير خوفاً من أن يستحيل بعد الموت إلى حيوان( ).
ثمة أساس أخلاقي في البوذية لم تلتفت إليه البراهمية يقوم على إدراك الإنسان لحقيقة الدهارما Dharma التي تعني الوسطية في تناول الأمور حتى بين المادية والانغماس في إشباع الغرائز والزهد والتقشف. أو هي بمثابة مبدأ نظري يتجسد في مجموعة من التعاليم التي تقدم للإنسان وسائل الاكتساب عن طريق التعلم والامتثال للقواعد التي تسير بموجبها الحياة الصحيحة.
وقد وضع الإله ياما Yami نظام العالم أو الكرما Karma ليؤكد أن كل إنسان لابد أن يلقى ما يتكافأ مع ما قدمت يداه إن خيراً أو شراً.
ومع أن هناك من يرى أن مثل هذه الفلسفة التي تنطوي عليها الكرما إنما تعكس ملامح نفعية بحتة، وذلك على اعتبار أن الإنسان لاشك سوف يحسب أفعاله في ضوء ما سيعود عليه وعلى الآخرين من خير ومنفعة إلا أن مثل هذه النظرة لا تخلو من مغالاة حيث لا تضع اعتباراً كثيراً لطبيعة الإنسان الاجتماعية.
ولعل الشيء الواضح هو أن البوذية لها موقف خاص من فكرة الآلهة ذاتها، حيث لا نلمح فيها ذلك التقديس والخضوع التام لها، وإنما في الوقت الذي لم تتجاهلها فيه تماماً، فقد أفسحت للإنسان مجالات الفعل والاختيار.
وقد يكون صحيحاً أنها انتهجت في ذلك طرقاً تدور حول مجاهدة النفس وتعتمد على أساليب التقشف والزهد والتأمل، ولكنها وضعت قواعد سلوكية عملية يجب أن يلتزم بها الأفراد لكي يحيوا حياة فاضلة.
فالبوذية ولو أنها سعت إلى ابتعاد الناس عن شئون الحياة الدنيوية، إلا أنها أعلنت في الوقت نفسه مبادئ الإنسانية التي تدعو إلى نبذ الطبقية والقضاء على المزايا الوراثية وهو ما تنطوي عليه الكرما التي تذهب إلى أن الناس قد وجدوا في الأصل متساويين، وقد عملت البوذية على خلاص المجتمع من براثن النظام الطائفي الطبقي عن طريق هذه العقيدة البراهمية التي تزعم أن البراهمي من طبيعة مقدسة وأن المنبوذين يعيشون على هامش الحياة محرومين من كل الحقوق من طبقة دنسة، لذا حرمت عليهم حتى ممارسة الشعائر الدينية، كذلك أوضحت البوذية أن صفات اللاهوتية والقدسية ليست أبداً صفات وراثية أو فطرية تختص بها