أم عدنان
2009-01-13, 15:06
ضوابط مسألة العذر بالجهل
فاعلم - وفقك الله ، وسدد خطاك - أن الجهل بأمور الدين ومسائل الشرع يدل على انخفاض منزلة الجاهل ونقص ايمانه على قدر جهله ، والجهل - في الجملة - أحد موانع تكفير المعين ، لأن الايمان يتعلق بالعلم ، ووجود العلم بالمؤمن به شرط من شروط الايمان ، اذ لا يقوم التكليف مع الجهل أو عدم العلم ، غير أن العذر بالجهل مؤقت ، وتأقيته متوقف على عدم توفر الأسباب وتحقق الشروط ، أو في امكان وجودها وتحققها تقديرا ، ومنه يعلم أن اثبات العذر مطلقا لا يسوغ ، كما أن نفي العذر بالجهل مطلقا لا يصح - أيضا - ، وقد ذكرت هذا المعنى في رسالتي " مجالس تذكيرية " بقولي : " واذا ترجح القول بأن الجهل عذر شرعي فليس ذلك اطلاقه " ، غير أنني عدلت عن الاستدلال بالنصوص الشرعية المذكورة في رسالتي المشار اليها ، وأعدت بيانها بتوجيه آخر ، أراه أقرب للحق وأجدر بالصواب - وهو ما بينته في هذه الرسالة - . هذا واللائق بهذا المقام النظر في مسألة العذر بالجهل في المسائل الدينية الى جزئيات متعددة تتبلور من خلالها المسألة وتنضبط ، ويمكن بيان هذه الجزئيات - باختصار - من الحيثيات التالية :
فمن حيث نوعية المسائل المجهولة وضوحا وخفاء :
فالمسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس كاستعمال الصرف والعطف - وهو : نوع من السحر يزعمون أنه يحبب المرأة لزوجها فلا ينصرف عنها - أو المسائل الدقيقة والخفية المختلف فيها ، أو المسائل التي لا يسعه معرفتها الا بعد اعلامه بحكم الله فيها ، أو المسائل التي تحتاج الى علم بها لا يدرك بالعقل كالأسماء والصفات ، كما قال الشافعي - رحمه الله - : " لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، وأما قبل قيام الحجة فانه يعذر بالجهل ، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر " ، أو المسائل التي وقع فيها خطأ لشبهة وسوء فهم ، أو اعتمد على أحاديث ظنها ثابتة وهي ضعيفة أو باطلة ، فيعذر بجهله ، كما يعذر المجتهد بنظره واجتهاده في مسائل اجتهادية انتفى فيها وجود نص قطعي الثبوت والدلالة ، ونحو ذلك .
أما المسائل الظاهرة البينة الجلية ، أو المعلومة من الدين بالضرورة كأصول الدين والايمان التي أوضحها الله في كتابه ، وبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم البلاغ ، فالعذر بالجهل فيها غير مقبول لكل من ادعاه بعد بلوغ الحجة وظهور المحجة ، قال الشافعي " رحمه الله " - مبينا علم العامة - : " ما لايسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله ، مثل الصلوات الخمس ، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان ، وحج البيت اذا استطاعوه ، وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل ، والسرقة والخمر ، وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعلموه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم ، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه " . وقال محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله " : " ان الشخص المعين اذا قال ما يوجب الكفر فانه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس ، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية ، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله ، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة " .
ومن حيث حال الجاهل وصفته :
فان مدارك الناس تتفاوت قوة وضعفا ، فالذي لم تقم عليه الحجة كحال الجاهل لكونه حديث عهد بالاسلام ، أو من نشأ في بادية نائية ، فجهل من كان هذا حاله معذور به الا بعد البلاغ ، قال ابن تيمية - رحمه الله - : " لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالاسلام أو لنشأته ببادية بعيدة ، فان حكم الكفر لا يكون الا بعد بلوغ الرسالة ، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ، ولا يعلم بأن الرسول بعث بذلك " .غير أنه ينبغي التفريق بين الجاهل المتمكن من التعلم والفهم ، القادر على معرفة الحق ، لكنه مفرط في طلب العلم ، ثم أعرض عن ذلك تاركا ما أوجب الله عليه ، وخاصة اذا وجد في دار الاسلام حيث مظنة العلم ، وبين الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم ، فأما الأول : فلا عذر له لتقصيره ، وينتفي عنه وصف العجز لتمكنه من العلم الذي هو شرط الايمان ، لأن الشرع أمر بالعلم و التعلم وسؤال أهل الذكر ، ويسره وبينه لمن صلحت نيته وحسن منهجه ، قال تعالى : " ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر " ( سورة القمر 17 ) ، وقال سبحانه : " فسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " ( النحل : 43 ، الأنبياء : 7 ) ، وفي الحديث : " ألا سألوا اذا لم يعلموا انما شفاء العي السؤال " ، وأما الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم ، فهذا على قسمين :
الأول : الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم ، وهو محب للهدي ، مؤثر له ، مريد للاسترشاد والهداية ، لكنه غير قادر عليه ، أو على طلبه ، عجزا وجهلا ، أو استفرغ جهده في طلبه ولم تصله حجة صحيحة ، فهذا حكمه كأهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة ، ومن طلب الدين ولم يظفر به، فعجزه عجز الطالب ، وهذا معذور بجهله .
الثاني : الجاهل العجز عن العلم والفهم ، لكن لا ارادة له في الطلب ، بل معرض عنه - وهو راض بما هو عليه - ولا تطلب نفسه سواه ، ويتقاعس عن نيل مزيد الهدى لنفسه ، فحال عجزه وقدرته سواء بل فرق ، وعجزه عجز المعرض ، فهو لا يلحق بعجز الطالب للتباين الحاصل بينهما .
ومن حيث حال البيئة :
فانه يفرق بين أماكن الناس وزمانهم من جهة انتشار العلم أو عدم انتشاره ، أي بين مجتمع ينتشر فيه العلم والتعليم ، وتعرف أماكنه بنشاط أهل البصيرة بالدعوة الى الله تعالى والنهوض بالعلم والتوحيد ، بحيث لا تخفى مظانه ومدارسه وأهله ، وبين زمن فتور العلم وضعف القائمين به ، حتى لا يبقى من يبلغ ، فيتتشر الجهل ويضمحل العلم ، وتأكيدا لهذا المعنى يقول ابن تيمية - رحمه الله - " ان الأمكنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة " .
ويقول - أيضا - : " وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة ، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ، ومثل هذا لا يكفر ، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأببادية بعيدة عن أهل العلم والايمان ، وكان حديث العهد بالاسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فانه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ، ولهذا جاء في الحديث : " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا الا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ، يقولون : أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا اله الا الله ، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا ، فقال : ولا صوم ينجيهم من النار "
من حيث التسمية والعقوبة :
فالذي وقع في مظهر شركي ولم يعلم مناقضته للاسلام كأن يكون حديث عهد بالاسلام ، أو يعيش في بلد جهل ، أو نشأ في بادية نائية ، أو كانت المسألة خفية غير ظاهرة فانه يفرق بين قبح المعصية وتسمية فاعلها بها ، سواء قبل ورود الشرع وقيام الحجة ، أو بعد البيان وظهور الحجة ، وبين كون مرتكبها لا يستحق العقوبة في الدارين ، لأن العقوبة والعذاب متوقف على بلاغ الرسالة ، لقوله تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" ( الاسراء : 15 )
فالمتلبس بالشرك كالساجد لغير الله من ولي أوصاحب قبر فهو مشرك مع الله غيره في العبادة ، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده ، لأنه أتى ما ينقض قوله من سجود لغير الله ، فمن حيث التسمية فهو مشرك بما حدث منه من معصية السجود لغير الله ، لكنه قد يعذر بجهله من جهة انزلاق العقوبة التي لا تتم في الدارين الا بعد البيان واقامة الحجة للاعذار عليه . قال ابن تيمية - رحمه الله - " واسم المشرك ثبت قبل الرسالة / فانه يشرك بربه ويعدل به ، ويجعل معه آلهة أخرى ، ويجعل له أندادا قبل الرسول ، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها ، وكذلك اسم الجهل والجاهلية ، يقال : جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول ، وأما التعذيب فلا " ، وقال النووي : " وأما الجاهلية فما كان قبل النبوة سموا بذلك لكثرة جهالاتهم " .
قلت : ومن بين الأدلة القرآنية على ثبوت وصف الشرك والكفر مع الجهل - فضلا عن سائر المعاصي - وذلك قبل قيام الحجة البيان ، قوله تعالى : " وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " ( التوبة : 6 ) ، فوصفهم الله بالشرك مع شدة الجهل لاندراس آثار الشرائع ، وقوله تعالى : " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ( البينة : 1 ) ، والمراد بالبينة هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - فانه بين لهم ضلالهم وجهلهم زدعاهم الى الايمان ، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة ، والله سبحانه سماهم كفارا ومشركين فدل على ثبوت وصف الكفر والشرك قبل البعثة المحمدية وقيام الحجة القرآنية .
فالحاصل : أنه ينبغي - في مسألة العذر بالجهل - مراعاة نوعية المسائل المجهولة من جهة الوضوح والخفاء ، والنظر الى أحوال الناس وتفاوت مداركهم من جهة القوة والضعف ، واعتبار حال بيئتهم - مكانا وزمانا - من جهة وجود مظنة العلم من عدمه ، مع مراعة التفريق في الحكم بين أحكام الدنيا والآخرة .
والعلم عند الله تعالى ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه واخوانه الى يوم الدين ، وسلم تسليما
العذر بالجهل في المسائل العقدية
لفضيلة الشيخ الدكتور : أبي عبد المعز محمد علي فركوس
فاعلم - وفقك الله ، وسدد خطاك - أن الجهل بأمور الدين ومسائل الشرع يدل على انخفاض منزلة الجاهل ونقص ايمانه على قدر جهله ، والجهل - في الجملة - أحد موانع تكفير المعين ، لأن الايمان يتعلق بالعلم ، ووجود العلم بالمؤمن به شرط من شروط الايمان ، اذ لا يقوم التكليف مع الجهل أو عدم العلم ، غير أن العذر بالجهل مؤقت ، وتأقيته متوقف على عدم توفر الأسباب وتحقق الشروط ، أو في امكان وجودها وتحققها تقديرا ، ومنه يعلم أن اثبات العذر مطلقا لا يسوغ ، كما أن نفي العذر بالجهل مطلقا لا يصح - أيضا - ، وقد ذكرت هذا المعنى في رسالتي " مجالس تذكيرية " بقولي : " واذا ترجح القول بأن الجهل عذر شرعي فليس ذلك اطلاقه " ، غير أنني عدلت عن الاستدلال بالنصوص الشرعية المذكورة في رسالتي المشار اليها ، وأعدت بيانها بتوجيه آخر ، أراه أقرب للحق وأجدر بالصواب - وهو ما بينته في هذه الرسالة - . هذا واللائق بهذا المقام النظر في مسألة العذر بالجهل في المسائل الدينية الى جزئيات متعددة تتبلور من خلالها المسألة وتنضبط ، ويمكن بيان هذه الجزئيات - باختصار - من الحيثيات التالية :
فمن حيث نوعية المسائل المجهولة وضوحا وخفاء :
فالمسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس كاستعمال الصرف والعطف - وهو : نوع من السحر يزعمون أنه يحبب المرأة لزوجها فلا ينصرف عنها - أو المسائل الدقيقة والخفية المختلف فيها ، أو المسائل التي لا يسعه معرفتها الا بعد اعلامه بحكم الله فيها ، أو المسائل التي تحتاج الى علم بها لا يدرك بالعقل كالأسماء والصفات ، كما قال الشافعي - رحمه الله - : " لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، وأما قبل قيام الحجة فانه يعذر بالجهل ، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر " ، أو المسائل التي وقع فيها خطأ لشبهة وسوء فهم ، أو اعتمد على أحاديث ظنها ثابتة وهي ضعيفة أو باطلة ، فيعذر بجهله ، كما يعذر المجتهد بنظره واجتهاده في مسائل اجتهادية انتفى فيها وجود نص قطعي الثبوت والدلالة ، ونحو ذلك .
أما المسائل الظاهرة البينة الجلية ، أو المعلومة من الدين بالضرورة كأصول الدين والايمان التي أوضحها الله في كتابه ، وبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم البلاغ ، فالعذر بالجهل فيها غير مقبول لكل من ادعاه بعد بلوغ الحجة وظهور المحجة ، قال الشافعي " رحمه الله " - مبينا علم العامة - : " ما لايسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله ، مثل الصلوات الخمس ، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان ، وحج البيت اذا استطاعوه ، وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل ، والسرقة والخمر ، وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعلموه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم ، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه " . وقال محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله " : " ان الشخص المعين اذا قال ما يوجب الكفر فانه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس ، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية ، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله ، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة " .
ومن حيث حال الجاهل وصفته :
فان مدارك الناس تتفاوت قوة وضعفا ، فالذي لم تقم عليه الحجة كحال الجاهل لكونه حديث عهد بالاسلام ، أو من نشأ في بادية نائية ، فجهل من كان هذا حاله معذور به الا بعد البلاغ ، قال ابن تيمية - رحمه الله - : " لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالاسلام أو لنشأته ببادية بعيدة ، فان حكم الكفر لا يكون الا بعد بلوغ الرسالة ، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ، ولا يعلم بأن الرسول بعث بذلك " .غير أنه ينبغي التفريق بين الجاهل المتمكن من التعلم والفهم ، القادر على معرفة الحق ، لكنه مفرط في طلب العلم ، ثم أعرض عن ذلك تاركا ما أوجب الله عليه ، وخاصة اذا وجد في دار الاسلام حيث مظنة العلم ، وبين الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم ، فأما الأول : فلا عذر له لتقصيره ، وينتفي عنه وصف العجز لتمكنه من العلم الذي هو شرط الايمان ، لأن الشرع أمر بالعلم و التعلم وسؤال أهل الذكر ، ويسره وبينه لمن صلحت نيته وحسن منهجه ، قال تعالى : " ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر " ( سورة القمر 17 ) ، وقال سبحانه : " فسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " ( النحل : 43 ، الأنبياء : 7 ) ، وفي الحديث : " ألا سألوا اذا لم يعلموا انما شفاء العي السؤال " ، وأما الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم ، فهذا على قسمين :
الأول : الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم ، وهو محب للهدي ، مؤثر له ، مريد للاسترشاد والهداية ، لكنه غير قادر عليه ، أو على طلبه ، عجزا وجهلا ، أو استفرغ جهده في طلبه ولم تصله حجة صحيحة ، فهذا حكمه كأهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة ، ومن طلب الدين ولم يظفر به، فعجزه عجز الطالب ، وهذا معذور بجهله .
الثاني : الجاهل العجز عن العلم والفهم ، لكن لا ارادة له في الطلب ، بل معرض عنه - وهو راض بما هو عليه - ولا تطلب نفسه سواه ، ويتقاعس عن نيل مزيد الهدى لنفسه ، فحال عجزه وقدرته سواء بل فرق ، وعجزه عجز المعرض ، فهو لا يلحق بعجز الطالب للتباين الحاصل بينهما .
ومن حيث حال البيئة :
فانه يفرق بين أماكن الناس وزمانهم من جهة انتشار العلم أو عدم انتشاره ، أي بين مجتمع ينتشر فيه العلم والتعليم ، وتعرف أماكنه بنشاط أهل البصيرة بالدعوة الى الله تعالى والنهوض بالعلم والتوحيد ، بحيث لا تخفى مظانه ومدارسه وأهله ، وبين زمن فتور العلم وضعف القائمين به ، حتى لا يبقى من يبلغ ، فيتتشر الجهل ويضمحل العلم ، وتأكيدا لهذا المعنى يقول ابن تيمية - رحمه الله - " ان الأمكنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة " .
ويقول - أيضا - : " وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة ، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ، ومثل هذا لا يكفر ، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأببادية بعيدة عن أهل العلم والايمان ، وكان حديث العهد بالاسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فانه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ، ولهذا جاء في الحديث : " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا الا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ، يقولون : أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا اله الا الله ، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا ، فقال : ولا صوم ينجيهم من النار "
من حيث التسمية والعقوبة :
فالذي وقع في مظهر شركي ولم يعلم مناقضته للاسلام كأن يكون حديث عهد بالاسلام ، أو يعيش في بلد جهل ، أو نشأ في بادية نائية ، أو كانت المسألة خفية غير ظاهرة فانه يفرق بين قبح المعصية وتسمية فاعلها بها ، سواء قبل ورود الشرع وقيام الحجة ، أو بعد البيان وظهور الحجة ، وبين كون مرتكبها لا يستحق العقوبة في الدارين ، لأن العقوبة والعذاب متوقف على بلاغ الرسالة ، لقوله تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" ( الاسراء : 15 )
فالمتلبس بالشرك كالساجد لغير الله من ولي أوصاحب قبر فهو مشرك مع الله غيره في العبادة ، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده ، لأنه أتى ما ينقض قوله من سجود لغير الله ، فمن حيث التسمية فهو مشرك بما حدث منه من معصية السجود لغير الله ، لكنه قد يعذر بجهله من جهة انزلاق العقوبة التي لا تتم في الدارين الا بعد البيان واقامة الحجة للاعذار عليه . قال ابن تيمية - رحمه الله - " واسم المشرك ثبت قبل الرسالة / فانه يشرك بربه ويعدل به ، ويجعل معه آلهة أخرى ، ويجعل له أندادا قبل الرسول ، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها ، وكذلك اسم الجهل والجاهلية ، يقال : جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول ، وأما التعذيب فلا " ، وقال النووي : " وأما الجاهلية فما كان قبل النبوة سموا بذلك لكثرة جهالاتهم " .
قلت : ومن بين الأدلة القرآنية على ثبوت وصف الشرك والكفر مع الجهل - فضلا عن سائر المعاصي - وذلك قبل قيام الحجة البيان ، قوله تعالى : " وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " ( التوبة : 6 ) ، فوصفهم الله بالشرك مع شدة الجهل لاندراس آثار الشرائع ، وقوله تعالى : " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ( البينة : 1 ) ، والمراد بالبينة هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - فانه بين لهم ضلالهم وجهلهم زدعاهم الى الايمان ، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة ، والله سبحانه سماهم كفارا ومشركين فدل على ثبوت وصف الكفر والشرك قبل البعثة المحمدية وقيام الحجة القرآنية .
فالحاصل : أنه ينبغي - في مسألة العذر بالجهل - مراعاة نوعية المسائل المجهولة من جهة الوضوح والخفاء ، والنظر الى أحوال الناس وتفاوت مداركهم من جهة القوة والضعف ، واعتبار حال بيئتهم - مكانا وزمانا - من جهة وجود مظنة العلم من عدمه ، مع مراعة التفريق في الحكم بين أحكام الدنيا والآخرة .
والعلم عند الله تعالى ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه واخوانه الى يوم الدين ، وسلم تسليما
العذر بالجهل في المسائل العقدية
لفضيلة الشيخ الدكتور : أبي عبد المعز محمد علي فركوس