علي النموشي
2010-03-10, 20:17
المقــامــة الريــاضـيــة
حدثنا عباس النموشي قال : كنت أمارس رياضة الجري مع رفقتي الشباب ، و كلّي حماسة رغم الصعاب ، قصد الحصول على بعض اللياقة البدنية ، و الراحة النفسية والجسدية ، و القضاء على دهون البطن ، و ما ينجر عنها من مرض و عطن و تفاديا لمرض البواسير ، هذا الداء الضار الخطير ، و الذي كاد يلازمني ، جراء طول الجلوس على الكرسي ، بحكم مهنتي و عملي ، و كنا بادئ الأمر نجري في ملعب الحي ، فتطيرت منه بعض الشيء ، لكثرة الضوضاء و الأولاد فيه ، و الغبار الذي يعتريه ، فطلبت من زملائي بأن نغيّر المكان ، إلى طريق خارج المدينة تفاديا للصبيان ، و طلبا للهواء النقي و للأمان ، فوافقوني الرأي بلا تردد ، و من غير مناقشة و لا تشدد ، فتريضنا في هذا الطريق شهرين كاملين ، إلا أننا لم نسلم من خطر المهرّبين ، الذين أزعجونا بسياراتهم السريعة ، و مغامراتهم المريعة ، و التي كادت إحداها أن تدهس زميلا لنا في مجراها ، حيث تجدهم يسيرون بسرعة جنونية و لا يحتكمون للأمور القانونية ، ناهيك عن الغبار الكثيف ، و دخان العربات المخيف و تعليق الركاب السخيف ، و برد الشتاء و مطر الخريف ، و في إحدى المرات صادفنا شابا في ملتقى الطرقات ، يجري بإتجاه الجبال و كان مشهورا برياضة حمل الأثقال ، فتحدثنا في الأمر ، و أجابنا بكل وضوح و رحبة صدر ، و اقترح علينا الجري في الجبل ، لِمَا له من فوائد جلل ، حيث الهواء المنعش ، و الشجر الأخضر المدهش ، و الحشائش و الرياحين ، و الطيور المغردين ، و بيوت النحل ، صاحب أصفى عسل ، فأعجبتنا الفكرة ، ووافقنا دون حيرة ، فكان يوما رائعا ، و جوا مناسبا لم نرى له مثيلا ، و كان هو لنا دليلا ، و صرنا على هذا الأمر أشهرا معدودات ، رأينا فيها كل المسرات ، و في أحد الأيام تخلفت عن رفقتي ، و قد نسيت بطاقتي في بيتي لكنني قررت الجري بمفردي ، إلا أنني في طريقي ، لمحت فصيلة من الجنود يتسلقون الجبل عن طريق أخدود ، حيث كانوا في عملية تمشيط واسعة ، بحثا عن مجموعات قابعة ، فقلت في قرارة نفسي ، لا خوف عليّ و لا على رأسي ، سأجري و ليكن ما يكون ، و لو رأيت في هذا المنون . ولكن و أنا عائد في طريقي ، إستوقفتني المجموعة و باغتتني ، فوجهوا ضدي السلاح فخرصت عن الكلام المباح ، و طلبوا مني بطاقة التعريف ، والكشف عن هويتي من دون تزييف أو تحريف ، لكنني أجبتهم بالحقيقة ، بلغة خوف رقيقة ، يا أبناء الوطن المفدى ، لقد نسيتها ما عدى ، فلست مفسدا في الأرض ، و لا هاتكا للعرض ، و ليس لي أي غرض ، إني شاب أهوى الجري ، و هاكم ابحثوا أمري ، لكنهم أوثقوني و إلى مخفرهم أخذوني ، و شرعوا في إستجوابي ، و شكّوا في أنني إرهابي ، و قال لي قائدهم : يا هذا أتستهبل علينا أم أنك لا تدري ، كيف تفسر هذا ، و يا ترى ماذا فكيف بشاب ملتح ، وجدناه في الجبل يجري ، و لا يملك وثيقة هوية ، تثبت له الجنسية و الوطنية ، فقلت له : تقصى الأمر ، فأنا معروف و لست من ذوي الشر إني أعمل لدى ديوان الوالي ، و هو أدرى بحالي ، و بعد برهة من البحث ، و من دون أي عبث ، رافقتها مكالمات هاتفية ، و ملاسنات لفظية ، أطلقوا سراحي ، بعد أن كبحوا جماحي ، و رجعت للدار فرحا ، مستبشرا عارفا ، و عدت مجددا لملعب الحي أتريض فيه و أجري ، لكن بعد مرور حول كامل ، عاد بي الحنين إلى الجبل و تذكرت فيه أيام العسل ، فقررت الرجوع إلى الجري ، و مررت على رفاقي ، لكنهم رفضوا ، ولم يوافقوا ، فقد كان يوما باردا ، حيث أمطرت و أثلجت ، لكنني قررت الذهاب ، على أن أسرع في الإياب و ما إن إجتزت السفح ، حتى نسيت الطفح و مضيت أجري و أجري ، من دون أن أدري ، إلى أن توغلت في الأحراش ، عابرا منطقة القـطّار و الأدهاش ، و قد نال مني التعب ، فوقفت في مسلك صعب ، لكنني ذهلت ِلمَا سمعت ، ذئاب تعوي خلفي فهربت و بعد برهة إلتفتت ، رأيت ذئبا يعدو بسرعة ، فزدت المسافة و الجرعة ، لأني خفت أن ينادي أصحابه ، و أصبح وليمة له و لأترابه ، و ما هي إلا لحظات ، حتى نبحت كلاب عاديات ، فاستبشرت بالخير و أدركت أنني ناج بقدرة قادر ، و قد إهتديت إلى رجل يرعى قطيعا من الغنم ، تحت إحدى القمم ، فلما وصلت قربه ، وقفت و ارتحت عنده ، فذهلت لما رأيته ، فقد كان البستاني أبو عبد الرحمان الموسوي ، الذي عمل معنا في مقر الولاية ، و قد كان كله دراية بفنون البستنة و السقاية ، لكنه أحيل على التقاعد ، و أصبح قليل الظهور و التواجد ، فقال لي : إني رأيتك تجري منذ قليل ، و شاهدت فيك قدرة الرب الجليل فأنقذتك بالكلاب ، و لولاها لكنت فريسة للذئاب . فحمدت المولى على نجاتي و شكرته على إنقاذ حياتي ، و قدمت لصاحبنا تحياتي ، ثم دخلت أبواب المدينة ، ذات الوجوه المشينة ، و رجعت أجري مع الصبيان ، و كلّي ذل و هوان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عطن : رائحة كريهة و تطلق عادة على رائحة الإبط .
المهربين : جماعات خارجة عن القانون الاقتصادي للبلاد .
أخدود : طريق جبلي يشبه الوادي .
المنون : جمع مفرده منية و هي الموت .
السفح : بداية الجبل .
القطّار : منطقة جبلية معروفة قرب مدينة تبسة .
حدثنا عباس النموشي قال : كنت أمارس رياضة الجري مع رفقتي الشباب ، و كلّي حماسة رغم الصعاب ، قصد الحصول على بعض اللياقة البدنية ، و الراحة النفسية والجسدية ، و القضاء على دهون البطن ، و ما ينجر عنها من مرض و عطن و تفاديا لمرض البواسير ، هذا الداء الضار الخطير ، و الذي كاد يلازمني ، جراء طول الجلوس على الكرسي ، بحكم مهنتي و عملي ، و كنا بادئ الأمر نجري في ملعب الحي ، فتطيرت منه بعض الشيء ، لكثرة الضوضاء و الأولاد فيه ، و الغبار الذي يعتريه ، فطلبت من زملائي بأن نغيّر المكان ، إلى طريق خارج المدينة تفاديا للصبيان ، و طلبا للهواء النقي و للأمان ، فوافقوني الرأي بلا تردد ، و من غير مناقشة و لا تشدد ، فتريضنا في هذا الطريق شهرين كاملين ، إلا أننا لم نسلم من خطر المهرّبين ، الذين أزعجونا بسياراتهم السريعة ، و مغامراتهم المريعة ، و التي كادت إحداها أن تدهس زميلا لنا في مجراها ، حيث تجدهم يسيرون بسرعة جنونية و لا يحتكمون للأمور القانونية ، ناهيك عن الغبار الكثيف ، و دخان العربات المخيف و تعليق الركاب السخيف ، و برد الشتاء و مطر الخريف ، و في إحدى المرات صادفنا شابا في ملتقى الطرقات ، يجري بإتجاه الجبال و كان مشهورا برياضة حمل الأثقال ، فتحدثنا في الأمر ، و أجابنا بكل وضوح و رحبة صدر ، و اقترح علينا الجري في الجبل ، لِمَا له من فوائد جلل ، حيث الهواء المنعش ، و الشجر الأخضر المدهش ، و الحشائش و الرياحين ، و الطيور المغردين ، و بيوت النحل ، صاحب أصفى عسل ، فأعجبتنا الفكرة ، ووافقنا دون حيرة ، فكان يوما رائعا ، و جوا مناسبا لم نرى له مثيلا ، و كان هو لنا دليلا ، و صرنا على هذا الأمر أشهرا معدودات ، رأينا فيها كل المسرات ، و في أحد الأيام تخلفت عن رفقتي ، و قد نسيت بطاقتي في بيتي لكنني قررت الجري بمفردي ، إلا أنني في طريقي ، لمحت فصيلة من الجنود يتسلقون الجبل عن طريق أخدود ، حيث كانوا في عملية تمشيط واسعة ، بحثا عن مجموعات قابعة ، فقلت في قرارة نفسي ، لا خوف عليّ و لا على رأسي ، سأجري و ليكن ما يكون ، و لو رأيت في هذا المنون . ولكن و أنا عائد في طريقي ، إستوقفتني المجموعة و باغتتني ، فوجهوا ضدي السلاح فخرصت عن الكلام المباح ، و طلبوا مني بطاقة التعريف ، والكشف عن هويتي من دون تزييف أو تحريف ، لكنني أجبتهم بالحقيقة ، بلغة خوف رقيقة ، يا أبناء الوطن المفدى ، لقد نسيتها ما عدى ، فلست مفسدا في الأرض ، و لا هاتكا للعرض ، و ليس لي أي غرض ، إني شاب أهوى الجري ، و هاكم ابحثوا أمري ، لكنهم أوثقوني و إلى مخفرهم أخذوني ، و شرعوا في إستجوابي ، و شكّوا في أنني إرهابي ، و قال لي قائدهم : يا هذا أتستهبل علينا أم أنك لا تدري ، كيف تفسر هذا ، و يا ترى ماذا فكيف بشاب ملتح ، وجدناه في الجبل يجري ، و لا يملك وثيقة هوية ، تثبت له الجنسية و الوطنية ، فقلت له : تقصى الأمر ، فأنا معروف و لست من ذوي الشر إني أعمل لدى ديوان الوالي ، و هو أدرى بحالي ، و بعد برهة من البحث ، و من دون أي عبث ، رافقتها مكالمات هاتفية ، و ملاسنات لفظية ، أطلقوا سراحي ، بعد أن كبحوا جماحي ، و رجعت للدار فرحا ، مستبشرا عارفا ، و عدت مجددا لملعب الحي أتريض فيه و أجري ، لكن بعد مرور حول كامل ، عاد بي الحنين إلى الجبل و تذكرت فيه أيام العسل ، فقررت الرجوع إلى الجري ، و مررت على رفاقي ، لكنهم رفضوا ، ولم يوافقوا ، فقد كان يوما باردا ، حيث أمطرت و أثلجت ، لكنني قررت الذهاب ، على أن أسرع في الإياب و ما إن إجتزت السفح ، حتى نسيت الطفح و مضيت أجري و أجري ، من دون أن أدري ، إلى أن توغلت في الأحراش ، عابرا منطقة القـطّار و الأدهاش ، و قد نال مني التعب ، فوقفت في مسلك صعب ، لكنني ذهلت ِلمَا سمعت ، ذئاب تعوي خلفي فهربت و بعد برهة إلتفتت ، رأيت ذئبا يعدو بسرعة ، فزدت المسافة و الجرعة ، لأني خفت أن ينادي أصحابه ، و أصبح وليمة له و لأترابه ، و ما هي إلا لحظات ، حتى نبحت كلاب عاديات ، فاستبشرت بالخير و أدركت أنني ناج بقدرة قادر ، و قد إهتديت إلى رجل يرعى قطيعا من الغنم ، تحت إحدى القمم ، فلما وصلت قربه ، وقفت و ارتحت عنده ، فذهلت لما رأيته ، فقد كان البستاني أبو عبد الرحمان الموسوي ، الذي عمل معنا في مقر الولاية ، و قد كان كله دراية بفنون البستنة و السقاية ، لكنه أحيل على التقاعد ، و أصبح قليل الظهور و التواجد ، فقال لي : إني رأيتك تجري منذ قليل ، و شاهدت فيك قدرة الرب الجليل فأنقذتك بالكلاب ، و لولاها لكنت فريسة للذئاب . فحمدت المولى على نجاتي و شكرته على إنقاذ حياتي ، و قدمت لصاحبنا تحياتي ، ثم دخلت أبواب المدينة ، ذات الوجوه المشينة ، و رجعت أجري مع الصبيان ، و كلّي ذل و هوان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عطن : رائحة كريهة و تطلق عادة على رائحة الإبط .
المهربين : جماعات خارجة عن القانون الاقتصادي للبلاد .
أخدود : طريق جبلي يشبه الوادي .
المنون : جمع مفرده منية و هي الموت .
السفح : بداية الجبل .
القطّار : منطقة جبلية معروفة قرب مدينة تبسة .