علي النموشي
2010-02-24, 21:26
المقــامــة الجُـــواديـــة
حدثنا عباس النموشي قال : كنا نعيش في البادية ، حياة هنيئة هادئة ، و كان والدي كبير قومه و الكل يهابه و يحترمه ، قليل نومه ، مواضبا على صلاته و صومه و كنت أنا الابن الأصغر مدلل الدار الأكبر ، وكان - رحمه الله - سخيّا جوادا ، و ليس مثله عوادا ، يكرم الضيف ، في الشتاء و في الصيف ، لِـمَا حَـبَاه الله من سعة رزق و كثرة أموال من ذهب و َوِرق ، كثير الأنعام ، من ماعز و أبقار و أغنام ، و كان هذا الأمر ، لي بمثابة العلياء و الفخر ، فكنت الآمر الناهي بين أترابي ، و موقّرا بين أصحابي ، و في أحد الأيام تذكرت بإمعان ، صيد الريم و الغزلان ، لمّا كنت أرافق والدي ، مع رفاقه في رحلات الصيد ، فخطرت ببالي فكرة ، و هي أن أذهب في غفلة حيث لا يراني لا والدي و لا والدتي ، ولا حتى أحدا من إخوتي ، فجمعت بعضا من رفاقي و اتفقنا على التلاقي ، و صممنا على الذهاب إلى موطن الغزلان و الذئاب حيث يصب وادي غيسران الكبير ، ذو الماء المالح الكثير ، و بالتحديد في صحراء المرتوم البعيدة ، ذات المخلوقات العديدة ، و تواعدنا على الذهاب باكرا ، عندما يكون أبي لربه ذاكرا ، فأخبرت أمي أنني ذاهبا مع رفقتي الصغار ، قصد جلب الماء من النبع الحار ، و عزمنا أمرنا الذهاب ، واتفقنا على ساعة الإياب ، قبل مغيب الشمس مخافة الأسباب ، و حملنا معنا الزاد تحسبا لطول المسلك و البعاد ، و أخذت معي موسة صغيرة ، لصيد اليرابيع و ذبحها بالطرق اليسيرة ، و هممنا أمرنا المسير و عبرنا الوادي المذكور ، ثم مررنا بآثار حصن البسرياني المغمور ، ذو الآثار العتيقة و الجدران الأنيقة ، و الصومعة الكبيرة التي تشبه أبنية الأديرة ، و قد كانت مهمته في ما مضى ، حماية حدود روما الجنوبية من ثورات القبائل الأمازيغية فوجدنا عنده نقودا رومانية ، نحاسية و برونزية ، و قد إخضر لونها و ذهب بريقها كما عثرنا على جرار كثيرة ، أغلبها مكسورة من صغيرة و كبيرة ، ثم واصلنا السير حتى منتصف النهار ، و قد أعيانا التعب ، و لاقينا كثير النصب ، فجلسنا قرب شجرة سدر ، و تناولنا غداءنا عن عجل و بلا قدر . ثم أكملنا المسير ، و الشمس تلفحنا و كلنا خوف من أم جبير ، و شاهد رفقتي السراب ، فخافوه و أبو الاقتراب فطمأنتهم بأنه ظاهرة طبيعية عادية ، و اقتربنا من هدفنا ، و رأينا ما هالنا ، غزلانا و ثعالبا كثيرة ، و أرانبا برية كبيرة ، و طيورا بديع حسنها ، جميل لونها عديد شكلها ، و زواحفا مخيفة من ورول و ضبب ، و ثعابين و أفاعي في القفر تدب ، و لما رأيت كل هذا ، قلت في نفسي لو و ماذا ؟ لو طاردنا بعض الأرانب لعلنا نظفر بواحدة منها لنتذوق لحمها ، و ماذا لو نال منا العطش أو أصابنا بعض البطش ، لكنني أمرت رفاقي بالجري وراء أرنب سمين ، بطيء الحركة بدين ، غير أننا أخفقنا في الإمساك به ، و الوصول إليه ، فتراجعنا و فشلنا بيْد أنني رحت أبحث عن مواطن اليرابيع فوجدت واحدة و ناديت الجميع ، وبعد حيلة معروفة لصيدها ، أمسكنا بأحدها ، و بسرعة البرق ذبحته و سلخته ، و أشعلنا عليه نارا خفيفة ، و قد أصبح لنا وليمة طريفة ، و رحنا نمرح و نرتع ، و نغدو و نرجع و كلنا ذهولا بشكل الغزلان الوديعة ، كيف تجري و تقفز بسرعة عجيبة ، حتى نال التعب منا ، و نفد الزاد و الماء عنا ، عندها رجعنا أدراجنا ، و قد بلغت الشمس كبد السماء ، بعد أن قاربنا العناء ، فراودتني فكرة جريئة ، بأن نختصر الطريق البعيدة و أن نمر بقرب الفيضات الكبيرة ، لعلنا نعود للديار بسرعة ، إلا أننا ضللنا الطريق و ابتعدنا عن الوجهة ، و قد أنهكنا العطش ، و شرع رفقتي في البكاء و أنا أحثهم على رباطة الجأش ، لكنهم حمّلوني المسؤولية ، و تحالفوا ضدي بلا روية ، و كادوا أن يعاقبونني و يضربونني ، إلا أنّ قوانا خارت ، و أبصارنا زاغت ، و كان ذلك بمثابة رحمة عليّ ، و نجاة لي . عندها تراءت لي حيلة ، لعلها تقينا الهلاك و المضرة ، بأن نشرب بولنا ، و هذا آخر أمل لدينا ، ففعلنا وكان مالحا أجاجا ، و من هوله كادت أن تأتينا الحاجة ، و قد وصلنا إلى درجة الجُـواد ، وهو شدة العطش القاتل للعباد، و بدأنا بنزع ثيابنا حتى كدنا أن نتعرى . حتى أننا لمحنا طيفا قادما نحونا ، فالتففنا حول بعضنا ، و قد خلناه وحشا ضاريا ، جاء بغية افتراسنا ، فأصبحت فرائسنا ترتعد ، و أوداجنا تشتد فلما اقترب أصابني بعض الشك ، فعرفت أن القادم بشر من دون أدنى شك ، و ظهر أخيرا رجل يركب جملا ، و يلبس جبة متلثما ، فلما كشف عن وجهه ، بدى لنا شيخا رقيق العود ، طويل العمود ، غائر العينين ، عاقد الحاجبين كث شعر اللحية و الشاربين ، فلما أمعنت النظر إليه عرفته ، و قد كان الشيخ التقي أبو عبد الرحمان الموسوي ، حيث عهدته يرافق والدي في رحلات الصيد ، و كان أحيانا يصلي بالجماعة أيام الأعياد و الجمعة ، و يسكن مكان يسمى المراخى ، يبعد عنا عشرات الفراسخ ، فقال لنا : ماذا دهاكم يا أشقياء ، و الله إنكم لعصبة بلهاء وإلا كيف تجوبون القفر بهذا التهور ، فأجبته بكلام متدارك : أدركنا يا شيخ فقد شارفنا على الهلاك ، فنزل بسرعة و احضر زقا و قربة ، و شرع يسقي كل على حدى بجرعة حتى دبت فينا الحياة ، بعد أن كدنا نرى الممات ، فحكيت له القصة ، من أول رحلة إلى هذه ساعتنا ، فقفل مسرعا بنا إلى مساكننا ، و قد عسعس الليل علينا فاعترضنا والدي مع جمع من الرجال ، و قد تغير عليهم الحال ، بحثا عنا ظنا منهم أننا فقدنا ، أو ثقفتنا الذئاب و التهمتنا ، أو أسِْرنا من قبل قطاع الطرق أو قتلنا و لمّا وصلنا إلى الديار ، وجدنا الناس بالإنتظار ، من كبار و صغار ، وهم في غاية القلق والحسرة ، بادية على وجوههم الحيرة ، فحمد الجميع الله على سلامتنا و وصولنا و نجاتنا ، و أدركت في داخلي ، أنني كدت أهلك أصدقائي معي ، و كلّي مضرة ، متعهدا أمام أهلي أنني لن أعيد الكرّة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورِق : بكسر الراء و هي دراهم الفضة .
أترابي : رفاقي الذين هم من سني .
الريم : غزال المها .
غيسران : إسم واد مشهور بصحراء نقرين .
المرتوم : بادية بصحراء نقرين .
حصن البسرياني : حصن روماني قديم كان مقرا للكتيبة الثالثة الرومانية و كان يسمى ( أدماجوريس ) .
سدر : شجر شوكي معروف .
ورول : جمع مفرده ورل و هو من الزواحف التي تعيش في الصحراء .
ضبب : جمع مفرده ضب من الزواحف بني قاتم اللون .
الفيضات : بادية شاسعة بصحراء نقرين .
المراخى : نسبة إلى لقب مرخي وهو من عرش أولاد العيساوي التابع لقبيلة النمامشة الكبيرة .
الفراسخ : جمع مفرده فرسخ و هو وحدة قياس قديمة للمسافات تساوي ستة كيلومترات تقريبا .
عسعس الليل : إذ جاوز مرحلة الشفق .
حدثنا عباس النموشي قال : كنا نعيش في البادية ، حياة هنيئة هادئة ، و كان والدي كبير قومه و الكل يهابه و يحترمه ، قليل نومه ، مواضبا على صلاته و صومه و كنت أنا الابن الأصغر مدلل الدار الأكبر ، وكان - رحمه الله - سخيّا جوادا ، و ليس مثله عوادا ، يكرم الضيف ، في الشتاء و في الصيف ، لِـمَا حَـبَاه الله من سعة رزق و كثرة أموال من ذهب و َوِرق ، كثير الأنعام ، من ماعز و أبقار و أغنام ، و كان هذا الأمر ، لي بمثابة العلياء و الفخر ، فكنت الآمر الناهي بين أترابي ، و موقّرا بين أصحابي ، و في أحد الأيام تذكرت بإمعان ، صيد الريم و الغزلان ، لمّا كنت أرافق والدي ، مع رفاقه في رحلات الصيد ، فخطرت ببالي فكرة ، و هي أن أذهب في غفلة حيث لا يراني لا والدي و لا والدتي ، ولا حتى أحدا من إخوتي ، فجمعت بعضا من رفاقي و اتفقنا على التلاقي ، و صممنا على الذهاب إلى موطن الغزلان و الذئاب حيث يصب وادي غيسران الكبير ، ذو الماء المالح الكثير ، و بالتحديد في صحراء المرتوم البعيدة ، ذات المخلوقات العديدة ، و تواعدنا على الذهاب باكرا ، عندما يكون أبي لربه ذاكرا ، فأخبرت أمي أنني ذاهبا مع رفقتي الصغار ، قصد جلب الماء من النبع الحار ، و عزمنا أمرنا الذهاب ، واتفقنا على ساعة الإياب ، قبل مغيب الشمس مخافة الأسباب ، و حملنا معنا الزاد تحسبا لطول المسلك و البعاد ، و أخذت معي موسة صغيرة ، لصيد اليرابيع و ذبحها بالطرق اليسيرة ، و هممنا أمرنا المسير و عبرنا الوادي المذكور ، ثم مررنا بآثار حصن البسرياني المغمور ، ذو الآثار العتيقة و الجدران الأنيقة ، و الصومعة الكبيرة التي تشبه أبنية الأديرة ، و قد كانت مهمته في ما مضى ، حماية حدود روما الجنوبية من ثورات القبائل الأمازيغية فوجدنا عنده نقودا رومانية ، نحاسية و برونزية ، و قد إخضر لونها و ذهب بريقها كما عثرنا على جرار كثيرة ، أغلبها مكسورة من صغيرة و كبيرة ، ثم واصلنا السير حتى منتصف النهار ، و قد أعيانا التعب ، و لاقينا كثير النصب ، فجلسنا قرب شجرة سدر ، و تناولنا غداءنا عن عجل و بلا قدر . ثم أكملنا المسير ، و الشمس تلفحنا و كلنا خوف من أم جبير ، و شاهد رفقتي السراب ، فخافوه و أبو الاقتراب فطمأنتهم بأنه ظاهرة طبيعية عادية ، و اقتربنا من هدفنا ، و رأينا ما هالنا ، غزلانا و ثعالبا كثيرة ، و أرانبا برية كبيرة ، و طيورا بديع حسنها ، جميل لونها عديد شكلها ، و زواحفا مخيفة من ورول و ضبب ، و ثعابين و أفاعي في القفر تدب ، و لما رأيت كل هذا ، قلت في نفسي لو و ماذا ؟ لو طاردنا بعض الأرانب لعلنا نظفر بواحدة منها لنتذوق لحمها ، و ماذا لو نال منا العطش أو أصابنا بعض البطش ، لكنني أمرت رفاقي بالجري وراء أرنب سمين ، بطيء الحركة بدين ، غير أننا أخفقنا في الإمساك به ، و الوصول إليه ، فتراجعنا و فشلنا بيْد أنني رحت أبحث عن مواطن اليرابيع فوجدت واحدة و ناديت الجميع ، وبعد حيلة معروفة لصيدها ، أمسكنا بأحدها ، و بسرعة البرق ذبحته و سلخته ، و أشعلنا عليه نارا خفيفة ، و قد أصبح لنا وليمة طريفة ، و رحنا نمرح و نرتع ، و نغدو و نرجع و كلنا ذهولا بشكل الغزلان الوديعة ، كيف تجري و تقفز بسرعة عجيبة ، حتى نال التعب منا ، و نفد الزاد و الماء عنا ، عندها رجعنا أدراجنا ، و قد بلغت الشمس كبد السماء ، بعد أن قاربنا العناء ، فراودتني فكرة جريئة ، بأن نختصر الطريق البعيدة و أن نمر بقرب الفيضات الكبيرة ، لعلنا نعود للديار بسرعة ، إلا أننا ضللنا الطريق و ابتعدنا عن الوجهة ، و قد أنهكنا العطش ، و شرع رفقتي في البكاء و أنا أحثهم على رباطة الجأش ، لكنهم حمّلوني المسؤولية ، و تحالفوا ضدي بلا روية ، و كادوا أن يعاقبونني و يضربونني ، إلا أنّ قوانا خارت ، و أبصارنا زاغت ، و كان ذلك بمثابة رحمة عليّ ، و نجاة لي . عندها تراءت لي حيلة ، لعلها تقينا الهلاك و المضرة ، بأن نشرب بولنا ، و هذا آخر أمل لدينا ، ففعلنا وكان مالحا أجاجا ، و من هوله كادت أن تأتينا الحاجة ، و قد وصلنا إلى درجة الجُـواد ، وهو شدة العطش القاتل للعباد، و بدأنا بنزع ثيابنا حتى كدنا أن نتعرى . حتى أننا لمحنا طيفا قادما نحونا ، فالتففنا حول بعضنا ، و قد خلناه وحشا ضاريا ، جاء بغية افتراسنا ، فأصبحت فرائسنا ترتعد ، و أوداجنا تشتد فلما اقترب أصابني بعض الشك ، فعرفت أن القادم بشر من دون أدنى شك ، و ظهر أخيرا رجل يركب جملا ، و يلبس جبة متلثما ، فلما كشف عن وجهه ، بدى لنا شيخا رقيق العود ، طويل العمود ، غائر العينين ، عاقد الحاجبين كث شعر اللحية و الشاربين ، فلما أمعنت النظر إليه عرفته ، و قد كان الشيخ التقي أبو عبد الرحمان الموسوي ، حيث عهدته يرافق والدي في رحلات الصيد ، و كان أحيانا يصلي بالجماعة أيام الأعياد و الجمعة ، و يسكن مكان يسمى المراخى ، يبعد عنا عشرات الفراسخ ، فقال لنا : ماذا دهاكم يا أشقياء ، و الله إنكم لعصبة بلهاء وإلا كيف تجوبون القفر بهذا التهور ، فأجبته بكلام متدارك : أدركنا يا شيخ فقد شارفنا على الهلاك ، فنزل بسرعة و احضر زقا و قربة ، و شرع يسقي كل على حدى بجرعة حتى دبت فينا الحياة ، بعد أن كدنا نرى الممات ، فحكيت له القصة ، من أول رحلة إلى هذه ساعتنا ، فقفل مسرعا بنا إلى مساكننا ، و قد عسعس الليل علينا فاعترضنا والدي مع جمع من الرجال ، و قد تغير عليهم الحال ، بحثا عنا ظنا منهم أننا فقدنا ، أو ثقفتنا الذئاب و التهمتنا ، أو أسِْرنا من قبل قطاع الطرق أو قتلنا و لمّا وصلنا إلى الديار ، وجدنا الناس بالإنتظار ، من كبار و صغار ، وهم في غاية القلق والحسرة ، بادية على وجوههم الحيرة ، فحمد الجميع الله على سلامتنا و وصولنا و نجاتنا ، و أدركت في داخلي ، أنني كدت أهلك أصدقائي معي ، و كلّي مضرة ، متعهدا أمام أهلي أنني لن أعيد الكرّة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورِق : بكسر الراء و هي دراهم الفضة .
أترابي : رفاقي الذين هم من سني .
الريم : غزال المها .
غيسران : إسم واد مشهور بصحراء نقرين .
المرتوم : بادية بصحراء نقرين .
حصن البسرياني : حصن روماني قديم كان مقرا للكتيبة الثالثة الرومانية و كان يسمى ( أدماجوريس ) .
سدر : شجر شوكي معروف .
ورول : جمع مفرده ورل و هو من الزواحف التي تعيش في الصحراء .
ضبب : جمع مفرده ضب من الزواحف بني قاتم اللون .
الفيضات : بادية شاسعة بصحراء نقرين .
المراخى : نسبة إلى لقب مرخي وهو من عرش أولاد العيساوي التابع لقبيلة النمامشة الكبيرة .
الفراسخ : جمع مفرده فرسخ و هو وحدة قياس قديمة للمسافات تساوي ستة كيلومترات تقريبا .
عسعس الليل : إذ جاوز مرحلة الشفق .