تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الحياة الطبيعية


عقبة القسنطيني
2012-08-26, 13:31
الحياة الطبيعية

نهضت هيلين من نفاسها بارئة نشطة فأخذت هي و صديقتها مرغريت تعملان في أرضهما بمعونة الزنجي (دومينج) و هو رجل كهل قد نيف على الخمسين من عمره إلا انه كان في الهمة و العزيمة واسع الخبرة في شؤون الزراعة الجليلة و أساليبها ، فكان يغرس في كل ارض ما يناسبها من البذور و الأغراس ، لا يفرق بين القسمين و لا يمنح احدهما من اهتمامه و عنايته أكثر مما يمنح الآخر ، فزرع الذرة في التربة المتوسطة ، و الحنطة في الأرض الجيدة و الأرز في التربة السبخة ، و القرع و القثاء و ما أشبههما من النبات المتسلق حول الصخور و فوق رؤوس الهضاب ، و زرع البطاطا في التربة الجافة اليابسة ، و شجيرات القطن في الربوات العالية ، و قصب السكر في الأرض القوية المتينة ، و غرس على ضفة النهر حول الكوخين أشجار الموز ذات الأوراق العريضة و الأفياء الظليلة ، و لم يفته أن يزرع لنفسه بضع شجيرات من التبغ يروح بتدخينها عن نفسه هموم دهره و آلامه.

و كان يذهب _ فوق ذلك _ إلى الغابات البعيدة و الأحراش النائية لاحتطاب الحطب و اجتلاب أعشاب الوقود ، و يقضي جزءا عظيما من يومه في تمهيد الأرض و تذليلها و تكسير الصخور و رصف الحصى و إنشاء الممرات و المستدقات و الجداول و الأقنية و كان يقوم بهذا العمل كله وحده راضيا مغتبطا لا أعينه عليه إلا بالرأي و الإرشاد لأنه كان يحب سيدتيه حبا جما ، و يخلص لهما إخلاصا عظيما ، و ربما كان للغرام يد خفية في ذلك النشاط الغريب المنبعث في أنحاء نفسه كما هو الشأن في أكثر حركات الناس و سكناتهم ، فانه كان مغتبطا كل الاغتباط بتلك الصلة التي نشأت بينه و بين الزنجية ((ماري)) في العمل ، و بوده لو استحالت إلى صلة أخرى غيرها أدنى إلى نفسه ، و الصق بفؤاده ، و قد تم له بعد عام واحد من اتصاله بها ما أراد ، فقد سمحت له سيدتاه بالزواج منها فبنى بها ليلة عيد ميلاد فرجيني و سعد بجوارها سعادة لا تختلف في روحها و جوهرها عن السعادة التي يهنا بها البيض المتمدينون.

و كانت ماري فتاة نشطة حاذقة ذكية الذهن صناع اليد ، متحلية بكثير من الصفات الفاضلة ، و قد استفادت في مسقط رأسها ((مدغشقر)) العلم ببعض الصنائع اليدوية التي يزاولها الناس هناك ، فكانت تجيد صنع السلال من لحاء أشجار القصب و نسج المآزر و المطارف من خيوط بعض الأشجار الليفية ، و كانت تحسن القيام على خدمة المنزل و مناظرته و ترتيب أثاثه و تربية الطيور الداجنة ، و رعي الماشية ، و مزاولة الطبخ و الغسل ، فإذا فرغت من عملها حملت ما فضل عن حاجة البيت من فاكهة و حبوب _ و لم يكن بالشيء الكثير _ إلى سوق المدينة ، فباعته فيها ، ثم عادت ببضع دريهمات تعطيها لسيدتيها.

أي أن المزرعة كان يعيش فيها امرأتان و طفلان و خادمان و كلب للحراسة و عنزتان للبن و بضع دجاجات للبيض ، لا أكثر من ذلك و لا أقل.

و كان لا بد للسيدتين من أن تعملا عملا يعينهما على عيشهما و يروح عنهما سامة الوحدة و مللها ، فكانتا تغزلان بياض نهارهما و أحيانا سواد ليلهما على ضوء القمر ، فاستطاعتا أن تجدا رزقهما ، و لكن مقترا مكدودا ، فأكلتا الدخن و الذرة ، و شربتا الماء الزنق ، و لبستا القمص البنغالية الخشنة التي يلبسها الإماء في هذه الجزيرة ، و مشتا على الأرض حافيتين غير منتعلتين إلا في اليوم الذي كانتا تذهبان فيه إلى الكنيسة في حي ((بمبلموس)) لأداء الصلاة ، و قلما كانتا تذهبان إلى ((بور لويس)) عاصمة الجزيرة إلا في الدرجة القصوى من الضرورة حياء من نفسيهما و فرارا من أعين الساخرين و الهازئين فان فعلتا نالهما من الألم و الامتعاض ما ينغص عليهما يومهما ، و يستثير كامن حزنهما و ألمهما و لا يزال هذا القلق يساورهما حتى تعودا إلى مزرعتهما فإذا أشرفتا عليها و رأتا على بعد ، منظر خادميهما المخلصين و هما يهبطان إليهما من قمة الجبل ليساعدانهما على صعوده و تسلقه ، و شعرتا بنسيم الحرية العليل يهب عليهما و يمازج أنفاسهما ، نسيتا في هذا المعتزل المنفرد كل ما لحقهما و آلم نفسيهما من خشونة الناس و قسوتهم و فضولهم ، و كبريائهم ، و كأنما قد نبتتا في هذه البقعة بين نخيلها و أشجارها ، و لم ترى طول حياتهما بقعة سواها.

و لقد عشت في كل جو و بيئة و خالطت جميع الطبقات و الأجناس و عاشرت الناس أخيارا و أشرارا ، و أعلياء ، و أدنياء ، و حضرت مواقف الحب بين المتحابين و الصداقة بين المتصادقين ، فلم أر في حياتي منظرا أجمل و لا أبهج ، و لا أحلى في العين ، و لا أوقع في النفس ، من منظر الحب و الصداقة بين هاتين السيدتين الكريمتين ، حتى كان يخيل إلي أحيانا أن نفسيهما قد استحالتا إلى نفس واحدة يحملها جسدان ، و كنت إذا حدثت إحداهما شعرت كأني احدث الأخرى معها ، و إذا حدثتهما معا كنت كأني احدث نفسا واحدة ذات صورة و لون واحد فلقد وجدت بينهما الهموم و الآلام ، و مازجت بين نفسيهما الوحدة و العزلة و الفكرة و الرأي ، و الحاجة و المصلحة ، و الذكرى المؤلمة ، و البؤس المشترك ، فنطقت كل منهما بما نطقت به الأخرى ، و شعرت بما شعرت به ، و فكرت فيما فكرت فيه ، و كان الله تعالى إذ زوى عنهما الأرض الفسيحة ذات الطول و العرض ، و حرمهما فيها نعمة العيش الهني ، أبدلهما منها بتلك الروضة الغناء من الحب و الإخلاص ، لتعيش فيها ناعمتين هانئتين ، لا تمر بسمائها غيمة ، و لا ترجف بأرضها رجفة.

فإذا اضطرمت بين جوانبها في بعض الأحايين نار أقوى من نار الصداقة و اشد منها لهيبا و استعارا لا تلبث أن تهب عليها عاصفة من دينهما و تقواهما فتلوي بهما عن سبيلها و تطير بهما إلى العالم الثاني كما تتطاير الشعلة الملتهبة في جو السماء إذا فقدت مادتها التي تتغذى بها على وجه الأرض.

و كان أعظم ما يؤنسهما و يروح عنهما و يمازج بين شعورهما و إحساسهما رؤية طفليهما الصغيرين بين أيديهما يمرحان و يلعبان و يعدوان و يطفران ، و ينامان في مهد واحد ، و يستحمان في إناء واحد ، و يطير كل منهما شوقا إلى صاحبه إذا فقد مكانه و غاب عن وجهه ، كأنهما أخوان شقيقان ، بل توأمان متشابهان.

و كثيرا ما كانت ترضع إحداهما ولد الأخرى فتمنحه من عطفها و حنانها ما تمنح ولدها ، حتى قالت هيلين مرة لمارغريت :
((سيكون لكل منا ولدان و لكل من ولدينا أمان)).

و كان اجتماع ذينك الطفلين اليتيمين على ثدي واحد بعدما فجعهما الزمان بأسرتيهما ، و حرمهما حنان أبويهما و عطفهما ، سببا في نموهما و ترعرعهما ، و سرورهما و غبطتهما ، كالصنوين الباقيين من شجرتين قد عصفت الريح بهما و بأغصانهما إذا لقح احدهما بالآخر أوراقا و أثمارا بأبهى و أجمل مما لو بقي كل منهما في مكانه.

و كان يلذ لاميهما كثيرا الحديث عنهما ، و عن مستقبل حياتهما ، و عن اتصالهما بعقدة الزواج متى بلغا أشدهما ، كأنما قد بقيت في زوايا قلبيهما بقية من ذلك الألم الماضي : الم حرمانهما الهناء الزوجي الذي كانتا تتعللان به في مؤتلف حياتهما فهما تتعللان عنه برؤية ولديهما متمتعين به.

إلا أن حديثهما هذا كان ينتهي أحيانا ببكائهما و نشيجهما حينما تذكران أنهما قد أساءتا إلى نفسيهما بطموح إحداهما إلى منزلة في الحياة فوق منزلتها ، و نزول الأخرى فيها إلى مقام دون مقامها ، فعاقبتهما الطبيعة على تمردهما و شذوذهما بهذا العقاب المؤلم الشديد الذي تقاسيانه و تذوقان مرارته.

و لكنهما لا لتبثان أن تسمعا صوت طفليهما الصغيرين يبغيان في مهدهما ، و يتناغيان حتى تعودا إلى سكونهما و استقرارهما و تشعران ببرد العزاء يتدفق في صدريهما ، خصوصا عندما تذكران أن الهناء الذي فاتهما في ماضيهما لن يفوت ولديهما في مستقبل أيامهما ، و كانتا تقولان أنهما سيقضيان حياتهما بعيدين عن مفاسد المدنية و شرورها و تقاليدها العمياء ، و أوهامها الباطلة ، فلا ينالهما من أذاها شيء.