عبادة التفكّر - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام

القسم الاسلامي العام للمواضيع الإسلامية العامة كالآداب و الأخلاق الاسلامية ...

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

عبادة التفكّر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-05-17, 16:26   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
NIGHTINGALE
عضو مجتهـد
 
إحصائية العضو










افتراضي عبادة التفكّر



التفكّر في آيات الله تعالى ومخلوقاته في ضوء القرآن والسنة


للدكتور : عبد الله بن إبراهيم اللحيدان



المقدمة

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :

فإن الله - تبارك وتعالى - أنعم على الإنسان بنعمة العقل ، وجعله مناط التكليف ،

وعندما يعطل الإنسان عقله يهبط بنفسه عن التكريم الذي ميزه الله به عن سائر المخلوقات ، ولذلك فإن إعمال العقل فيه حياة للإنسان .

وإن من أعظم ما ابتلي به الناس اليوم شتات القلوب ، وكثرة الصوارف عن التفكر ،

ولعل هذا البحث يفتح آفاقا لهذه العبادة ، ويقرب مفهومها وأهميتها ومجالاتها وثمارها ،

ويبين اهتمام علماء المسلمين وعامتهم بها ، ويستجلي أثرها في صلاح الفرد والمجتمع ،

فالتفكر من العبادات القلبية التي أُمر العبد أن ينميها من خلال النظر في ملكوت السماوات والأرض ومن خلال الآيات الكونية ، والأحكام الشرعية ،

والإنسان لا ينفك عما حوله من الحوادث والآيات الكونية التي تدل على عظيم خلق الله ،

ويستدل بها على ما لله من صفات الكمال والعظمة والكبرياء .

وقد حثت آيات عديدة في القرآن العظيم على عبادة التفكر ،

وإن من يمعن النظر في كتب التفسير مثلا عند الآيات التي تتحدث عن الكون أو شروح الأحاديث النبوية يجد مادة علمية غزيرة في هذا المجال ،

بل إن بعض العلماء قد أفرد مصنفات خاصة في وصف المخلوقات والظواهر الكونية ،

قصدوا منها الحث على التفكر في آيات الله ومخلوقاته ،

ومن أوائل من صنف في ذلك ابن أبي الدنيا ، في كتاب التفكر والاعتبار ، وساق فيه جملة من الآثار التي ترغب في التفكر ،

كما أن الأصبهاني عقد فصولا في كتابه : العظمة ، عن المخلوقات وفضل التفكر فيها ، إلا أنه أورد فيه العديد من الآثار الواهية والإسرائيليات ،

كما أن ابن القيم - رحمه الله - ساق في كتابه : مفتاح دار السعادة ، فصولا في التفكر في المخلوقات والحكمة منها ،

وممن صنف حديثا في التفكر مالك البدري في كتابه : التفكر من المشاهدة إلى الشهود ، وتطرق إلى التفكر من الناحية النفسية ،

ولم تشر هذه الكتب والدراسات إلى مفهوم التفكر وأنواعه ومجالاته ، ولذلك فقد سعيت في هذا البحث إلى بيان مفهوم التفكر وأهميته



المبحث الأول : مفهوم التفكر وأهميته :


المطلب الأول : مفهوم التفكر وكيفيته :

التفكر في آيات الله تعالى ومخلوقاته من العبادات الجليلة التي أمر بها الشارع وحث عليها في آيات كثيرة من القرآن الكريم .

ومفهوم التفكر لا يتضح لنا إلا عندما نعود إلى أصل الكلمة ،

كما يتضح لنا أيضا عندما نعلم كثيرا من الشواهد العملية للتفكر في السنة وفي سير الصالحين .


التفكر لغة :
جاء في لسان العرب : التفكر التأمل ، والفِكر : إعمال الخاطر في شيء .

وقال ابن فارس : " الفاء والكاف والراء : تردد القلب في الشيء ، يقال : تفكر إذا ردد قلبه معتبرا " .

فالتفكر : ( جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح ) .

ومن المعنى اللغوي ندرك أن التفكر عمل قلبي مستمر ، ومناطه العقل ، وهو عملية لا تقصد بذاتها وإنما بما يحصله المرء منها ، وهو العمل والطاعة ،

ولذلك فسر مجاهد - رحمه الله - قوله تعالى :

(( وأنزَلنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ))


قال : يطيعون ، فالتفكر مآله الطاعة والتسليم والانقياد لله رب العالمين ، وإلا فلا فائدة منه .

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - :

( التفكر هو أن يعمل الإنسان فكره في الأمر حتى يصل فيه إلى نتيجة ، وقد أمر الله تعالى به وحض عليه في كتابه لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين ) .

والتفكر يحتاج إلى شيء من الصبر والتكلف ، وتصرف القلب في طلب المعنى ،

ومبدأ ذلك معنى يخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن منه .

قال في التحرير والتنوير عند تفسير قوله تعالى :

(( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))

أجرى التفكر على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكر المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعله من مقومات قوميتهم أي : جبلتهم ، وجيء بالتفكر بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر ) .

وقد جاءت آيات عديدة في القرآن تدعو إلى التفكر والنظر والتأمل والسير في الأرض قال تعالى :

(( قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )))

وقال تعالى :

(( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .))

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :

( والتذكر والنظر والتأمل والاعتبار والتدبر والاستبصار كلها معان متقاربة ) .

والتفكر والتذكر فيهما معنى التكرير ويفرق بينهما الإمام ابن القيم - رحمه الله - بقوله :

( كل من التفكر والتذكر له فائدة غير فائدة الآخر ، فالتذكر يفيد تكرر القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة ، والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب ) .

والتفكر من العبادات التي تتطلب صفاء النفس والقدرة على طرد الأفكار والهواجس التي تعيق التفكر

. وقد سئل بعض العلماء ما الذي يفتح الفكر ؟ قال : اجتماع الهم ؛ لأن العبد إذا اجتمع همه فكر ، فإذا فكر نظر ، فإذا نظر أبصر ، فإذا أبصر عمل .

واجتماع الهم يتطلب من المرء أن يخلو بنفسه ، ليكون ذلك أدعى إلى التفكر .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :

( لا بد من أوقات ينفرد بها المرء بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه ، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره ، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه ، إما في بيته كما قال طاوس : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه ، وإما في غير بيته ) .

وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي :

( التمس وجود الفكر في مواطن الخلوات )

وقد جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :

((ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه )).


قال ابن علان - رحمه الله - :

قوله : ذكر الله ، أي : بقلبه من التذكر ، أو بلسانه من الذكر ، وقوله : خاليا أي : عن الخلق ؛ لأنه حينئذ يكون أبعد من الرياء ، أو المراد خاليا عن الالتفات إلى غير الله ، ولو كان في ملأ .

وقال ابن عثيمين - رحمه الله - :

(قوله خاليا ، يعني خالي القلب مما سوى الله - عز وجل - خالي الجسم أيضا ، ليس عنده أحد حتى لا يكون بكاؤه رياء وسمعة ، فهو مخلص حاضر القلب ؛ لأنه لا يمكن أن يبكي الإنسان وقلبه مشغول بشيء آخر ) .

ولا يعني ذلك أن يغلق المرء على نفسه أو يتكلف وضعا معينا ، أو هيئة معينة ، كما يفعله بعضهم عند التأمل أو التفكير ،

إذ أن حقيقة التفكر : ترديد العلم بالقلب .

وليس المقصود بالتفكر الصمت عن الكلام ؛ لأن الصمت المجرد من عمل الجاهلية ، وليس من هدي الإسلام ،

وقد جاء النهي عن ذلك ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل .

قال المناوي - رحمه الله - :

( أي لا عبرة ولا فضيلة له ، وليس مشروعا عندنا ، كما شرع للأمم قبلنا ، فنهى عنه لما فيه من التشبه بالنصرانية ) .

ولما رأى أبو بكر - رضي الله عنه - امرأة لا تتكلم ، فقال : ما لها لا تتكلم ؟ قالوا : حجت مصمتة ، فقال لها : ( تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية ) .

قال ابن تيمية - رحمه الله - :

( أخبر أبو بكر - رضي الله عنه - أن الصمت المطلق لا يحل ، وعقب على ذلك بقوله : هذا من عمل الجاهلية قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه ) .

وقال الخطابي - رحمه الله - :

( كان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات ، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق ، فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير ) .

وصمت المسلم إنما يكون للتفكر ، وكان من دعاء طلحة بن مصرف رحمه الله :

(اللهم اجعل صمتي تفكرا ، واجعل نظري عبرا ، واجعل منطقي ذكرا) .

وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله - : ( المؤمن قليل الكلام كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام قليل العمل ، كلام المؤمن حكم ، وصمته تفكر ، ونظره عبرة ، وعمله بر ) .

كما أن التفكر لا يستلزم سكون البدن وعدم تحرك شيء منه ،

جاء في صحيح البخاري كتاب الأدب ، باب من نكت العود في الماء والطين ،

عن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حيطان المدينة ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - عود يضرب به بين الماء والطين الحديث .

وعن علي - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجعل ينكت الأرض بعود فقال :

(( ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار ))

، فقالوا : أفلا نتكل ؟ قال :

((اعملوا فكل ميسر ، ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى الآية .))

قال ابن حجر - رحمه الله - عند شرح الحديث الأول :

( وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم ، لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء ، ثم لا يستعمله فيما لا يغير تأثيره فيه بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناءالذي فيها فذاك من العبث المذموم ) .

وإذا كان التفكر يكون بتقليب النظر ، أو ترديد القلب ، اعتبارا وتفكرا ، فإنه يكون مع ترديد الآيات القرآنية والأذكار الشرعية

. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام ليلة يردد قوله تعالى :

(( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ))

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :

( وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح ) .

وعقد الإمام النووي - رحمه الله - فصلا في كتاب التبيان في استحباب ترديد الآية للتدبر ، وقال :

( وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يرددونها إلى الصباح ) .

أما ترديد الأذكار الشرعية فقد ضلت فيه طوائف عندما ابتدعوا ألفاظا يرددونها مرات ومرات ، يتعبدون بها أو يظنون بها صلاحا لأنفسهم .

والتكرير الوارد في السنة إنما هو لأذكار مخصوصة ، وليس لأحد أن يبتدع أذكارا أو ألفاظا لم يأذن بها الشارع ،

ولو فعل ذلك لم ينتفع بها في الدنيا ولا في الآخرة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - :

(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))


قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :

( ولو كرر الإنسان اسم الله ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته ) .

وقال أيضا : ( الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مثل لا إله إلا الله ، ومثل الله أكبر ، ومثل سبحان الله . . . فأما الاسم المفرد مظهرا مثل الله ، الله ، أو مضمرا مثل : هو هو ، فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة ، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأئمة ، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم ، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين ) .

وهدي الإسلام في الذكر أكمل هدي وأحسنه ، فقد شرع للمسلم أن يذكر الله من حين أن يصبح ، إلى أن يمسي ، بأذكار مخصوصة في أوقات مخصوصة ،

كما شرع له أذكارا مطلقة يعمل بها متى وجد في نفسه نشاطا وهمة ، وهذه الأذكار سبب في انشراح الصدر وطمأنينة القلب وسعادة المرء في الدنيا والآخرة .

ولذلك فإن تقريب هدي الإسلام وطريقته في التفكر مطلب أساسي ، لا سيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه بعض الطرق في التأمل ، بحثا عن الصحة والسعادة ،

حيث يسعى كثير من الناس اليوم إلى محاربة القلق والاضطراب ،

وقد لجأ كثيرون في بلاد الغرب والشرق إلى العلاج عن طريق الأدوية أو التأمل أو الرياضة وغيرها ، ليصلحوا أنفسهم ويتخلصوا من الملل والإرهاق - ولو لفترة وجيزة - ويكبحوا جماح شهواتهم ورغباتهم .

وظهر لذلك مدارس ومؤسسات تفرض على الأفراد طرقا معينة في سبيل تحقيق الراحة لجسمه وذهنه .

فهناك على سبيل المثال ما يسمى التأمل المتسامي ، وهو من الأساليب التي ابتدعها الإنسان لراحة الجسم ، وقد طورها أحد الهنود في خلال الخمسينات من القرن العشرين ، ويهدف من خلاله إلى الوصول إلى حالة الوعي الصافي ، بحثا عن السعادة - بزعمهم - حيث يقوم من يمارس ذلك بالجلوس هادئا في وضع مريح ، ويغلق عينيه مرددا كلمات مقتبسة من الكتب الهندوسية .

ولقد أنعم الله علينا - نحن المسلمين - بنعم لا تعد ولا تحصى ، وأرشدنا في كتابه إلى ما فيه صلاح قلوبنا وأبداننا

( وإن المؤمن المتفكر يجد كل الفوائد الصحية والجسمية والنفسية التي يلقاها الممارس للتأمل ، بل ويزيد عليها بسبب صحة عقيدته وبساطتها ونفاذ بصيرته ، ووضوح رؤيته الدينية وتدريبه المستمر على التأمل والتفكر في صلاته وتسبيحه منذ نعومة أظفاره ) .

وما يميز المسلم هو استقلاله بتأمله وتفكره ، فليس لأحد أن يقوم بالوصاية على المسلم في تفكره ،

فهو يملك ذلك متى أراد ويربى على ذلك من صغره ،

فقد أودع الله فيه آلات التفكر التي يستطيع من خلالها أن يطلق بصره وسمعه وقلبه في آيات الله ومخلوقاته ،

بخلاف أهل النحل والمذاهب الوضعية ، حيث لا يملك معتنقوها حرية التأمل والتفكر ، فالتأمل في البوذية مثلا يهدف إلى معرفة الحقائق ، ويؤكد البوذيون ضرورة اتخاذ مرشد في هذا الطريق ، ويقسمون التأمل إلى درجات معقدة لا يحصل المرء منها إلا اضطرابا وسوء فهم للحياة وما خلق لأجله .



المطلب الثاني : أهمية التفكر وحكمه :


التفكر من العبادات القلبية الجليلة ( وهو من أفضل أعمال القلب وأنفعها له ) .

كما أن التفكر أصل الطاعات ومبدؤها ، قال ابن القيم - رحمه الله - :

( فأصل كل طاعة إنما هي الفكر ، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة ، فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة ، فيبذر فيها حب الأفكار الردية ، فيتولد منها الإرادات والعزم فيتولد منها العمل ، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له وفيما أمر به وفيما هيء له وأعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعا )

والتفكر أيضا يكشف الفرق بين الوهم والخيال ، المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها ،

وبين السبب المانع حقيقة ، فيشتغل به دون الأول ، فما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطع أعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها ،

بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه ، وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة ، وعزم صادق ، يميز به بين الوهم والحقيقة .

ولذلك فالتفكر سبيل المرء إلى العمل ، وإدراك حقائق الأشياء ، بل إن حياة المرء وسعادته تبع لأفكاره ، قال السعدي - رحمه الله - :

( واعلم أن حياتك تبع لأفكارك ، فإن كانت أفكارا فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا ، فحياتك طيبة سعيدة وإلا فالأمر بالعكس )

ولذلك فإن إعمال الفكر فيما ينفع ويقرب إلى الله من أهم المطالب الدينية .

ولقد حثت آيات عديدة في القرآن العظيم على التفكر ، ومدح الله - عز وجل - المتصفين بهذه الصفة في كتابه ، في مواضع عديدة ختمت بقوله تبارك وتعالى :

(( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ).

وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من آخر الليل فخرج فنظر إلى السماء ، ثم تلا هذه الآية من سورة آل عمران :

(( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))

ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ ثم قام فصلى ثم اضطجع ثم تلا هذه الآية ثم رجع فتسوك فتوضأ ثم قام فصلى .

قال النووي - رحمه الله - :

( فيه أنه يستحب قراءتها عند الاستيقاظ في الليل مع النظر إلى السماء لما في ذلك من عظيم التدبر ، وإذا تكرر نومه واستيقاظه وخروجه استحب تكريره قراءة هذه الآيات ، كما ذكر في الحديث والله أعلم )

وقيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن ؟

قال : ( يقرؤهن وهو يعقلهن ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :

( النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه ) .

فالتفكر في مخلوقات الله أمر مندوب إليه ، قال السعدي - رحمه الله - :

( التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين )

ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر ، وليس كل من تفكر أدرك المعنى المقصود .

والتفكر في آلاء الله والسير المأمور به في القرآن الكريم هو :

( سير القلوب والأبدان الذي يتولد عنه الاعتبار ، وأما مجرد نظر العين وسماع الأذن ، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار فغير مفيد ، ولا موصل إلى المطلوب ) .

وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته ، وما له من صفات الكمال والجلال ، فقال تعالى :

(( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))

ومدح - عز وجل - عباده الذين يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ، قائلين :

((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النار))

والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أعظم عباد الله تفكرا في آيات الله ومخلوقاته ، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكملهم في ذلك

حيث كان يتفكر في آيات الله ومخلوقاته ، ويدعو إلى ذلك ، قال - صلى الله عليه وسلم - :

(( تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله ))

وكان الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من التابعين يمتثلون هذا ، وينظرون في ملكوت الله نظر تفكر واعتبار ،

وقد وردت الآثار الكثيرة عن السلف في فضل التفكر ،

فقد سئلت أم الدرداء - رضي الله عنها - عن أفضل عبادة أبي الدرداء - رضي الله عنه - قالت ( التفكر والاعتبار ) .

وقال الحسن - رحمه الله - : ( تفكر ساعة خير من قيام ليلة )

وقال أيضا ( أفضل العمل الورع والتفكر )

وقال عامر بن قيس - رحمه الله - : سمعت غير واحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون :

((إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر))

، وقال سفيان بن عيينة - رحمه الله - : إن الفكرة نور يدخل قلبك ،


وقال أبو سليمان الداراني - رحمه الله - :

( إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة )

، وقال الحسن - رحمه الله - :

( التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك ) .

وقال وهب بن منبه - رحمه الله - :

( ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم ، ولا فهم امرؤ قط إلا علم ، ولا علم امرؤ قط إلا عمل )

، وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - :

( الكلام بذكر الله - عز وجل - حسن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة ) .

وكان للسلف أحوال في التفكر ، فمن ذلك ما جاء عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه قال لرجل من جلسائه :

( لقد أرقت الليلة تفكرا ، قال : فيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : في القبر وساكنه ) .

وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير - رحمه الله - :

( إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن ، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة ، فإذا أعمالهم شديدة ، كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا فلا أراني فيهم ، فأعرض نفسي على هذه الآية مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ .فأرى القوم مكذبين ، وأمر بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم ) .


وقال يوسف بن أسباط - رحمه الله - : قال لي سفيان الثوري - رحمه الله - :

( ناولني المطهرة لأتوضأ ، فناولته إياها ، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده ، ونمت ، فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها فقلت : يا أبا عبد الله قد طلع الفجر ، قال : لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة )

وكان شريح القاضي - رحمه الله - يقول لأصحابه :

( اخرجوا بنا إلى السوق فننظر إلى الإبل كيف خلقت ) .

والتفكر إن لم يثمر عملا لم يحصل منه المرء شيئا ، كما أن التفكر لا يعني الصمت والعزلة عن الناس ، فكم صامت لا يفكر ، بل تتقلب به الوساوس والخيالات .

وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله :

( ركعتان مقتصدتان في تفكر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه )

وعلى هذايحمل قول الحسن - رحمه الله - المتقدم ، فإن ساعة تفكر خير من قيام ليلة بلا تفكر ، أما إذا كان قيام الليل مع التفكر فإنه أفضل بلا شك .
قال الإمام ابن رجب - رحمه الله - :

( ونقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - في رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام ، ورجل أقل الأكل فقلت نوافله ، وكان أكثر فكرة أيهما أفضل ؟ فذكر ما جاء في الفكر : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، قال : فرأيت هذا عنده أكثر يعني الفكر ، وهذا يدل على تفضيل قراءة التفكر على السرعة وهو اختيار الشيخ تقي الدين ، وهو المنصوص صريحا عن الصحابة والتابعين ) .

قال أحمد بن أبي الحواري - رحمه الله - :

( قلت لأبي صفوان أيما أحب إليك ، أن يجوع الرجل فيجلس فيتفكر ، أو يأكل فيقوم فيصلي ؟ قال : يأكل يقوم فيصلي ، ويتفكر في صلاته هو أحب إلي ، فحدثت به أبا سليمان - يعني : الداراني - فقال : صدق ، الفكرة في الصلاة أفضل من الفكرة في غير الصلاة ، الفكرة في الصلاة عملان ، وعملان أفضل من عمل ) .

قال ابن العربي - رحمه الله - :

( وأما طريقة من يبقى يوما وليلة أو شهرا متفكرا لا يفتر فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالشرع ) .

إن دين الله لا يؤخذ بالرأي أو الهوى ، وما ضل من ضل من الطوائف والفرق إلا عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة ،

وابتدعوا من عند أنفسهم عبادات لم يأذن بها الله ورسوله .

ولذلك فإن التفكر الذي ينتفع به صاحبه هو الذي يبعث على التأسي بالكتاب والسنة ، قال بكر بن خنيس :

( قلت لسعيد بن المسيب - رحمه الله - وقد رأيت قوما يصلون ويتعبدون : يا أبا محمد ألا تتعبد مع هؤلاء القوم ؟ فقال لي : يا ابن أخي إنها ليست بعبادة .
قلت له : فما التعبد يا أبا محمد ؟ قال : التفكر في أمر الله ، والورع عن محارم الله ، وأداء فرائض الله تعالى ) .

وقول هذا التابعي الجليل ليس تقليلا من شأن الصلاة ، فهو الذي يقول عن نفسه : ما فاتتني الصلاة في جماعة أربعين سنة ، ويقول : ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد ، وحج أربعين حجة .

ولكنه يعني التوازن في حياة المسلم ، بين التفكر وأداء الفرائض ومعاملة الخلق .

وجاء في رواية أخرى عن صالح بن محمد بن زائدة أنه رأى فتية يروحون بالهاجرة إلى المسجد ، ولا يزالون يصلون حتى يصلى العصر ، فقال لسعيد : هذه هي العبادة لو نقوى على ما يقوى عليه هؤلاء الفتيان . فقال سعيد ما هذه العبادة ، ولكن العبادة : التفقه في الدين والتفكر في أمر الله تعالى .

ولذلك فإن العبادة الحقة هي التي تجمع بين العلم والعمل ، بين الفقه والتفكر ، وبين حسن العمل وحسن القصد .



المبحث الثاني : أنواع التفكر ومجالاته :



المطلب الأول : أنواع التفكر :

التفكر في مخلوقات الله وآياته يتفاوت فيه الناس ، ويختلفون باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان ،

ويمكن أن نتبين نوعين ظاهرين للتفكر والنظر في آيات الله ومخلوقاته .

الأول : نظر إليها بالبصر الظاهر فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها ،

ويرى سعة الأرض وامتدادها ، وجبالها ووهادها ، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هذا المقصود بالأمر .

الثاني : أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة ، ويتفاوت الناس في هذا تفاوتا عظيما ،

فمنهم من يأخذ بحظ يسير منه ، ومنهم من يتجاوز ذلك حتى ينظر ببصيرته الباطنة سعة وعظمة ملكوت الله وهيمنته على خلقه ؛

فيستدل بها على ما لله من صفات الكمال والجلال والعظمة والكبرياء .


وقد جاءت آيات عديدة في القرآن الكريم تدعو إلى السير في الأرض ، والاعتبار بأحوال الأمم الماضية ، قال تعالى :

(( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين))

وقال تعالى :

((. قل سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ))

وقال تعالى :

(( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ .))


فالأمر بالسير في الأرض ينقسم إلى قسمين :

سير بالأقدام ، وسير بالقلب .

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - :

( أما السير بالقدم فأن يسير الإنسان في الأرض على أقدامه أو على راحلة من بعير أو سيارة أو طيارة أو غيرها حتى ينظر ماذا حصل للكافرين ، وماذا كانت حال الكافرين ، وأما السير بالقلب فهذا يكون بالتأمل وبالتفكر فيما نقل من أخبارهم ) .

ومن هنا تبين نوعان من أنواع التفكر :

الأول : التفكر مع النظر وهو لا ينفع إلا أهل الإيمان والقلوب السليمة الذين يعلمون الغاية من الخلق ،

وهو عبادة الله تعالى كما في قوله تعالى

(( وما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ .))

الثاني : التفكر بالقلب دون النظر وهو التأمل ، وترديد القلب اعتبارا بآيات الله ومخلوقاته

، وهو من أعظم أسباب زيادة الإيمان إذا صح مقصود فاعله

. وأكمل الأحوال أن يجمع المرء بين هذين النوعين ، ولا يقتصر على نوع دون الآخر .











 


رد مع اقتباس
قديم 2015-05-17, 22:09   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
kouk23a
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية kouk23a
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك










رد مع اقتباس
قديم 2015-05-18, 03:31   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
Yaya38
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

جزاك الله خيرا أخي










رد مع اقتباس
قديم 2015-05-18, 18:44   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
NIGHTINGALE
عضو مجتهـد
 
إحصائية العضو










افتراضي

وفيكم بارك
أعاننا الله وإياكم على طاعته وحسن عبادته










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
التفكّر, عبادة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 00:10

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc