الزاب المصطلح والدلالات الجزء الأوّل بقلم : فوزي مصمودي
إطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 1234 مرة ]
هذا الجزء الأوّل من دراسة تاريخيّة في مصطلح الزاب ومفهومه
الزّاب المصطلح والدّلالات
كان لإقليم الزاب بشرق المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) عبر العصور دور هام في صناعة تاريخ بلاد المغرب العربي، وكانت ربوعه مسرحا للكثير من الأحداث السيّاسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، كما شهدت مدنه وقراه وقائع حاسمة ومعارك فاصلة ومحطات بارزة في سيّاق هذا التاريخ، ويكفيه أنّ بعض أقطاره كانت منطلقا للكثير من الدّول التي تعاقبت على حكم بلاد المغرب، على غرار الدّولة الأغلبيّة التي انطلق مؤسسها الأوّل إبراهيم بن الأغلب من الزاب، وبني مرين الذين كانت بلاد الزاب مرتعهم الأوّل، وبني زيّان كذلك، كما أضحت في العصر الحديث الخلافة (الولاية) الثامنة في دولة الأمير عبد القادر.
إلا أنّ الباحث الحصيف وبعد رصد دقيق وتتبع مرحلي ومتأن لـ (الزاب) يدرك ملامح التغيير المستمرّ لحدود هذا الإقليم؛ توسّعه تارة وتقلصه تارة أخرى، مما حدا بأستاذنا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى التأكيد بأنّ هذا " الإقليم يضيّقه الاستعمال العرفي ويوسّعه" إلى جانب تغيير عواصمه ومدنه حسب المستجدّات الإقليميّة والرّهانات الدوليّة، هذه المدن ساد الكثير منها ثمّ باد، على غرار: زابي، طبنة، ملشون، حياس... وأخرى بقيت صامدة تؤدّي دورها الطلائعي إلى اليوم كقسنطينة، المسيلة، بسكرة، ميلة... دون إغفال تداول هذا المصطلح في بلاد المشرق العربي والمغرب الأقصى والأندلس، وتفرّع دلالاته وعلاماته...
وسنتناول في هذه الدراسة بشيء من التفصيل مدلولات هذه الكلمة والمراحل التاريخيّة التي شهدها إقليم (الزاب) منذ الفترة الرومانيّة والونداليّة والبيزنطيّة، مرورا بالفتوحات الإسلاميّة والدّول التي تعاقبت على حكم هذا الإقليم أو مناجزته، كالدّولة: الأغلبيّة، الفاطميّة، الزيريّة، الحمّاديّة، الموّحديّة، الحفصيّة، المرينيّة ، واحتفاظها باستقلالـها في كثير من المحطات... وانتهاء بعصرنا الرّاهن، إلى جانب التطرّق إلى (الزاب) في الشعر العربي، متخذين من ابن هانئ الأندلسي أنموذجا.
الزاب لغة
يقول ابن منظور في لسان العرب " زأب القربة ، يزأبها زأبا، وازدأبها : حملـها، ثم اقبل بها سريعا... وزأب الرجل وازدأب اذا حمل ما يطيق وأسرع في المشي، قال:
وازدأب القربة، ثم شـمر
وزأبت القربة، وزعبتها، وهو حملكها محتضنا. والزأب: أن تزأب شيئا فتحملـه بمرة واحدة، وزأب الرجل إذا شرب شربا شديدا. قال الأصمعي : زأبت وقأبت أي شربت... " أما صاحب معجم البلدان فيقول: الزاب بعد الألف باء موحّدة، إنْ جعلناه عربيّا أو حكمنا عليه بحكمه... ويستدلّ بابن الأعرابيّ في قولـه: زاب الشيءُ إذا جرى، وقال سلمة زاب يزوب إذا انسلّ هربا " وفي المنجد في اللغة والأعلام : " زأب زأبا: شرب شربا شديدا... وزبّ القربة أي ملأها" ، وهنا نلحظ ارتباط هذا المصطلح بالمياه وجريانها وبعملية الشرب، ولـهذا وجدنا أربعة أنهار أو روافد جارية بالعراق يعرف كلّ منها بـ (الزاب).
وينقل العلامة عبد الرحمن الجيلالي من أقوال السلفي أنّه سمع " الأصمّ المنورقي يقول: الزاب كورة صغيرة يقال لـها ريغ، وهي كلمة بربريّة معناها السّبخة" فمن كان منها يقال لـه الرّيغيّ، والسبخة لغة هي الأرض ذات النز والملح، ولـهذا سُميت بلاد ريغ بجنوب زيبان بسكرة بهذا الاسم، نسبة إلى شط ملغيغ.
وتثنيتها " زابان وزابيان " قال الأخطل وهو بزاذان (موضع قرب الرّقة بسوريا حاليا):
أتاني، ودوني الزابيان كلاهما
أتاني بأن ابنـي نزار تناجيــا
ودجلة، أنباء أمرّ من الصبر وتغلب أولى بالوفـاء وبالعـذر
وإذا جمعت قيل لـها زوابي وزيبان.
زاب المشرق
الزاب مصطلح يطلق على واديين من أودية بلاد الرافدين (بالعراق)، ويقال أنّ الفضل في شقهما يعود إلى أحد ملوك الفرس، وهو زاب بن توركان بن منوشهر بن إيرج بن أفريدون وهما وادي (الزاب الأعلى) أو الزاب الكبير بين الموصل وأربيل، ومنبعه بلاد مشتكهر وهو حدّ ما بين أذربيجان وبابغيش، وهو ما بين قطينا والموصل من عين في رأس جبل ينحدر إلى واد، ويردف الحموي أنّ هذا الوادي شديد الحمرة ويجري في جبال وأوديّة (روافد) وكلما جرى صفى قليلا حتى يصير في ضيعة كانت ليزيد بن عمران أخي خالد بن عمران الموصلي، وبينهما وبين مدينة الموصل مرحلتان وتعرف بباشزّا. . ثمّ يمتدّ وادي الزاب الأعلى (الزاب الكبير) حتى يصبّ في نهر دجلة على فرسخ من الحديثة (مدينة عراقيّة عامرة اليوم)، ويسمّى كذلك بالزاب المخبرن لشدّة جريانه، ويقدّر طولـه بحوالي " 392 كلم" .
وأمّا الزاب الأسفل أو الزاب الصغير فهو وادي ينبع من جبال السلق، سلق أحمد بن روح بن معاوية من بني أود ما بين شهرزور وأذربيجان، ثمّ يمرّ ما بين دوقا وأربيل، وبينه وبين الزاب الأعلى مسيرة يومين أو ثلاثة، ثمّ يمتدّ حتى يفيض ويصبّ هو الآخر في نهر دجلة عند السّن، وبهذا الوادي كان مقتل عبيد الله بن زياد بن أبيه، فقال يزيد بن مفرغ يهجوه بعد مصرعه:
أقول لما أتانـــي ثمّ مـصرعـه
لابن الخبيثة وابن الكودن النّابـي
ما شُق جيب ولا ناحتك نائــحة
و لا بكتـك جيــاد عنـد أســلاب
إنّ الذي عاش ختـارا بذمتـــه
ومات عـبدا قــتيل الله بالـــزاب
ويقدّر طول الزاب الأسفل أو الصغير بحوالي "400 كلم"، ينبع في إيران ويروي زرادشت والتون كوبري ويلتقي دجلة شـمالي تكريت، عليه الآن سدّ دخان " .
وهناك من يعيد مصطلح (الزاب) بالمشرق إلى النصوص المسماريّة العراقيّة القديمة، حيث ورد بصيغة أكديّة على هيئة زاب عليو zalu elu وزاب شيل zalu splu أمّا الاسم زاب فلا يعرف معناه حيث أنّه يعود إلى التراث اللغوي القديم الذي ظهر قبل الكتابة وقد يضاهي الكلمة العربيّة (الصاب) أي النّهر الذي يصبّ أو الرّافد العظيم .
وبالعراق كذلك بين مدينتي بغداد وواسط رافدان آخران، يسمّيان بـ (الزاب الأعلى والزاب الأسفل) ولـهذا أورد ابن منظور في لسان العرب"الزابيان: نهران بناحية الفرات، وقيل: في سافلة الفرات، ويسمّى ما حو لـهما من الأنهار الزوابي، وربما حذفوا الياء فقالوا الزابان"
كما ارتبطت هزيمة الأمويين وأفول نجمهم وانتصار العباسيين، وبروز نجمهم بمعركة (الزاب) بالعراق على نهر الزاب الأعلى بين الموصل وأربيل عام 132هـ، 750م، بين مروان بن محمّد آخر خلفاء دولة بني أميّة، وبين جيش العباسيين، والتي انتهت بانكسار شوكة مروان وقتلـه بمصر، والقضاء المبرم على دولة بني أميّة بالمشرق.
كما أنّ هناك نهرا صغيرا بالمغرب الأقصى يطلق عليه كذلك نهر (الزاب) في منطقة شاسعة " على البرّ الأعظم عليه بلاد واسعة وقرى متواطئة بين تلمسان وسجلماسة (بين الجزائر والمغرب الأقصى حاليّا) والنهر متسلّط عليها وقد خرج منها جماعة من أهل الفضل" .
بلاد الزاب الجزائريّة خلال الاحتلال الثلاثي
كان هذا الزاب المترامي الأطراف خلال الاحتلال الروماني لبلاد المغرب (149ق م _ 439 م) يعرف بنوميديا التي كانت عاصمتها سيرتا (قرطة أو قسنطينة) ومن أعظم قوّادها ماسينيسا، وهي تمتدّ من بجاية وجيجل وعنّابة على البحر الأبيض المتوسط إلى الصحراء، أي الشرق الجزائريّ حاليا، وحسب ٍرأي المـؤرّخ عثمان الكعاك فإنّ نوميـديا أصبحت تعرف بعد الفتـح الإسلامي ببــلاد الـزاب و" ألحقت بإفريقية (تونس) فكانت من مشـمولاتها" .
وينحو نحوه الحسن الوزان الشهير بـ : ليون الإفريقي (1488هـ م – بعد 1550 م) الذي اعتبر الزاب ضمن مفازات نوميديا وبيّن حدوده من تخوم المسيلة غربا وجبال مملكة بجاية شـمالا، ويمتد شرقا إلى بلاد الجريد التي توافق مملكة تونس، وجنوبا إلى القفار التي تقطعها الطريق المؤدية من تقرت إلى وركلة (ورقلة)، إلا أنه يكتفي بذكر خمس مدن زابية فقط ! وهي: بسكرة، البرج، طولقة، دوسن ، ونفطة التي تقع حاليا بالجنوب الغربي من التراب التونسي.
ويؤكد هذه الحقيقة التاريخيّة الأستاذ رابح بونار وهو يتحدّث عن إبراهيم بن الأغلب مؤسّس الدّولة الأغلبيّة (184 هـ - 800 م) " وعاش ما بين سنوات 140 هـ 196 هـ ولما استقلّ بملك إفريقـية والجزائـر الشرقيّة (بلاد الزاب) خرج عليه خريش الكندي سنـة 186 هـ "
ويذهب الأستاذ إسماعيل العربي إلى أنّ (الزاب) يأخذ اسمه من مدينة زابي (zabi) الرومانيّة التي كانت تقع في إقليم الحضنة، بالمسيلة حاليا، وقد أقام حو لـها الرومان الكثير من الأبراج ومراكز الحراسة في إطار (خط الليمس) الذي شرعوا في تشييده في بداية القرن الثاني الميلادي.
و(زابي) يدعوها اليوم السكان المحليون بشيلغا (بشيلقا) وقد أكد المؤرّخ الفرنسي جزيل s. gesell أنّ بشيلغا " تنمّ عن مدينة كبيرة كانت تدعى زابي حسب مضمون النقيشة اللاتينيّة المكتشفة بعين المكان، وكذا خريطة انطونيني التي حدّدت موقع زابي فيما بين سطيف وأوزيا على الطريق الرّابط بين هاتين المدينتين، مرورا بجنوبيّ مرتفعات الحضنة " .
وفي مؤتمر عام 484م الذي عقد بقرطاجة، وردت أسماء أساقفة مدينة زابي.
وقد تمكن الوندال بعد احتلا لـهم لبلاد المغرب عام 439 م من اقتحام مدينة (زابي) رغم حصانتها وأعملوا فيها يد التخريب والتدمير على غرار جميع المدن المغاربيّة التي احتلوها، لكن المور المستقلين تمكنوا من استرجاع مدينة ( زابي ) التي ظلت تحت نفوذهم إلى غاية مجيئ البيزنطيين عام 533م، الذين عملوا بدورهم على استرجاعها، وهو ما أدّى إلى نشوب حروب طاحنة بينهم وبين الموريين، حتى سقطت المدينة في أيدي البيزنطيين في عهد قائدهم صولون، مما تسبب في تخريب جزء هام منها، فقام أسيادها الجدد بإعادة بنائها.
وحسب رأي الدكتور محمّد البشير شنيتي فقد عثر بالمسيلة على نقش لاتيني يخلّد هذا النصر ويشيد بعملية تجديد بناء زابي، وبالرّغم من طمس الكثير من معالم هذه المدينة الرومانية باستثناء بقايا الحجـارة، إلا أنّ اسمها ورد في رحلـة الجغـرافي العربي أبـي عبيد عبد الله البكـري (1040 م – 1094 م) المعروفة بـ(المسالك والممالك) وحدّد موقعها بأنّها تقع قريبا من المسيلة كما وصف أطلا لـها.
إقليم الزاب في بداية الفتح الإسلامي
خلال الحملة الثانية للفاتح عقبة بن نافع الفهري ما بين 62 و63 هـ كانت عاصمة بلاد الزاب وأعظم مدنه مدينة (أذنه) أو (أدنه) في بعض المصادر وكما أوردها البكريّ، وقد ذكر صاحب (تاريخ إفريقية والمغرب) أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق المتوفى بعد عام 417 هـ أنّ عقبة بن نافع لما وصل إلى بلاد الزاب " سأل عن أعظم مدائنهم قدرا فقالوا : مدينة يقال لـها أذنة، ومنها الملك (وهي مجمع ملوك) الزاب. وكان حولـها ثلاثمائة قرية (وستون قرية) وكلـها عامرة" .
وقيل أنّ اسمها أربة لكنّها حرّفت إلى أذنة أو أدنة، وقد أرشدنا البكريّ إلى أنّ أدنة تقع على بعد مرحلتين من طبنة، وبعد مرحلة من المسيلة.
بعد تمام عملية الفتح الإسلامي ألحقت بلاد الزاب كاملة بمدنها وقراها بإفريقية (تونس)، مما حدا بمؤرخ الجزائر الشيخ عبد الرحمن الجيلالي إلى التأكيد " أنّ أرض الزاب أو الجنوب الجزائريّ فإنه كان ملحقا في الغالب بولاية تونس " .
وفي هذه الفترة كان الزاب في عمومه ينقسم إلى قسمين " الزاب الأعلى وهو يمتدّ من جنوب قسنطينة إلى ساحل البحر إلى الغرب، وهو تابع إداريّا لولاية إفريقية أي تونس الحالية، والزاب الأسفل ويمتدّ من جنوب قسنطينة إلى سفوح جبال أوراس، وهو معدود في مدن المغرب الأوسط أي الجزائر " .
الزاب في عهد الأغالبة
بعد تأسيس الدّولة الأغلبيّة عام 184 هـ – 800 م التي شـملت تونس وطرابلس وجزءا من شرق الجزائر، كانت بلاد الزاب بطبيعة الحال ضمن حدودها، لاسيما أنّ مؤسس الدّولة إبراهيم بن الأغلب كان قبل ذلك واليا على الزاب وعاصمته حينذاك مدينة طبنة، بمحاذاة بريكة بإقليم ولاية باتنة اليوم ، حيث خلف الفضل بن روح بداية من عام 174 هـ 791م "وقد أجمع الرواة دون استثناء على أنّ الزاب كان منطلقا لـه" .
وقد نقل الدكتور محمد الطالبي عن البلاذريّ الذي توفي عام 892 انه قال " وكان إبراهيم بن الأغلب من وجوه جند مصر، فوثب اثنا عشر رجلا معه فأخذوا من بيت المال مقدار أرزاقهم لم يزدادوا على ذلك شيئا، وهربوا فلحقوا بموضع يقال لـه الزاب"، وهنا نتوقف برهة ونضع أسطرا تحت كلمة (يقال) فلو كان الإقليم شهيرا بهذا الاسم في ذلك الحين، فلما احتاج البلاذري أن يقول "يقال لـه الزاب" ثمّ يضيف " وهو من القيروان على مسيرة أكثر من عشرة أيّام".
ولـهذا يكون أحمد البلاذريّ صاحب (فتوح البلدان) و(أنساب الأشراف) من أوائل المؤرخين العرب الذين ورد مصطلح (الزاب) ضمن كتبهم.
وخلال هذا العهد الأغلبي كانت منطقة الزاب كذلك تشـمل الشرق الجزائريّ كاملا، حيث شـملت بلاد الأوراس والنمامشة، إلى غاية الشواطئ الشرقيّة كعنابة (هيبون) وسكيكـدة (روسيكادا) وبجاية (صلداي) والقلّ (شولو) وتمتدّ إلى الجنوب حيث تشـمل بسكرة وتهودة وبادس...
وقد زار الرّحالة الجغرافي أحمد اليعقوبي (ت بعد عام 905 م) أي قبل سقوط الدّولة الأغلبيّة، زار بلاد الزاب في عهد الأغالبة، فذكر طبنة بأنّها " مدينة الزاب العظمى. وهي التي ينزلـها الولاة وبها أخلاط من قريش والعرب والجند والعجم والأفارقة والروم والبربر. إلى أن يقول: والزاب بلد واسع " .
لكن بعد انتقال عاصمة الزاب من طبنة إلى المسيلة، ذكرها الرحالة العرب على اعتبارها من مدن الزاب فقط، على غرار بن حوقل (ت 981 م) الذي وصفها في قولـه: "طبنة مدينة قديمة ولكنّه يستدرك بأنها " كانت عظيمة " أمّا الإدريسي (ت 1165 م) ورغم تراجع دورها الا انه يقر بأنّ "طبنة مدينة الزاب وهي مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين والزروع والقطن والحنطة والشعير وعليها سور من تراب وأهلـها أخلاط وبها صنائع وتجارات وأموال لأهلـها متصرّفة في ضروب من التجارات والتمر بها كثير وكذلك سائر الفواكه" . فلم تفقد بريقها وإشعاعها رغم انتقال السلطة منها.
ويؤكد الكثير من المؤرخين أنّ بلاد الزاب خلال حكم الأغالبة كانت تنعم بالاستقرار والدّعة والسلام، مما أسهم في نموّ اقتصاديّ، فأضحت هذه الرّبوع منطقة رخاء وفضاء للعبور من الغرب إلى الشرق ومن الشـمال إلى الجنوب، ورقيّ ثقافيّ وعلمي متميّز. كما نبغ فيها الكثير من الأعلام.
وقد ظلت (طبنة) عاصمة للزاب إلى غاية ظهور الفاطميين على مسرح الأحداث ببلاد المغرب في بداية القرن 10 م وبالتحديد بنواحي سطيف، الذين قضوا على الدّولة الأغلبيّة عام 296 هـ 909 م لينهوا أوج مدينة (طبنة) ويختاروا مدينة أخرى لتكون عاصمة لـهذا الإقليم.
بلاد الزاب في العهد الفاطمي
بعد إخضاع بلاد الزاب إلى حكم الفاطميين، وعودة أبي القاسم محمّد بن عبيد الله الفاطمي (القائم بأمر اللـه) من المغرب الأقصى عقب ضمه لـه، ارتأى أن يؤسس عاصمة أخرى لبلاد الزاب، تكون خلفا لـ (طبنة) فأسس (المسيلة ) على أطلال مدينة (زابي) التي أشرنا إليها آنفا، واشتق اسمها من اسمه (المحمّديّة).
ويذكر الأستاذ عثمان الكعاك أنّ القاسم كان راكبا على فرسه وهو يخط المدينة برمحه، ثمّ عهد إلى علي بن حمدون الأندلسي ببنائها، وذلك في صفر 315 هـ 15 أفريل 927 م، وبعد إتمام البناء سمّى ابن حمدون واليا عليها، وانتقلت مباشرة عاصمة الزاب بصفة رسميّة من (طبنة) إلى (المسيلة).
وقد بلغت (المسيلة) درجة متقدّمة في الجانب العمرانيّ فضمّت الكثير من القصور والحمّامات والمتنزهات والمساجد، كما كانت مقصدا للعلماء والرّحالة والجغرافيين، ومن بينهم الرّحالة أبو عبيد عبد الله البكريّ في القرن 11 م الذي قال عنها " وهي: مدينة جليلة على نهر يسمّى بنهر سهر، أسسها أبو القاسم إسماعيل بن عبيد الله سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ... وهي مدينة في بساط من الأرض، عليها سوران، بينهما جدول ماء جار يستدير بالمدينة، ولـه منافذ يسقى منها عند الحاجة " وقد أورد البكريّ بعد وصفه لـ(المسيلة) عاصمة الزاب أبياتا قا لـها أحمد بن محمّد المروذي، يذكر نزول إسماعيل بالمسيلة التي يطلق عليها الشيعة (المحمّديّة):
ثمّ إلــى مدينـــة مرضيـّـــه
أسّت على التقوى محمّديّـه
أقبل حـتى حــلـها ضحيّـــه
بالنــور من طلعتـه المضيّـه
فحلّ فـي عسكـر المسيلـه
في هـيئــة كاملـــة جميلــه
للنصر في أرجـائه مخيلـه
بنعمـة من ذي العلى جليلــه
بلاد الزاب في العهد الزّيريّ الصنهاجيّ
بعد أن همّ الفاطميون بالانتقال من بلاد المغرب إلى مصر قام المعز بن منصور العبيدي بدعوة جعفر بن علي بن حمدون أمير ولاية المسيلة والزاب عموما ليعهد إليه بأمر إفريقيّة، لكنّه أوجس منه خيفة، فرفض المثول بين يديه، وخرج على طاعته واعتصم بقبيلة مغراوة التي أجارته، لِما يعلمه من حنق زيري الصنهاجي عليه، وقام مع الخيّر بن محمّد الزناتي بالدّعوة الأمويّة، فنشبت الحرب بين زناتة وصنهاجة والتي قتل زيري في إحدى معاركها في رمضان 360 هـ - جوان 970 م، كما يؤكد ذلك الشيخ عبد الرحمن الجيلالي ، بعد ذلك عزم ابنه بلكين (بولوغين) على الثأر لوالده، وبعد حروب عديدة تمكن من إخضاع كامل المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) بما في ذلك بلاد الزاب، كما قضى على حركة محمّد بن الحسن بن خزر المغراوي في ثورته ضدّ الشيعة، والذي سبق لـه أن انتزع بلاد الزاب من الفاطميين، وقد أدت به سلسلة ا لـهزائم التي مني بها إلى الانتحار.
بلاد الزاب في العهد الحمادي
يشير الكثير من المؤرخين أنّه بعد المفاوضات التي جرت بين المعز وحمّاد استقلّ هذا الأخير بأجزاء واسعة من المغرب الأوسط وبالكثير من مدنها، كالمسيلة، طبنة، مقرة، أشير، تيهرت، بسكرة... ليؤسس الدّولة الحمّاديّة (1007 م – 1152 م) ثاني دولة مستقلّة بالمغرب الأوسط (الجزائر) بعد الرستميّة (776 م 909 م)، متخذا من القلعة (قلعة بني حمّاد) عاصمة لـه، ومن هنا انتقلت عاصمة بلاد الزاب من المسيلة إلى القلعة التي بناها حمّاد بن بلكين بن زيري بن منّاد الصنهاجيّ في حدود 370 هـ.
وقد كانت بسكرة في ذلك الحين ضمن نفوذ الدّولة الحمّاديّة، ولم تصبح بعدُ عاصمة لبلاد الزاب، وكانت آنذاك تتوارث الحكم عليها أسرة بني رمّان، ولما قتل بلكين بن محمّد خرجت هذه الأسرة ببسكرة على الناصر بن علناس، وأعلنت عصيانها رفقة بعض قرى بسكرة، فجهز لـهم وزيره خلف بن أبي حيدرة في حملة عسكريّة فأحبط عصيانهم، وقضى على تمرّدهم في مهده، وأخمد الثورة بشكل نهائيّ عام 450 هـ 1050 م وأخذ معه رؤساء بني رمّان وشيوخهم فقام بصلبهم بالقلعة، ثمّ انتقلت رياسة بسكرة وما جاورها إلى أسرة جديدة هي أسرة عروس من بني سندي.
بلاد الزاب في عهد بني هلال
خلال حكم السلطان الحمّاديّ الناصر بن علناس الذي بدأ في 454 هـ 1062 م اشتدّت ضربات بني هلال على المغرب الأوسط، فاقتحموا مدن الزاب وقراه " واكتسحوا بسائطه بقوّة لا تقهر حتى انتهوا إلى ضواحي القلعة" وعاثوا في الأرض و" هجم الأعراب على الزاب وعملوا به عملـهم بإفريقية "
ولما جئت أبحثُ عمّا فعلـه الـهلاليون بإفريقية (تونس) وقفتُ على ما قالـه ابن خلدون "وجاء العرب فدخلوا البلد (القيروان) واستباحوه، واكتسحوا المكاسب وخرّبوا المباني وعاثوا في محاسنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها" كما اطلعت على قصيدة لابن رشيق المسيلي القيرواني تعرف بـ (النونيّة) رثى فيها القيروان على إثر تخريبها وتدمير عمرانها وخاصّة مسجدها، مع ترويع أهلـها الآمنين وانتهاك حرماتها، فبعد أن ذكر فضلـها وسبقها ونشاطها الاقتصاديّ حتى كادت تتفوّق على مصر أو بغداد، وصف فضائع بني هلال في شهر رمضان 449 هـ الموافق لـ 1 نوفمبر 1057 م في قولـه:
فتكـوا بأمّـــة أحمــد أتراهـم
أمِنـوا عقـاب الله في رمضــان؟
نقضوا العهود المبرمات وأخفروا
ذمم الإلـه، ولم يفـوا بضمــان
فاستحسنوا غدر الجوار وآثروا
سبي الحريم وكشفة الـنسـوان
إلى أن يقول وهو يتألـم لما آل اليه مسجد عقبة بن نافع بالقيروان وما أصابه، وكيف أضحى مظلما موحشا مع استياء الجبال والإنس والجنّ مما حلّ به من خراب:
والمسجد المعمور جامع عقبة
خرب المعاطن مـظـلم الأركان
وأرى الجبال الشم أمست خشّعا
لمصابها وتزعـزع الثقــلان
ومثل هذا الذي حدث لبلاد الزاب ومدنها وقراها كطبنة والمسيلة والقلعة على حد تأكيد ابن خلدون " فخربو ها وأزعجوا ساكنيها، وعطفوا على المنازل والقرى والضيّاع والمدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجن، وأوحش من جوف العير" ، لكن بعد وصولـهم إليها جوبهوا بمقاومة عنيفة شاركت فيها عدّة قبائل متحالفة، وهذا الذي يؤكده المؤرّخ عثمان الكعاك " وتحارب الحلفاء مع الأعراب في عدّة مواضع هلك في إحداها أبو سعدى وانكسرت جيوش التحالف وانساب الأعراب (الـهلاليون) على الزاب والجزائر من كلّ صوب وحدب يحرقون ويدمرون ويخرّبون " .
إلا أنّ بعض المؤرخين ينفون عن الـهلاليين صفة التدمير والحرق والتخريب ويعتبرون هجرة بني هلال وبني سُليم فتحا ثانيا بعد الفتوحات الإسلاميّة الأولى ويشيدون بإسهامهم في تعريب بلاد المغرب. كما أظهروا بطولات رجالية ونسائية شهيرة وتركوا تراثا ثقافيا شفويا لايزال متداولا إلى اليوم لاسيما بصعيد مصر وبلاد المغرب، ويتهمون ابن خلدون بترويج ذلك حيث وصفهم بشتى النعوت ناسبا اليهم عمليات التدمير والفساد والقتل من مثل قولـه "وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى "
ويقصد الأستاذ الكعاك هنا بالتحالف الذي جمع بين بني يعلى وبطون من بني مرين وبني عبد الواد، الذين سيتركون موطنهم الأصلي بلاد الزاب بعد هزائمهم المتتالية أمام الـهلاليين ويتجهون صوب الغرب ليؤسس أحفادهم فيما بعد دولة بني مرين بالمغرب الأقصى ودولة بني زيّان العبد الواديّة بالمغرب الأوسط (الجزائر) وعاصمتها تلمسان.
وبعد فشلـهم في صدّ الزحف الـهلالي استقر بنو هلال ببلاد الزاب بعد أن أبرموا اتفاقا مع الحمّاديين الذين احتفظوا بالمدن، كما نقل ملكهم النّاصر بن علناس عاصمته إلى بجاية الناصريّة تاركا القلعة بين يدي الـهلاليين الذين استولوا بدورهم على الأرياف نظرا لطبيعتهم التي يغلب عليها الطابع البدوي الريفي، لكنّهم اندمجوا بعد ذلك واختلطوا بسكان المدن، كمدينة بسكرة التي أضحت عاصمة لدولة أحفادهم بني مزني (1279 م – 1402 م) لاسيما بعدما أنهكتهم الحروب وهلك منهم الكثير، فلم يجدوا بدا من الاستقرار في بلاد الزاب "ثم عجزوا عن الطعن ونزلوا ببلاد الزاب واتخذوا بها المدن فهم على ذلك لـهذا العهد" وهذا الذي نجده كذلك في (درر العقود الفريدة) للمقريزي، المتوفى عام 1442 م، حيث يقول " ونزل أوّلـهم ببعض قرى بسكرة، فلما كثروا وتأثلوا الأموال تحوّلوا إلى بسكرة، وانتظم كبارهم في أرباب الشورى، فنافسهم بنو رمّان رؤساء بسكرة، وعادوهم حتى اقتتلوا " ليتمكنوا بعد ذلك من إبعادهم عن مسرح الأحداث وإزاحتهم عن حكم بسكرة ليستفرد بها بنو مزني ردحا من الزمن.
نشر في الموقع بتاريخ : السبت 9 ذو الحجة 1432هـ الموافق لـ : 2011-11-05