سيرة عمر الجز15 -20 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية

قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سيرة عمر الجز15 -20

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-08-01, 15:31   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي سيرة عمر ابن الخطاب الجز15 -20

الجزء 15


المبحث الثاني: تعيين الولاة في عهد عمر:
سار الفاروق رضي الله عنه على المنهج النبوي الشريف في اختيار الولاة، فكان لا يولي إلا الأكفاء والأمناء والأصلح من غيرهم على القيام بالأعمال، ويتحرى في الاختيار والمفاصلة غاية جهده ولا يستعمل من يطلب الولاية، وكان يرى أن اختيار الولاة من باب أداء الأمانات، بحيث يجب عليه أن يعين على كل عمل أصلح من يجده، فإن عدل عن الأصلح إلى غيره مع عدم وجود ما يبرر ذلك، يكون قد خان الله، ورسوله والمؤمنين( )، ومن أقواله في هذا الشأن: وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم( )، وقال رضي الله عنه: من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين( )، وقال أيضاً: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين( ).
أولاً: أهم قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم:
1- القوة والأمانة:
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه هذه القاعدة، ورجّح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمر شرحبيل بن حسنة وعين بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل( )، ومن أجمل ما أثر عن عمر في هذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة( ).

2- مقام العلم في التولية:
وقد جرى عمر الفاروق على سنة رسول الله صلى الله عله وسلم في تولية أمراء الجيوش خاصة. قال الطبري: إن أمير المؤمنين، كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان، أمّر عليهم رجلاً من أهل الفقه والعلم( ).

3- البصر بالعمل:
كان عمر بن الخطاب يستعمل قوماً، ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل( )، والتفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر، كانوا أفضل ديناً، وأكثر ورعاً، وأكرم أخلاقاً، ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهما معاً، وهذه القاعدة التي وضعها عمر،
ما زالت متبعة حتى اليوم، في أرقى الدول، ذلك بأن المتدين الورع الخلوق، إذا لم تكن له بصيرة في شؤون الحكم، قد يكون عرضة لخديعة أصحاب الأهواء والمضللين، أما المحنَّك المجرَّب، فإنه يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ،
وما وراء معاني الألفاظ وهذا السبب نفسه هو الذي دعا عمر بن الخطاب أيضاً لاستبعاد رجل لا يعرف الشر، فلقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملاً فقيل له: يا أمير المؤمنين: إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه( )، وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الإدارة والحكم، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سمّاه عمر بن الخطاب: البصر بالعمل( ).

4- أهل الوبر وأهل المَدَر:
وكان عمر ينظر، حين تعيينه أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهى عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر( )، وأهل الوبر هم ساكنوا الخيام، وأهل المدر هم ساكنوا المدن وهذه نظرة اجتماعية سلوكية في آن معاً، في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبر والمدر طبائع وخصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الوالي عارفاً بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجلٌ جاهل بها، فقد يرى العُرف نُكراً وقد يرى الطبيعي غريباً، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع من أهداف يسعى إلى تحقيقها( ).

5- الرحمة والشفقة على الرعية:
كان عمر رضي الله عنه يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغرروا بالمسلمين ولا ينزلوهم منزل هلكة، وكتب عمر لرجل من بني أسلم كتاباً يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعض أولاد عمر في حجر أبيهم يُقبّلهم. فقال الرجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله
ما قبَّلت ولداً لي قط، فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملاً، ورده عمر فلم يستعمله( )، وغزت بعض جيوشه بلاد فارس حتى انتهت إلى نهر ليس عليه جسر فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يوم شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فقال الرجل: إني أخاف إن دخلت الماء أن أموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه يا عمراه! ولم يلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة. فقال: يا لبيكاه يا لبيكاه، وبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال: لولا أن تكون سنّة لأقدت منك،
لا تعمل لي على عمل أبداً( )، وخطب عمر ولاته فقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى ولا أعمّ من حلم إمام ورفقه، وأنه ليس أبغض إلى الله ولا أعمّ من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهرانيه يُرزق العافية ممن هو دونه( ).

6- لا يولي أحداً من أقاربه:
كان عمر حريصاً على أن لا يولي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أني وجدت رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا( )، وكان يقول: من استعمل رجلاً لمودة أو لقرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله( ).

7- لا يعطي من يطلبها:
كان لا يولي عملاً لرجل يطلبه، وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر لم يُعن عليه، وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول .

8- منع العمال من مزاولة التجارة:
كان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين( )، روي أن عاملاً لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا وأخذ منه ما حصل عليه من ربح( ).

9- إحصاء ثروة العمال عند تعيينهم:
كان عمر يحصي أموال العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً( ).

10- شروط عمر على عماله:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: أن لا يركب برذوناً( )، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول: اللهم فاشهد( ).
وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد والتواضع للناس، وهي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة، واللباس والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجباً في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع، وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار( ).

11- المشورة في اختيار الولاة:
كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة( )، فقد قال رضي الله عنه لأصحابه يوماً: دلوني على رجل إذا كان في القوم أميراً فكأنه ليس بأمير، وإذا لم يكن بأمير فكأنه أمير( )، فأشاروا إلى الربيع بن زياد( )، وقد استشار عمر رضي الله عنه الصحابة في من يولي على أهل الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة ومن تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم عفيفاً استضعفوه، وإن استعلمت عليهم قوياً فجّروه، ثم قال: أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي وآخر قوي مشدّد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتلكم المغيرة بن شعبة فقال يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوي المشدّد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجّار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين( ).

12- اختبار العمال قبل التولية:
كان عمر رضي الله عنه يختبر عماله قبل أن يوليهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عنده حولاً فقال يا أحنف قد بلوتك وخبرتك فرأيت أن علانيتك حسنة وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك وأنّا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم، ثم قال له عمر أتدري لم احتبستك وبين له أنه أراد اختباره ثم ولاه( )، ومن نصائح عمر للأحنف: يا أحنف، من كثر ضحكه قلتْ هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه( ).

13- جعل الوالي من القوم:
من الملاحظ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في كثير من الأحيان يولي بعض الناس على قومهم إذا رأى في ذلك مصلحة ورأى الرجل جديراً بالولاية، ومن ذلك توليته ((جابر بن عبد الله البجلي)) على قومه بجيلة( )، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره( ).

14- المرسوم الخلافي:
وقد اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه حينما كان ينتهي من اختيار الوالي واستشارة المستشارين يكتب للوالي كتاباً يسمى عهد التعيين أو الاستعمال عند كثير من المؤرخين ويمكننا أن نسميه مجازاً (المرسوم الخلافي في تعيين العامل أو الأمير) وقد وردت العديد من نصوص التعيين لعمال عمر( )ولكن المؤرخين يكادون يتفقون على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا استعمل عاملاً كتب له كتاباً وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين والأنصار واشترط عليه شروطاً في الكتاب( ) كما قد يكون الشخص المرشح للولاية غائباً، فيكتب له عمر عهداً يأمره فيه بالتوجه إلى ولايته، ومثال ذلك كتابه إلى العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين أمره بالتوجه إلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، كما أنه في حال عزل أمير وتعيين آخر مكانه فإن الوالي الجديد كان يحمل خطاباً يتضمن عزل الأول وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتاب عمر مع أبي موسى الأشعري حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة وعين أبا موسى مكانه( ).
15- لا يستعين بنصراني على أمور المسلمين:
قدم على عمر فتح من الشام، فقال لأبي موسى: ادع كاتبك يقرأه على الناس في المسجد. قال أبو موسى: إنه لا يدخل المسجد. قال عمر: لم؟ أجنب هو؟ قال:
لا ولكنه نصراني، فانتهره عمر وقال: لا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنوهم وقد خونهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشوة( )، وعن أُسِّقَ( )، قال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأعتقني لما حضرته الوفاة وقال: اذهب حيث شئت( ).

ثانياً: أهم صفات ولاة عمر:
من أهم صفات ولاة عمر؛ سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع وقبول النصيحة، والحلم، والصبر وعلو الهمة، والحزم والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وغير ذلك من الصفات وأما أهمها فهي:
1- الزهد:
فمن ولاة عمر الذين اشتهروا بزهدهم، سعيد بن عامر بن حذيم وعمير بن سعد وسلمان الفارسي، وأبو عبيدة ابن الجرّاح، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وكان نساء بعض الولاة يقدمن الشكاوى إلى عمر نتيجة زهد أزواجهن، فقد اشتكت امرأة معاذ بن جبل رضي الله عنه وذلك: أن عمر بعث معاذاً ساعياً.. على بعض القبائل فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء مجلسه الذي خرج به على رقبته. فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم؟ فقال: كان معي ضاغط( )، فقالت: قد كنت أميناً عند رسول الله  وعند
أبي بكر، أفبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر فدعا معاذاً، فقال أنا بعثت معك ضاغطاً، فقال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك. قال: فضحك عمر وأعطاه شيئاً وقال أرضها به( ).

2- التواضع:
اشتهر الولاة في عهد عمر بتواضعهم الشديد حتى إن القادمين إلى بلادهم
لا يميزون بينهم وبين عامة الناس فهم في لباسهم وبيوتهم ومراكبهم كعامة الناس
لا يميزون أنفسهم بشي، ومن أمثلة ذلك قصة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فقد بعث إليه الروم رجلاً ليفاوضه: فأقبل حتى أتى أبا عبيدة، فلما دنا من المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من أصحابه، ولم يدر أفيهم هو أم لا ولم يرهبه مكان أمير. فقال لهم: يا معشر العرب، أين أميركم؟ فقالوا هاهو ذا. فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالس على الأرض وهو متنكب القوس وفي يده أسهم وهو يقلبها. فقال له الرسول: أنت أمير هؤلاء؟ قال: نعم. قال فما يجلسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت جالساً على وسادة أو كان ذلك وضعك عند الله أو مانعك من الإحسان؟ قال أبو عبيدة: إن الله لا يستحي من الحق، ولأصدقنك عما قلت ما أصبحت أملك ديناراً ولا درهماً وما أملك إلا فرسي وسلاحي وسيفي، لقد احتجت أمسي إلى نفقة فلم يكن عندي حتى استقرضت من أخي هذا نفقة كانت عنده يعني معاذاً فأقرضنيها، ولو كان عندي أيضاً بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون إخواني وأصحابي وأجلس أخي المسلم الذي لا أدري لعله عند الله خير مني على الأرض، ونحن عباد الله نمشي على الأرض، ونجلس على الأرض، ونأكل على الأرض ونضجع على الأرض وليس ذلك ينقصنا عند الله شيئاً، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع درجاتنا، ونتواضع بذلك لربنا( ).

3- الورع:
حرص العديد من الولاة أن يُعفى من الأعمال الموكلة إليهم فقد استعفى عتبة بن غزوان عمر من ولاية البصرة فلم يعفه( )، كما أن (النعمان بن مقرن) كان والياً على كسكر فطلب من عمر أن يعفيه من الولاية ويسمح له بالجهاد رغبة في الشهادة( )، كما رفض بعض الصحابة الولاية حينما طلب منهم عمر أن يعملوا في الولايات، فقد رفض الزبير بن العوام ولاية مصر حينما عرض عليه ذلك قائلاً يا أبا عبد الله هل لك في ولاية مصر، فقال: لا حاجة لي فيها ولكن أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً( )، كما رفض ابن عباس ولاية حمص حينما عرض عليه عمر أن يوليه إياها بعد وفاة أميرها( ).


4- احترام الولاة لمن سبقهم من الولاة:
امتاز الولاة على البلدان باحترام من سبقهم من الولاة وتقديرهم وهذا يلاحظ في معظم الولاة في العصر الراشدي حيث نجد مثلاً أن خالداً بن الوليد حينما قدم إلى الشام أميراً على أبي عبيدة بن الجراح وغيره رفض أن يتقدم على أبي عبيدة في الصلاة، وحينما قام عمر بعزل خالد بن الوليد عن ولاية أجناد الشام وتعيين
أبي عبيدة مكانه أخفى أبو عبيدة الخبر عن خالد ولم يخبره به حتى ورد كتاب آخر من عمر، فعلم خالد بالخبر فعاتب أبا عبيدة على عدم تبليغه( )، يقول الدكتور عبد العزيز العمري: ولم أجد من خلال البحث أن أحداً من الولاة عمل على إذلال من سبقه أو النيل منه، بل إنهم في الغالب يعملون على مدحهم في أول خطبة يلقونها ويثنون عليهم( ).

ثالثاً: حقوق الولاة:
مما لا ريب فيه أن للولاة على البلدان حقوقاً مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، وبالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة دين الإسلام وهذه أهم حقوقهم:
1- الطاعة في غير معصية:
وواجب الطاعة من الرعية للأمراء والولاة قررته الشريعة قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59)  (النساء، آية:59).
وهذه الآية تنص على وجوب طاعة أولى الأمر ومنهم الأمراء المنفذون لأوامر الله سبحانه وتعالى( )، ولاشك أن طاعة الأمراء والخلفاء مقيدة بطاعة الله وأنهم متى عصوا الله فلا طاعة لهم( ).

2- بذل النصيحة للولاة:
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين لا أبالي في الله لومة لائم خير لي أم أقبل على نفسي، فقال: أما من ولي من أمر المؤمنين شيئاً فلا يخف في الله لومة لائم، ومن كان خلواً من ذلك فليقبل على نفسه ولينصح لولي أمره( ).

3- إيصال الأخبار للولاة:
يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه والصدق في ذلك، سواء
ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء أو ما كان متعلقاً بعمال الوالي وموظفيه والعجلة في ذلك قدر المستطاع خصوصاً ما كان متعلقاً بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك من منطق الاشتراك في المسؤولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة( ).


4- مؤازرة الوالي في موقفه:
إذا كان موقفه للمصلحة العامة وتلزم المعاونة بالدرجة الأولى من قبل الخليفة، فقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على هذا المعنى كل الحرص حيث كان يولي عناية خاصة لاحترام الناس لولاتهم وتقديرهم لهم ويبذل في ذلك مختلف الأسباب (فكان عمر على شدة ما فيه مع عماله إذا أحس باعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور ومهابة يلجم بها العامة والخاصة( ).

5- حق الأمير في الاجتهاد:
من حق الأمير الاجتهاد برأيه في الأمور التي يكون مجال الاجتهاد فيها مفتوحاً خصوصاً في الأمور التي لم يحددها الشرع بدقة وفي الأمور الأخرى التي لم يأت فيها تفويض من الخليفة للتصرف في حدود معينة، فقد اجتهد أحد ولاة عمر في الشام في قسمة الأسهم بين الراجلة والفرسان، فأجاز عمر اجتهاده، وقد اشتهر عن ابن مسعود وكان أحد ولاة عمر رضي الله عنه أنه خالف عمر في أكثر من مائة مسألة اجتهادية( ).

6- احترامهم بعد عزلهم:
من حقوق الولاة احترامهم بعد عزلهم، فعندما عزل عمر رضي الله عنه شرحبيل بن حسنة عن ولاية الأردن، بين للناس سبب عزله، وقال لشرحبيل عندما سأله أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل( )، وعزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة ولعله رأى أن احترامه يقضي بإبعاده عن أناس كانوا يعيبونه في صلاته مع أن سعداً كان أشبه الناس صلاة برسول الله لعلمه التام بصفة صلاة النبي ، فعزله عمر احتراماً له عن أن يقع فيه مثل هؤلاء الجهال( ).

7- حقوقهم المادية:
أما عن الناحية المادية فقد كان للولاة حقوق وعلى رأسها مرتباتهم التي يعيشون عليها، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون قد أحسوا بأهمية الأرزاق بالنسبة للعمال، وأنها حق من حقوقهم إضافة إلىاستغنائهم بها عن الناس وبالتالي عدم التأثير عليهم أو محاولة رشوتهم( )، وقد كان عمر بن الخطاب حريصاً على نزاهة عماله وعفتهم عن أموال الرعية، واستغنائهم بأموالهم عن أموال الغير، ولعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أحس بهذه القضية الخطيرة، وأحس أنه لكي يضمن نزاهة عماله فلا بد له أن يغنيهم عن الحاجة إلى أموال الناس وقد دار حوار بينه وبين أبي عبيدة مفهومه أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنّست أصحاب رسول الله  يعني باستعمالهم فقال له عمر:
يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال
أبو عبيدة: أما إن فعلت فاغنهم بالعمالة عن الخيانة( )، يعني إذا استعملتهم في شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق، حتى لا يحتاجون إلى الخيانة أو إلى الناس وقد كان عمر يصرف لأمراء الجيش والقرى وجميع العمال من العطاء ما يكفيهم بالمعروف نظير عملهم ( على قدر ما يصلحهم من الطعام ما يقومون به من الأمور) ( )، وكان عمر يحرص على نزاهة العمال عما بأيديهم من الأموال العامة فيقول لعماله: قد أنزلتكم من هذا المال ونفسي منزلة وصي اليتيم من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف( )، وقد فرض عمر لجميع عماله تقريباً مرتبات محددة وثابتة سواء يومية أو شهرية أو سنوية وقد ورد ذكر بعضها في المصادر التاريخية منها ما كان طعاماً ومنها ما كان نقوداً محددة( )، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات وعمّار بن ياسر على الصلاة والجند ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار بن ياسر، لأنه كان في الصلاة والجند، وجعل ربعها لعبد الله بن مسعود والربع الآخر لعثمان بن حنيف كما ورد أن عمر بن الخطاب فرض لعمرو بن العاص أثناء ولايته على مصر مائتي دينار( )، وكان عطاء سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو على ثلاثين ألفاً من الناس في المدائن خمسة آلاف درهم، ولزهده كان يأكل من عمل يده من الخوص ويتصدق بعطائه( )،وقد وردت روايات أخرى متفاوتة في أرزاق عمر لولاته، ولا شك أن هذا الاختلاف في الروايات مرده إلى تطور الأحوال وتغيرها خلال عهد عمر، فلا يعقل أن تبقى الأرزاق والمرتبات على ماهي عليه من أول عهده إلى نهايته، نظراً لتغير الظروف والأحوال واختلاف الأسعار وتطور الحاجات نتيجة اتساع الفتوح وزيادة الدخل في بيت المال( )، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رزق معاوية على عمله بالشام عشرة آلاف دينار في كل سنة، كما ذكر أن عمر كان يفرض لأمراء الجيوش والقرى في العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلهم من الطعام وما يقومون به من الأمور( ).
وقد كره بعض العمال أخذ الأرزاق نتيجة قيامه بأعمال الإمارة والولاية للمسلمين إلا أن الفاروق كان يوجههم إلى أخذها، فقد قال عمر رضي الله عنه لأحد ولاته: ألم أحدثك أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال إني لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني فقال النبي : خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، ومالاً فلا تتبعه نفسك( )، وعلى كل حال فإن مبدأ إعطاء الأرزاق للعمال وإغنائهم عن الناس كان مبدأ إسلامياً فرضه الرسول ، وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرّغوهم للعمل ولمصلحة الدولة الإسلامية( ).

8- معالجة العمال إذا مرضوا:
مرض معيقيب، وكان خازن عمر على بيت المال، فكان يطلب له الطب من كل من يسمع عنده بطب، حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكم من طب لهذا الرجل الصالح، فإن هذا الوجع قد أسرع فيه. قالا: أما شيء يذهبه فإنا لا نقدر عليه ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد. قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا يزيد قال: هل ينبت في أرضك هذا الحنظل. قال: نعم: قالا: فاجمع لنا فيه فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان، فعمدا إلى كل حنظلة، قطعاها باثنين، ثم أضجعا معيقيباً فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظل، حتى إذا امّحقت أخذ أخرى. ثم أرسلاه فقال عمر: لا يزيد وجعه هذا أبداً. قال الراوي: فوالله ما زال معيقيب بعدها متمسكاً ما يزيد وجعه حتى مات( ).

رابعاً: واجبات الولاة:
إن الولاة بما بوأهم الله من مكانة، قد ألقى على كاهلهم أعباءً ثقالاً، وواجبات جساماً، أثر منها عن عمر بن الخطاب ما يلي:

1- إقامة أمور الدين:
كنشر الدين الإسلامي بين الناس، وإقامة الصلاة، وحفظ الدين وأصوله، وبناء المساجد وتيسير أمور الحج، وإقامة الحدود الشرعية:


• نشر الدين الإسلامي:
حيث اختص ذلك العصر بفتوحات عظيمة اقتضت من الولاة العمل على نشر الدين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصحابة( )، وفي زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان وكان والياً على الشام: إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم فأعني برجال يعلمونهم، فأرسل إليه عمر خمسة من فقهاء الصحابة( )، وقد اشتهر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يردد: ألا إنني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم
ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنة نبيكم( )، وكان عمر يقول لولاته إنا لا نوليكم على أشعار المسلمين ولا على أبشارهم وإنما نوليكم لتقيموا الصلاة وتعلموهم القرآن( )، وقد أرسل عمر رضي الله عنه مجموعة من المعلمين إلى الأمصار الإسلامية، حيث أسسوا المدارس العلمية المشهورة كما مرّ معنا.

• إقامة الصلاة:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب لولاته: إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أشد إضاعة( )، كما كان عمر يؤكد لولاته أهمية إقامة الصلاة في الناس بقوله: وإنما نوليكم لتقيموا الصلاة وتعلموهم العلم والقرآن( )، وكان عمر رضي الله عنه ينص في قرار التعيين أن فلاناً أمير الصلاة والحرب كالقرار الذي عين فيه عمار بن ياسر على الصلاة والحرب وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال( )، وقد تحدث الفقهاء الذين كتبوا في السياسة الشرعية عن أهمية الصلاة بالنسبة للأمير
وما يتضمنه ذلك الأمر من معان عظيمة دنيوية وأخروية( ).

• حفظ الدين وأصوله:
حرص الفاروق على حفظ الدين على أصوله الصحيحة التي نزلت على رسول الله، وكان يعمل جاهداً على إحياء سنة الرسول  والقضاء على البدع والعمل على احترام دين الله وإحياء سنة رسول الله ، فقد أمر بطرد رجل وتغريبه نتيجة كثرة إثارته لمواضيع من المتشابه من القرآن( ) كما مر معنا، وأمر رضي الله عنه بالقيام في رمضان وتعميم ذلك على الأمصار( )، وقد كتب إلى أبي موسى الأشعري: إنه بلغني أن ناساً من قبلك قد دعوا بدعوى الجاهلية يا آل ضبة فإذا أتاك كتابي هذا فانهكهم عقوبة في أموالهم وأجسامهم حتى يفرقوا إذا لم يفقهوا( ).


• تخطيط وبناء المساجد:
وتذكر بعض الإحصاءات أنه أنشئ في عهد عمر 4000 مسجد في بلاد العرب وحدها وقد اشتهر الولاة بنشر المساجد وتأسيسها في مختلف مناطق حكمهم مثل عياض بن غنم الذي أنشأ مجموعة من المساجد في النواحي المختلفة من الجزيرة( ).

• تيسير أمور الحج:
كان الولاة في عهد الخلافة الراشدة مسؤولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج من عمله فداخلة في أحكام إمارته لأنه من جملة المعونات التي تنسب لها( ).

• إقامة الحدود الشرعية:
أقام عمرو بن العاص الحد على أحد أبناء عمر بن الخطاب في مصر ثم عاقبه عمر نفسه بالجلد، وقيل أنه توفي بعد ذلك في أثر هذا الجلد( )، وقد كان الولاة يقومون بالقصاص في القتل دون إذن الخليفة إلى أن كتب إليهم عمر: أن لا تقتلوا أحداً إلا بإذني( )، فأصبحوا يستأذنون عمر في القتل قبل تنفيذه، فإقامة الحدود من الأمور الدينية والدنيوية التي كان ينظر إليها الخلفاء وولاتهم نظرة جادة ويهتمون بها كما يهتمون بشعائر الدين المختلفة( ).





..........يتبع










 


رد مع اقتباس
قديم 2012-08-01, 15:35   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي

الجزء 16





- تأمين الناس في بلادهم:
إن المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق، مما يجد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم( ) وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أخيفوا الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً( )، كما أن إقامة فريضة الجهاد ضد الأعداء كان له دور كبير في تأمين البلاد الإسلامية وأمصارها( ).

3- الجهاد في سبيل الله:
إذا استعرضنا أسماء الأمراء منذ بداية خلافة أبي بكر إلى خلافة عمر لوجدنا لهم باعاً طويلاً في الفتوحات، بل إنهم كانوا يتوجهون أمراء إلى بلدان لم تفتح بعد فيعملون على فتحها ومن ثم تنظيمها كأمراء الشام أبي عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وأمراء العراق كالمثنى بن حارثة وخالد بن الوليد وعيّاض بن غنم وغيرهم( )، وقد كان الولاة في عهد الخلفاء الراشدين مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم أعمال الولاة في دعم حركة الجهاد والتي من أهمها:
- إرسال المتطوعين إلى الجهاد.
- الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: فقد قال عمر: ولكم علي أن أسد ثغوركم.
- تحصين البلاد: فقد أمر الفاروق ببناء حصون لمن نزل الجيزة في مصر من قبائل الفتح، خوفاً عليهم من الإغارات المفاجئة( ).
- تتبع أخبار الأعداء: فقد اشتهر عن أبي عبيدة رضي الله عنه متابعته الدقيقة لتجمعات الروم في بلاد الشام، فكان يقوم ببعض العمليات الانسحابية التمويهية بناء على هذه الأخبار( ).
- إمداد الأمصار بالخيل: وضع عمر رضي الله عنه سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها فأقطع أناساً من البصرة أراضي كي يعملوا فيها على إنتاج الخيل وتربيتها( )، كما أعطى عمر أناساً من المسلمين في دمشق أرضاً للعناية بالخيل فزرعوها فانتزعها منهم وأغرمهم لمخالفتهم الهدف من إعطائهم الأراضي وهو المساعدة في إنتاج الخيل، وقد كان لعمر أربعة آلاف فرس في الكوفة وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلي في نفر من أهل الكوفة يصنّع سوابقها ويجريها في كل عام، وبالبصرة نحوٌ منها، وأيضاً في كل مصر من الأمصار الثمانية عدد قريب من العدد السابق( ) وكانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية( ).
- تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد:
فقد كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أهل الأمصار يأمرهم بتعليم أولادهم الفروسية والسباحة والرمي، وقد أصيب أحد الغلمان أثناء التعليم في الشام ومات، فكتبوا إلى عمر في ذلك فلم يثنه عن أمره بتعليم الأولاد الرمي( ).
- متابعة دواوين الجند:
اهتم الفاروق رضي الله عنه اهتماماً خاصاً بدواوين الأمصار نظراً لاعتقاده أن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصاً القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار( )، وقد كان الولاة على البلدان مسؤولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب فقد كانت مسؤوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسؤولية الخليفة باعتبارهم نواباً( ).
- تنفيذ المعاهدات:
وقد جرت بعض المعاهدات بين أبي عبيدة بن الجراح وبعض مدن الشام، وكذلك الحال بالنسبة لأمراء العراق كسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وغيرهم من الولاة، وقد كان الولاة إضافة إلى ذلك يحرصون على حماية حقوق الذميين والمعاهدات الشخصية والعامة، وينفذون المعاهدات انطلاقاً من الأوامر الشرعية برعاية العهد( )، وقد أوصى الفاروق بأهل الذمة فقال: أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله خيراً، أن يقاتل مَنْ وراءهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم( ).

4- بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس:
فقد قال عمر: إن سلمني الله لأدعنّ أرامل العراق وهن لا يحتجن إلى أحد بعدي، ونحن لا ننسى موقف عمر عام الرمادة، حين حل الجوع بالناس، فإنه وضع جميع إمكانيات الدولة لحل الأزمة وإشباع البطون الجائعة، فقد روى البيهقي في سننه أن عمر أنفق على أهل الرمادة حتى وقع المطر، فترحلوا، فخرج إليهم عمر راكباً فرساً، فنظر إليهم وهم يترحلون بظعائنهم، فدمعت عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنها انحسرت عنك، ولست بابن أمة  يمتدح عمر  فقال له عمر: ويلك، ذلك لو أنفقت من مالي أو من مال الخطاب، إنما أنفقت من مال الله( )، وقد قال رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله( )، وقد أخذ توزيع الأعطيات في عهد عمر شكلاً دورياً منتظماً، ولم يكن ذلك خاصاً بسكان البلدان، بل إن القبائل في البادية شملتها الأعطيات، فقد كان عمر بن الخطاب يدور في القبائل القريبة من المدينة ويوزع عليهم أعطياتهم بنفسه وكان يكتب إلى بعض ولاته أن أعط الناس أعطياتهم وأرزاقهم فكتب إليه عمر أنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا آل عمر أقسمه بينهم( )، ولم يكتف عمر بتأمين الأموال للناس بل إنه عمل على تأمين الطعام، ففي إحدى زيارته للشام قام إليه بلال بن رباح فقال: يا أمير المؤمنين إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي وما يجد ذلك عامة المسلمين، فقال لهم عمر رضي الله عنه ما يقول بلال؟ فقال له يزيد بن أبي سفيان، يا أمير المؤمنين إن سعر بلادنا رخيص وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هنا بمثل ما كنا نقوت عيالاتنا بالحجاز فقال عمر رضي الله عنه: لا والله لا أبرح حتى تضمنوا لي أرزاق المسلمين في كل شهر. ثم قال انظروا كم يكفي الرجل ما يشتهيه؟ قالوا جريبين مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال فضمنوا له ذلك. ثم قال يا معشر المسلمين هذا لكم سوى أعطياتكم فإن وفّى لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضت لكم عليهم، وأعطوكموه في كل شهر، فذلك أحب، وإن هم لم يفعلوا فأعلموني حتى أعزلهم وأولي غيرهم( )، وقد كان عمر يحرص على توفير الطعام في البلدان ويتابع الأسواق ويمنع الاحتكار، وكذلك كان ولاته يقومون بمهمتهم في مراقبة الأسواق، كما كان يأمر التجار بالمسير في الآفاق والجلب على المسلمين وإغناء أسواقهم( )، ولم يكتف الفاروق وولاته بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط، بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، فعند إنشاء الأمصار وتخطيطها وزعت الأراضي على الناس لسكناها في الكوفة والبصرة( ) والفسطاط كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة، كحمص ودمشق والاسكندرية وغيرها( ).

5- تعيين العمال والموظفين:
كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من مثلهم عمالاً وموظفين في تلك المناطق، سواء كانوا في مستوى أمراء، أو عمال خراج، وفي الغالب فإن هذا التعيين يتم بالاتفاق بين الخليفة والوالي( ).

6- رعاية أهل الذمة:
كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقاً من الأوامر الشرعية في هذا الجانب، من واجبات الوالي، وقد كان الخلفاء يشترطون على الذميين في كثير من الأحيان شروطاً معينة قبل مصالحتهم، وبالتالي يوفون لهم بحقوقهم ويطالبون بما عليهم من شروط( ).

7- مشاورة أهل الرأي في ولايته وإكرام وجوه الناس:
شدد عمر على الولاة في استشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس لأخذ آرائهم، وكان يأمر ولاته باستمرار بمشاورة أهل الرأي( )، وطلب من ولاته إنزال الناس منازلهم، فقد كتب عمر إلى
أبي موسى الأشعري: بلغني أنك تأذن للناس جماً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القران والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة؛ وكتب إليه أيضاً: لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرموا وجوه الناس، فإنه بحسب المسلم الضعيف أن ينتصف في الحكم والقسمة( ).

8- النظر إلى حاجة الولاية العمرانية:
فقد قام سعد بن أبي وقاص بحفر نهر في ولايته بناء على طلب بعض كبار الفرس لصالح المزارعين في المنطقة( )، كما كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يأمره بحفر نهر لأهل البصرة، وقام أبو موسى بحفر نهر طوله أربع فراسخ حتى تمكن من جلب المياه لسكان البصرة( ) كما اعتنى ولاة عمر رضي الله عنه عند تأسيسهم للأمصار المشهورة الكوفة، والبصرة والفسطاط بتخطيط الشوارع وتوزيع الأراضي وبناء المساجد وتأمين المياه، وغير ذلك من المصالح العامة لهذه المدن، كما اهتم الولاة بتوطين السكان في المناطق غير المرغوب فيها، لقربها من العدو أو غير ذلك من الأسباب فقد قدموا لهم الإغراءات وأقطعوهم الأراضي تشجيعاً لهم على البقاء فيها، وقد فعل ذلك عمر وعثمان في إنطاكية وفي بعض بلاد الجزيرة.


9- مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية:
كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم فيقولون خيراً، فيقول هل يعود مرضاكم؟ فيقولون نعم فيقول هل يعود العبد؟ فيقولون نعم فيقول كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها
(لا عزله) ( ) وكان عمر يقوم بعزل العامل إذا بلغه أنه لا يعود المريض ولا يدخل عليه الضعيف( )، كما حرص عمر بن الخطاب على أن يظهر عماله بالمظهر المتواضع أمام الناس حتى يشعر الناس بأن ولاتهم منهم ولا يتميزون عنهم، فكان عمر يشترط على عماله مركباً وملبساً مماثلاً للناس، وينهاهم عن اتخاذ الأبواب والحجاب( ).
10- عدم التفريق بين العربي وغيره:
يجب على الولاة أن يقوموا بالمساواة بين الناس وأن لا يفرقوا بين العربي وغيره من المسلمين، فقد قدم قوم على عامل لعمر بن الخطاب، فأعطى العرب وترك الموالي، فكتب إليه عمر: أما بعد: فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم وفي رواية، كتب إليه: ألا سويت بينهم( ).
كما أن هناك العديد من الواجبات الأخلاقية الأخرى التي أمر الإسلام بالتزامها مثل (الوفاء بالعهد، وإخلاص المرء في عمله، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل
ما يعمل، واستعداده للتعاون مع سائر الجماعة في كل أعمال البرّ والتقوى، ووجوب النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن هذا ولا شك يؤدي إلى إصلاح حال الجماعة( ))، وكان على الوالي، فضلاً عن الالتزام بهذه المعاني، نشرها بين الناس في ولايته وذلك من خلال خطبه وكتبه ومواعظه وتصرفاته، وقد كان الولاة في عصر الراشدين –بصفة إجمالية- نموذجاً صالحاً لهذه الأخلاقيات والواجبات، سواء في أشخاصهم وخصوصياتهم أم في سلوكهم العام مع الرعية( ).

خامساً: الترجمة في الولايات، وأوقات العمل عند الولاة:
1- الترجمة في الولايات:
إن عملية الترجمة تعتبر من الوظائف المساعدة لولاة البلدان في عصر الخلفاء الراشدين، والحاجة ماسة إليها، في كثير من الأحيان، وقد طلب عمر من ولاته في العراق أن يبعثوا إليه في المدينة بدهاقين من فارس ليتفاهم معهم حول قضايا الخراج، فبعثوا إليه بالدهاقين وبترجمان معهم( )، وقد ذكر عن المغيرة بن شعبة أنه كان يجيد شيئاً من اللغة الفارسية وقام بالترجمة بين عمر والهرمزان في المدينة( ).
إن معرفة الترجمة أمر معروف في الدولة الإسلامية عموماً في عصر الخلفاء لراشدين وقبل ذلك، وإذا علمنا أن دواوين الخراج كانت بغير اللغة العربية، فإننا ندرك مدى الحاجة إلى وجود مترجمين في الولايات يتولون الترجمة في قضايا الخراج وغيرها خصوصاً أن العمال الرئيسيين على الخراج كانوا بالدرجة الأولى من العجم، كما أن انتشار الموالي والداخلين الجدد في الإسلام في البلدان الإسلامية المختلفة جعل الحاجة إلى الترجمة مهمة جداً في كثير من الأمور المتصلة بالقضاء وغيره، كما أن المفاوضات بين القواد الفاتحين وهم في الغالب من الولاة وبين أهل البلاد المفتوحة يحتاج إلى وجود المترجمين( ).

1- أوقات عمل الولاة:
لم يكن هناك تنظيم دقيق لوقت العمل في عهد الفاروق، فقد كان الخليفة والولاة يعملون في جميع الأوقات، وليس عليهم حجاب حتى إن بعضهم يقوم بالتجول ليلاً وقدوتهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اشتهر بالمشي ليلاً وتفقد المدينة، وقد كان الناس يدخلون على الولاة في مختلف الأوقات ويقضون حاجاتهم دون أن يجد الناس من يمنعهم من الدخول على الولاة بحجة أن ذلك الوقت ليس وقت عمل، وقد اشتهر الولاة بحرصهم على إنجاز الأعمال أولاً بأول وعدم تأخيرها، وقد كتب عمر بن الخطاب في هذا المجال إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قائلاً: لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد فتدال عليك الأعمال، فتضيع، وأن للناس لنفرة عن سلطانهم أعوذ بالله أن تدركني وإياكم وضغائن محمولة ودنيا مؤثرة وأهواء متبعة( ).

المبحث الثالث: متابعة الولاة ومحاسبة عمر لهم:

أولاً: متابعة الولاة:
لم يكن عمر يرضى بأن يهتم بحسن اختيار عماله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خيرُ لي أن أعزل كل يوم والياً من أن أبقي ظالماً ساعة نهار( )، وقال: أيما عامل لي ظلم أحداً فبلغني مظلمته فلم أغيرها، فأنا ظلمته( )، وقال يوماً لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليّ؟ فقالوا: نعم: قال: لا حتى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرته أم لا( ). وقد سار رضي الله عنه بحزم في رقابته الإدارية لعماله وتابعهم بدقة، وكانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشؤون المحلية وتقييده في المسائل العامة ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سري، مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أن ما يشبه اليوم (المخابرات) كان موجوداً عند عمر فقد كان علمه: بمن نأى عنه من عماله بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممس ومصبح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الناس إليه وأخصّهم( )، وكانت وسائل عمر في متابعتة لعماله متعددة منها:

1- طلب من الولاة دخول المدينة نهاراً:
كان رضي الله عنه يطلب من ولاته – القادمين إلى المدينة – أن يدخلوها نهاراً، ولا يدخلوها ليلاً، حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب( ).

2- طلب الوفود من الولاة:
كان عمر رضي الله عنه يطلب من الولاة أن يرسلوا وفوداً من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، وعن الخراج المفروض عليهم ليتأكد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم فكان يخرج إليه مع خراج الكوفة عشرة من أهلها، ومع خراج البصرة مثلهم، فإذا حضروا أمامه شهدوا بالله أنه مال طيب، ما فيه ظلم مسلم
ولا معاهد( )، وكان هذا الإجراء كفيلاً بمنع الولاة من ظلم الناس إذ لو حدث هذا لرفعه هؤلاء الموفدون إلى أمير المؤمنين وأخبروه به، كما أن عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين وسؤالهم عن بلادهم وعن ولا تهم وسلوكهم معهم( ).

3- رسائل البريد:
كان عمر رضي الله عنه يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد عندما يريد العودة إلى المدينة أن ينادي في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والي البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئاً من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحاً أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف ويقرأها عمر ويرى ما فيها( ).

4- المفتش العام (محمد بن مسلمة):
كان محمد بن مسلمة الأنصاري يستعين به الفاروق في متابعة الولاة ومحاسبتهم والتأكد من الشكاوى التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة، فكان يتحرى على حقائق أداء الولاة لأعمالهم، ومحاسبة المقصرين منهم، فقد أرسله عمر لمراقبة ومحاسبة كبار الولاة( )، والتحقيق في الشكايات ومقابلة الناس والسماع منهم ونقل آرائهم عن ولاتهم إلى عمر مباشرة، وكان مع محمد بن مسلمة أعوان.

5- موسم الحج:
كان موسم الحج فرصة لعمر ليستقي أخبار رعيته وولاته، فجعله موسماً للمراجعة والمحاسبة واستطلاع الآراء في شتى الأنحاء؛ فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، ويفد فيه الرقباء الذين كان عمر يبثهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال والولاة ويأتي العمال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحج ((جمعية عمومية كأرقى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور( )، وكان عمر يلخص في موسم الحج واجبات عماله أمام الرعية ثم يقول: فمن فعل به غير ذلك فليقم )) فما قام من أهل الموسم – آنذاك – أحد إلا رجل
واحد – مما يدل على عدالة هؤلاء الولاة ورضا الرعية عنهم – فقال ذلك الرجل: إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط؛ فسأل عمر العامل فلم يجد عنده جواباً، فقال للرجل قم فاقتص منه فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر، ويكون سُنَّة يأخذ بها بعدك، فقال عمر: أنا لا أقيد
– أي اقتص – وقد رأيت رسول الله  يقيد من نفسه؟ فقال عمرو: فدعنا فلنرضه، فقال: دونكم فأرضوه، فافتدى العامل من الرجل بمائتي دينار، كل سوط بدينارين( ).

6- جولة تفتيشية على الأقاليم:
كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصياً لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا( )، وقد طبق عمر شيئاً من هذا خصوصاً في ولاية الشام حيث سار إليها عدة مرات وتفقد أحوالها ودخل بيوت ولاتها وأمرائها( )، ليعرف أحوالهم عن كثب فقد دخل دار أبي عبيدة وشاهد حالته وتقشفه ودار بينه وبين امرأة أبي عبيدة حوار شديد ألقت فيه اللوم على عمر نتيجة ما يعيشون فيه من تقشف، كما زار دار خالد بن الوليد ولم يجد عنده شيئاً يلفت النظر سوى أسلحته التي كان منشغلاً بإصلاحها، وقد كان عمر أثناء دخوله على هؤلاء يدخل فجأة إذ يصحبه رجل فيطرق الباب على الوالي فيتكلم الرجل ويطلب الأذن بالدخول له ولمن معه دون أن يعلموا أنه عمر وحينما يدخل عمر إلى الدار يقوم بالتمحيص فيها والاطلاع على ما فيها من أثاث( )، وقد سمع عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان ينوع في طعامه،فانتظر حتى إذا حان وقت عشاء يزيد استأذن عليه عمر، فلما رأى طعامه نهاه عن الإسراف في الطعام( )، ولم يكتف عمر بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات بل عمد إلى طريقة أخرى وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها فأرسل إلى أبي عبيدة بخمسمائة دينار فعمد إليها أبو عبيدة فقسمها كلها فكانت امرأته تقول: والله لقد كان ضرر دخول الدنانير علينا أكثر من نفعها ثم إن أبا عبيدة عمد إلى خلق ثوب كنا نصلي فيه فيشققه، ثم جعل يصبّر فيه من تلك الدنانير الذهب ويبعث بها إلى مساكين، فقسمها عليهم حتى فنيت( )، وعمل عمر الشيء نفسه مع ولاة آخرين في سفرته تلك إلى الشام، ولم يكتف عمر بمراقبته للعمال أثناء سفره، بل كان يستقدمهم إلى المدينة ثم يوكل من يراقبهم في أكلهم وشربهم، ولباسهم، ويفعل ذلك بنفسه أيضاً( ).

7- الأرشيف أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة:
كان عمر رضي الله عنه حريصاً كل الحرص على حفظ الأوراق الخاصة بالولايات وبالخلافة عموماً وكان أكثر حرصه على حفظ المعاهدات التي يجريها الولاة مع أهل البلاد المفتوحة منعاً لظلم أحد، فقد ورد أنه كان هناك تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، ويمكننا أن نطلق على هذا التابوت (الأرشيف) أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة، ولعل الولاة أيضاً كانوا يحتفظون بأوراقهم ومكاتباتهم للعودة إليها عند الحاجة وحتى لا تلتبس عليهم الأمور( ).

ثانياً: شكاوى من الرعية في الولاة:
كان عمر رضي الله عنه يحقق بنفسه في شكاوى الرعية ضد ولاتهم وكان يحرص على استيضاح الأمر، والتحقيق الدقيق واستشارة أصحاب الرأي والشورى الذين كانوا من حوله، ثم كانت تأتي أوامره في تنفيذ الجزاء والعقوبة على من يستحق سواء أكان عاملاً أم من الرعية( )، وهذه بعض الشكاوى ضد الولاة وكيف تعامل عمر معها رضي الله عنه:
1- شكوى أهل الكوفة في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً رحيماً بالرعية قوياً حازماً على أهل الباطل والشقاق، عطوفاً على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شغب عليه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق ويريدون أن يحققوا شيئاً من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتاً رأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث كان المسلمون مقبلين على معركة مصيرية تستدعي اتفاق كلمة المسلمين وتظافر جهودهم في مواجهتها، وحيث كانوا يعلمون اهتمام عمر الشديد باجتماع كلمة المسلمين دائماً، وخاصة في مثل تلك الظروف، فرجوا أن يفوزوا ببغيتهم، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مع علمه بأنهم أهل هوى وشر، ولم يكتمهم اعتقاده فيهم، بل صرّح لهم بذلك، وبين لهم أن اعتقاده بظلمهم لواليهم وتزويدهم الحقائق لا يمنعه من التحقيق في أمرهم، واستدل على سوء مقصدهم بتوقيتهم السيء حيث قال لهم: إن الدليل على
ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعدّ لكم من استعدوا،، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم( )، فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع، وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شُكي زمان عمر فقدم محمد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوَّف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شانهم إذ ذاك( ).
وفي هذا بيان لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسؤولين ومن تحت ولايتهم، فالتحقيق يتم في العلن، وذلك بحضور المسؤول والذين هو مسؤول عنهم وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيراً ولا نشتهي به بدلاً، ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءاً، ولا يسوغ لهم، ويتعمَّدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بني عبس. فقال محمد: أنشد بالله رجلاً يعلم حقاً إلا قال، قال أسامة بن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، فقال سعد: اللهم إن كان قالها كذباً ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرِّضه لمضلات الفتن، فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه، قال: دعوة سعد الرجل المبارك. قال: ثم أقبل – يعني سعد – على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً وكذباً فاجهد بلاءهم، فجُهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط، وشُدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء – يعني الضرب – بنعال السيوف – يعني بأعقابها – هذا وإن في هذا الخبر نموذجاً من معية الله تعالى لاوليائه المتقين حيث استجاب الله تعالى دعوة سعد على من ظلموه فأصيبوا جميعاً بما دعا عليهم، وإن في استجابة الله تعالى دعاء سعد وأمثاله لوناً من العناية الإلهية بأولياء الله المتقين، فكم خاف المبطلون من هذا السلاح الخفي الذي لا يملكون بكل وسائلهم المادية مقاومته ولا الحدَ منه، وكون هؤلاء الذين دعا عليهم سعد خُتم لهم بالخاتمة السيئة دليل على تمكن الهوى والشر من نفوسهم حتى أدى بهم ذلك إلى المصير السيء، وقد دافع سعد عن نفسه فقال: إني لأول رجل أهرق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي – يعني حينما قال له يوم أحد: إرم فداك أبي وأمي – ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أن أصلي وأن الصيد يلهيني، وخرج محمد بن مسلمة به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد ويحك كيف تصلي؟ قال: أطيل الأُوليين وأحذف الأخريين، فقال هكذا الظن بك، ثم قال عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيِّنا، ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقره واستعمله( ) وقول عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط كان سبيلهم بينا يعني قد اتضح أمرهم، وأنهم ظالمون جاهلون، وظهرت براءة سعد مما نسبوه إليه، ولكن الاحتياط لأمر الأمة يقتضي درء الفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل فتسبَّب الشقاق والفرقة وربما القتال، وإذا كان المسئول المدَّعى عليه بريئاً مما نُسب إليه، فإن ذلك لا يضره بشيء، وقد برئت ساحته مما نسب إليه من التهمة، وقد كانوا يفهمون الولاية مغرماً لا مغنماً، وتكليفاً يرجون به ثواب الله تعالى، فالولاية على أمر من أمور المسلمين نوع من الأعمال الصالحة لمن اتقى الله تعالى وأراد رضوانه والدار الآخرة، فإذا تحول هذا العمل إلى مصدر للفتنة فإن الحكمة تقتضي عدم الاستمرار فيه، كما هو الحال في هذه الواقعة، ولكل حادث حديث وهذا هو ما أقدم عليه عمر حينما أعفى سعداً من العمل، وكلّف نائبه الذي هو موضع ثقة سعد( ).
هذا وقد استبقى عمر سعداً رضي الله عنهما في المدينة وأقر من استخلفه سعد على الكوفة بعده، وصار سعد من مستشاري عمر في المدينة( )، ثم جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعداً (فإني لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك( ).
2- شكاوى ضد عمرو بن العاص والي مصر:
كانت مراقبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص صارمة وحازمة وكان الخليفة الفاروق يتدخل في شئون الولاية المختلفة وحتى عندما اتخذ عمرو بن العاص منبراً كتب إليه: أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك فعزمت عليك إلا
ما كسرته( )، وكان عمرو بن العاص يخشى مراقبة عمر بن الخطاب ويعلم مدى حرصه على إقامة العدل بين الناس، وعلى إقامة الحدود الشرعية، فكان يبذل جهده حتى لا يصل إلى عمر من الأخبار إلا ما يسره ومن ذلك أن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ورجلاً آخر شربا شراباً دون أن يعلما أنه مسكر فسكرا، ثم إنهما جاءا إلى عمرو بن العاص يطلبان منه أن يقيم عليهما الحد فزجرهما عمرو وطردهما، فقال له عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبي قال عمرو: فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني، ثم إن عمرو جلدهما أمام الناس وحلق رأسيهما داخل بيته، وكان الأصل العقاب بالحلق مع الجلد في وقت واحد أمام الناس، فجاءه كتاب من عمر يعنفه على عدم حلقه أمام الناس، وكان فيه: تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك وقد عرفت أن هذا يخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه( ).
وقد وجهت ضد عمرو بن العاص بعض الشكاوى أثناء ولايته بعضها من جنوده المسلمين، وبعضها من أهل البلاد من الأقباط، مما دعا عمر رضي الله عنه إلى استدعاء عمرو بن العاص عدة مرات، لمعاتبته بل وأحياناً لمعاقبته على ما بدر منه، ومن ذلك ما تقدم به أحد المصريين ضد ابن لعمرو بن العاص ضربه بالسوط، مما جعل عمر بن الخطاب يستدعي عمرو وابنه ثم يأمر المصري بالقصاص من
ابن عمرو بن العاص ويقول له: لو ضربت أباه عمرو لما حلنا بينك وبين ذلك، والتفت عمر إلى عمرو بن العاص وقال قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً( )، وكذلك يدخل في هذا الباب ما تقدم به أحد الجنود من أن عمرو بن العاص اتهمه بالنفاق وكتب معه عمر إلى عمرو بن العاص أمراً بأن يجلس عمرو أمام الناس فيجلده إذا ثبت صدق ما ادعاه بشهادة شهود، وقد ثبت بالشهادة أن عمرو رماه بالنفاق، فحاول بعض الناس أن يمنع الرجل من ضرب عمرو وأن يدفع له الأرش مقابل الضرب، ولكنه رفض ذلك، وعندما قام على رأس عمرو ليضربه سأله: هل يمنعني أحد من ضربك؟ فقال عمرو: لا فامض لما أمرت به، قال: فإني قد عفوت عنك( ).

3- شكاوى ضد أبي موسى الأشعري والي البصرة:
عن جرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية، في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً وحلقه، فجمع الرجل شعره ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل على عمر بن الخطاب، قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر ثم قال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدق والله لولا النار فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره، وقال ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه، فقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، فأحب إلي من جميع ما أفاء الله علينا، فكتب عمر إلى أبي موسى: السلام عليك أما بعد فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس، حتى يقتص منك وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتص منك، فقدم الرجل، فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا والله لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم إني قد عفوت عنه( )، وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: كنا مع عمر في مسير فأبصر رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا، فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فبكى وبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما شأنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت الخمر، فضربني أبو موسى وسود وجهي، وطاف بي، ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيك فتحولني إلى بلد لا أعرف فيه، أو




...........................يتبع










رد مع اقتباس
قديم 2012-08-01, 15:39   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي

الجزء 17



ألحق بأرض الشرك، فبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك وأن لي كذا وكذا، وقال: إن كنت ممن شرب الخمر، فلقد شرب الناس الخمر في الجاهلية، ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلاناً أتاني فذكر كذا وكذا، فإذا أتاك كتابي هذا فأمر الناس أن يجالسوه وأن يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته، وكساه وأمر له بمائتي درهم( )، وجاء في رواية: إن فلاناً بن فلان التميمي أخبرني بكذا وكذا، وايم الله لئن عُدت لأسودنّ وجهك وليطاف بك في الناس، فإن أردت أن تعلم أحقًّ ما أقول فعد وأمُر الناس فليؤاكلوه وليجالسوه، وإن تاب فاقبلوا شهادته وكساه عمر رضي الله عنه حُلّة وحمله، وأعطاه مائتي درهم( )، وهذه القصة فيها حرص الفاروق على ألا يتعدى أحدٌ من عماله العقوبات الشرعية عند معاقبة العاصين( ).
4- شكوى أهل حمص ضد سعيد بن عامر:
قال خالد بن معدان: استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر الجُمحي، فلما قدم عمر حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يقال لأهل حمص الكوفية الصغرى لشكايتهم العمال، قالوا: نشكوه أربعاً، لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال عظيمة وماذا؟ قالوا: يَغْنَط الغَنْطَة بين الأيام (أي يغمى عليه ويغيب عن حسه) فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تفيّل رأيي فيه اليوم، وافتتح المحاكمة فقال لهم أمامه: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: ما تقول؟ قال: والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم فقال: ما تشكون منه؟ قالوا:
لا يجيب أحداً بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجفّ ثم أدلكها ثم أخرج إليهم آخر النهار قال: ما تشكون منه، قالوا: يَغْنط الغنطة بين الأيام قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة فقالوا، أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال، والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً  يشتاكُ شوكة ثم نادى يا محمد فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، ففرَّقها( ).

5- عزل من استهزأ بأحد أفراد الرعية:
قال قيس بن أبي حازم رحمه الله: استعمل عمر –رضي الله عنه- رجلاً من الأنصار فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بن حيان بن بقيلة، فأمال عليه بالطعام والشراب
ما دعا به، فاحتبس الهزل( )، فدعا الرجل فمسح بلحيته، فركب إلى عمر –رضي الله عنه- فقال يا أمير المؤمنين، قد خدمت كسرى وقيصر فما أُتي إليّ ما أتي في ملكك، قال: وما ذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلان فأمَلْنا عليه بالطعام والشراب، ما دعا به فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي، فأرسل إليه عمر –رضي الله عنه- فقال: هيه؟! أمال عليك بالطعام والشراب ما دعوت به، ثم مسحت بلحيته؟ والله لولا أن تكون سنة ما تركت في لحيتك طاقة إلا نتفتها، ولكن اذهب فوالله لا تلي لي عملاً أبداً( ).

ثالثاً: العقوبات التي نزلت بالولاة في عهد عمر رضي الله عنه:
نتيجة لمراقبة الفاروق لولاته لاحظ وجود بعض الأخطاء التي وقع فيها الولاة، فقام بتأديبهم ومعاقبتهم على هذه الأخطاء التي وقعوا فيها وقد اختلفت طرق تأديب الولاة حسب اختلاف الأحداث وحسب ما يراه الخليفة ومن أهم أساليب الولاة:

1- القود من الأمراء والاقتصاص منهم لو أخطأوا:
وقد كان عمر يقول: ألا وأني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلمونكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنه( )، ولم يكتف عمر بالبيانات الرسمية التي تهدد الولاة وتمنعهم من الاعتداء على الناس بل إنه طبق ذلك عملياً، كما مر معنا فيمن اشتكى من أبي موسى الأشعري، واشتكى من عمرو بن العاص رضي الله عنهم( ).

2- عزل الوالي نتيجة وقوعه في الخطأ:
وقد قام الفاروق رضي الله عنه بعزل الولاة نتيجة وقوعهم في أخطاء لا يرتضيها، فقد عزل رضي الله عنه أحد الأمراء نتيجة تدخله فيما لا يعنيه في شئون أجناده حيث بعثه على جيش، فلما نزل بهم قال: عزمت عليكم لما أخبرتموني بكل ذنب أذنبتموه فجعلوا يعترفون بذنوبهم فبلغ ذلك عمر فقال: ما له لا أم له، يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً( )، كما غضب عمر من أحد الولاة حينما بلغه بعض شعره وهو يتمثل فيها بالخمر فعزله( ).

3- إتلاف شيء من مساكن الولاة:
وهو ما يقع فيه المخالفة، فقد كان عمر رضي الله عنه يحرص على أن تكون بيوت الولاة بدون أبواب، وبدون حجاب، فلما بلغه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قد وضع بابا لداره بعث إليه محمد بن مسلمة وأمره بإحراق ذلك الباب( )، وكان سبب ذلك الباب قرب الأسواق من داره، وكانت الأصوات مرتفعة بالسوق تؤذي سعداً، فوضع بابا يحجز عنه أصوات الناس بالسوق، وبلغ ذلك أسماع عمر عن دار سعد وبابه، وأن الناس يسمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك، فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطباً ثم أتى به القصر، فأحرق الباب( )، وروى ابن شبة: أن عمر استعمل مجاشع بن مسعود على عمل فبلغه أن امرأته تجدد بيوتها فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى مجاشع بن مسعود سلام عليك أما بعد فقد بلغني أن الخضيراء تحدث بيوتها، فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها، قال: فأتاه الكتاب والقوم عنده جلوس فنظر في الكتاب، فعرف القوم أنه قد أتاه بشيء يكرهه، فأمسك الكتاب بيده ثم قال للقوم: انهضوا فنهضوا: والله ما يدرون إلى
ما ينهضهم، فانطلق بهم حتى أتى باب داره فدخل فلقيته امرأته فعرفت الشر في وجهه فقالت له: مالك؟ فقال إليك عني قد أرمقتني( )، فذهبت المرأة، وقال للقوم: ادخلوا، فدخل القوم، فقال: فليأخذ كل رجل منكم ما يليه من هذا النحو واهتكوا، قال فهتكوا جميعاً حتى ألقوها إلى الأرض والكتاب في يده لم يضعه بعد وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام دعاه يزيد بن أبي سفيان إلى الطعام فلما دخل عمر البيت وجد فيه بعض الستائر، فأخذ عمر يقطعها ويقول: ويحك أتلبس الحيطان
ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحر والبرد( ).

3- التأديب بالضرب:
فقد استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث اشتهر عنه حمل الدرة، وضربه بها وقد ضرب بعض الولاة، بسبب حوادث اقترفوها، ففي أثناء زيارة عمر إلى الشام دخل على بعض ولاته فوجد عندهم بعض المتاع الزائد، فغضب عمر وأخذ يضربهم بالدرة( )، وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام لقيه الأمراء، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة، ثم خالد على الخيول، عليهم ثياب فاخرة لا تليق بالمجاهدين فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم مذ سنتين وبالله ولو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنها يلاقة وإن علينا السلاح، قال فنعم إذن( ).

4- خفض الرتبة من وال إلى راعي غنم:
وقد استعملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أحد ولاته، روى ابن شبة: أن عمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حماماً واتخذ نوّاباً( )، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له ودعا بجبة صوف، فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها فلما جازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب، حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه فقال انزع عليها فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نواباً واتخذت حماماً أتعود قال: لا قال: ارجع إلى عملك( )، وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياض بعد ذلك من أفضل عمّال عمر رضي الله عنه( ).

5- مقاسمة الولاة أموالهم:
وكان تطبيق هذا النظام أمراً احتياطياً في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث شعر عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة فخشي أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من هذه الأموال بسبب ولايتهم( ) وقد علق ابن تيمية على فعل عمر هذا فقال: وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقات والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من عماله من كان له فضل ودين، لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك، لأنه كان إمام عدل، يقسم بالسوية ( ) وقد قام عمر رضي الله عنه بمشاطرة أموال عماله منهم، سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكان رضي الله عنه يكتب أموال عماله، إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم( ) وقد قام أيضا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذا
ما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إني لم آلِ لك عملاً؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال وعشور الأبلة، فهو يقرضك المال تتجر به( ).

6- التوبيخ الشفوي والكتابي:
وقد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاتبة الأمراء على تصرفاتهم أثناء اجتماعهم به، حيث إنه عاتب عمرو بن العاص مرات، كما عاتب عياض بن غنم، وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الأمراء( ) وأما المعاتبة الكتابية في خلافة عمر فهي كثيرة، منها: أنه كتب إلى أحد الولاة، وكان قدم عليه قوم فأعطى العرب وترك الموالي: أما بعد فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم والسلام( ).
ومن هذا كله نجد أن الولاة لم يكونوا بمنأى عن المحاسبة والتأديب بصور مختلفة، ولم تشهد البشرية مثيلاً لها في عدلها وجرأتها، مما جعل هذا العصر الراشدي بحق نموذجاً رفيعاً للحضارة الإسلامية بعد عصر الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام( ) هذا وقد كانت حرية النقاش وبحث المشاكل بين الخليفة وولاته مكفولة إلى أقصى ما يمكن تصوره من حرية النقاش، لا يرهب الوالي سلطان الخليفة وهذا مثال على ذلك: عندما قدم عمر على الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم فلما رأى معاوية عمر نزل من على صهوة جواده، ومشى إليه، وقال: السلام على أمير المؤمنين، فمضى عمر، ولم يرد عليه سلامه، ومعاوية يسرع خلف جمل عمر وكان معاوية سميناً، فلهث. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أتعبت الرجل، فلو كلمته: فالتفت إليه عمر وقال يا معاوية، أأنت صاحب الموكب الذي أرى. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: نعم يا أمير المؤمنين. قال: لم ويحك؟ قال معاوية: لأننا ببلاد كثر بها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف من الابتذال وجرأة الرعية. وأنا بعد عاملك، إن استوقفتني وقفت، وإن نهيتني انتهيت يا أمير المؤمنين. قال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه، إن كنت صادقاً فإنه رأى لبيب، وإن كنت كاذباً فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك، وانصرف عنه( ).
ورغم شدة عمر على ولاته ودقته في محاسبتهم وإقدامه على عزل من تحوم حوله شبهة أو تثور في حقه شكاية ذات أثر، فإن رابطة قوية من الحب والولاء كانت تربطه بولاته الذين كانوا يثقون ثقة مطلقة في إخلاص خليفتهم وسلامة مقاصده وسياسته وتجرده وعدله، لقد كان عمر إذا غابت عنه أخبار بعض قادته في ساحات الجهاد يكاد يقتله القلق ويستبد به الخوف والشفقة عليهم، وكان في بعض الحروب الكبرى يخرج بنفسه يتنطّس الأخبار، ويتحسس الأنباء علّه يطمئن عليهم، وفي حالات أخرى كان يلتقي بهم فنجد أمارات الحب العميق بينهم،فلما سار عمر لفتح بيت المقدس وانتهى إلى الجابية لقيه قائداه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فوافقا عمر راكباً، فقبّلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما( ).

رابعاً: قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه:
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالاً واسعاً لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما يتناقله الرواة وتسطره كتب المؤلفين وقد تعرَّض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيد ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهم وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه( ) وإليك قصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف أو تزوير للحقائق، فقد مرّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.
1- العزل الأول:
عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشر من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديق عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة، فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية ا لتصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده أو بيد عماله وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة، وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائماً في رعيتهم( )، وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد رضي الله عنهم جميعاً: أن لا يعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمره، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه بعزله( )، ولكنّ الصديق أقرّ خالداً على عمله( )، ولما تولى الفاروق الخلافة، كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره، وعليهم التنفيذ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعن عمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. فلما تولى الخلافة خطب الناس، فقال: إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبي فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم( )، وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟( )، فعندما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر رضي الله عنه إلى منهجه وسيرته، فرضي بعضهم وأبى آخرون وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد( )، فعن مالك بن أنس، أن عمر لما ولي الخلافة كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه، فعزله( )، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء فيأبى عليه( ).
فعزل عمر خالداً من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شؤون الدولة ومسؤوليته عنها، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيء غريب يحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء، وميول وأهواء ونزعات، فعمر بن الخطاب خليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النبوة له من الحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه في الحكم ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة، فليس لعامل ولا قائد أن يتأبد في منصبه، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم والولاة ما كان هناك من يغني غناءه ويجزي عنه، وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر رضي الله عنه كان موفقاً أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النظير، فعزل وولى، فلم يكن من ولاّه أقل كفاية ممن عزله، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية التي قامت على أن تضمن دائماً للأمة رصيداً مذخوراً من البطولة والكفاية السياسية الفاضلة( ) وقد استقبل خالد هذا العزل بدون اعتراض وظل رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتى فتح الله عليه قنسرين فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه فقال عمر قولته المشهورة: أمّر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني( )، ويعني عمر بمقولته هذه أن خالداً فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك
أبي بكر بخالد وعدم موافقته على عزله برغم الإلحاح عليه إنما كان عن يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم( ).
هذا وقد عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات فلم يعرف عنه أنه اختلف عليه مرة واحدة، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادث على خالد فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته والأخذ بمشورته وإعظامه لآرائه وتقديمه في الوقائع التي حدثت بعد إمارته الجديدة، أحسن الأثر في صفاء قلبه صفاء جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة وعمله في فتح دمشق وقنسرين وفحل شاهد صدق على روحه السامية التي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد( )، ويحفظ لنا التاريخ ما قاله
أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: .. وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخوان وقوّام بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم( ) وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته، أجابه خالد قائلاً: أنا لها إن شاء الله تعالى وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني، فقال أبو عبيدة: استحيت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيماناً وأسبق إسلاماً، سبقت بإسلامك مع السابقين وأسرعت بإيمانك مع المسارعين، وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك وأنال درجتك والآن أشهدك أني قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبداً، ولا وليت إمارة بعدها أبداً ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل اتبع قوله بالفعل وقام على الفور بتنفيذ المهمة المطلوبة منه( )، ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا، أن الوازع الديني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرفات خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم وقد بقي خالد محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة والوالي بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرت من حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش( ).
إن عزل خالد في هذه المرة (الأولى)، لم يكن عن شك من الخليفة ولا عن ضغائن جاهلية، ولا عن اتهامه بانتهاك حرمات الشريعة ولا عن طعن في تقوى وعدل خالد، ولكن كان هناك منهجان لرجلين عظيمين، وشخصيتين قويتين كان يرى كل منهما ضرورة تطبيق منهجه، فإذ كان لابد لأحدهما أن يتنحى فلابد أن يتنحى أمير الجيوش لأمير المؤمنين؛ من غير عناد ولا حقد وضغينة( ).
إن من توفيق الله تعالى للفاروق تولية أبي عبيدة رضي الله عنهم لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركة اليرموك كان يحتاج إلى المسالمة واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح وتقريب القلوب فأبو عبيدة رضي الله عنه يسرع إلى المسالمة إذا فتحت أبوابها ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك وإلا فالاستعداد للقتال على أهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشامية يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على غيره، فولاية أبي عبيدة سنة عمرية وكانت ولايته للشام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها( ).

2- العزل الثاني:
وفي (قنسرين) جاء العزل الثاني لخالد، وذلك في السنة السابعة عشرة( )، فقد بلغ أمير المؤمنين أن خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم وتوغلا في دروبهما ورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه منهم الأشعث بن قيس الكندي فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله( )، فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقاً واستقدمه المدينة، وتمّ استجواب خالد وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالد أن يكون مدّ يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشر آلاف( ) ولما علم خالد بعزله ودّع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية( )، وعسلاً عزلني فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير، فإنها الفتنة فقال: خالد: أما
وابن الخطاب حي فلا( )، وهذا لون من الإيمان القاهر الغلاب، لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد : فأية قوة روحية سيطرت على أعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئ الحكيم( ).
سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمرية، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن والثورات الهدّامة وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناء والتشييد، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرور المفتون( ).
ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمتلاً:

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع
وما يصنع الأقوام فالله يَصنعُ( )

وقال خالد لعمر: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مُجمل
يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسُّهمان، ما زاد على الستين ألفاً فلك، فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء( )، وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سُخطة
ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة( ).

3- مجمل أسباب العزل وبعض الفوائد:
ومن خلال سيرة الفاروق يمكننا أن نجمل أسباب عزل خالد رضي الله عنه في الأمور التالية:

- حماية التوحيد: ففي قول عمر رضي الله عنه: ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، يظهر خشية عمر من فتنة الناس بخالد وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد؛ فيضعف اليقين بأن النصر من عند الله سواء كان خالد على رأس الجيوش أم لا، وهذا الوازع يتفق مع حرص عمر علىصبغ إدارته للدولة العقائدية الخالصة وبخاصة وهي تحارب أعداءها حرباً ضروساً متطاولة باسم العقيدة وقوتها، وقد يقود الافتتان بقائد كبير مثل خالد خالداً نفسه إلى الافتتان بالرعية وأن يرى نفسه يوماً في مركز قوة لا يرتقي إليها أحد، وبخاصة أنه عبقري حرب ومنفق أموال، فيجر ذلك عليه وعلى الدولة أمر خُسْر، وهو إن كان احتمالا بعيداً في ظل ارتباط الناس بخليفتهم عمر وإعجابهم به، وفي ظل انضباط خالد العسكري وتقواه، فقد يحدث يوماً ما بعد عمر، ومع قائد كخالد، مما يستدعي التأصيل لها في ذلك العصر ومع أمثال هؤلاء الرجال( )، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف من قائد صغير لم يُبْلِ أحسن البلاء ولم تتساير بذكره الأنباء( ).
وقد أشار شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله إلى تخوف عمر فقال في عمريته في الديوان:
وقيل خالفت يا فاروق صاحبنا
فيه وقد كان أعطى القوس باريها

فقال خفت افتتان المسلمين به
وفتنة النفس أعيت من يداويها( )

- اختلاف النظر في صرف المال:
كان عمر يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعفاء العقيدة بالمال والعطاء، قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلى إيمانهم وضمائرهم، حتى تؤدي التربية الإسلامية رسالتها في تخريج نماذج كاملة، لمدى تغلغل الإيمان في القلوب، بينما يرى خالد أن ممن معه من ذوي البأس والمجاهدين في ميدانه من لم تخلص نيتهم لمحض ثواب الله، وأن أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقوي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال( )، كما أن عمر كان يرى أن ضعفة المهاجرين أحق بالمال من غيرهم، فعندما اعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس( )،
ولا شك أن عمر وخالداً مجتهدان فيما ذهبا إليه ولكن عمر أدرك أموراً لم يدركها خالد رضي الله عنهما( ).

- اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة:
فقد كان عمر يصر على أن يستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة، بينما يرى خالد أن من حقه أن يُعطى الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي وتطلق يده في كل التصرفات إيماناً منه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب( ).
ولعل من الأسباب أيضاً، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتى تتوفر في المسلمين نماذج كثيرة من أمثال خالد والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أن النصر ليس رهناً برجل واحد( )، مهما كان هذا الرجل.

- موقف المجتمع الإسلامي من قرار العزل:
تلقى المجتمع الإسلامي قرار العزل بالتسليم لحق الخليفة في التولية والعزل، فلم يخرج أحد عن مقتضى النظام والطاعة والإقرار للخلافة بحقها في التولية والعزل وقد روي أن عمر خرج في جوف الليل فلقي عَلْقَمة بن عُلاثة الكلابي، وكان عمر يشبه خالداً إلى حد عجيب، فحسبه علقمة خالداً، فقال: يا خالد عزلك هذا الرجل، لقد أبى إلا شحّاّ حتى لقد جئت إليه وابن عم لي نسأله شيئاً، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً، فقال له عمر يستدرجه ليعلم ما يخفيه: هيه! فما عندك؟ قال: هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم، وأجرنا على الله، فلما أصبحوا قال عمر لخالد وعلقمة مشاهد لهما: ماذا قال لك علقمة منذ الليلة؟ قال خالد: والله ما قال شيئاً، قال عمر: وتحلف أيضاً؟ فاستثار ذلك علقمة وهو يظن أنه ما كلم البارحة إلا خالداً، فظل يقول: مَهْ يا خالد؛ فأجاز عمر علقمة وقضى حاجته، وقال لأن يكون من ورائي على مثل رأيك يعني حرصه على الطاعة لولي الأمر وإن خالفه أحب إليّ من كذا وكذا( )، وهذا وقد جاء اعتراض من أبي عمرو بن حفص بن المغيرة بن عم خالد بن الوليد بالجابية، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان، فنزعته وأمّرت
أبا عبيدة بن الجراح. فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب، لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله ، وغمدت سيفاً سله رسول الله ، ووضعت لواء نصبه رسول الله ، ولقد قطعت الرحم وحسدت
ابن العم. فقال عمر بن الخطاب: إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك( )، وهكذا اتسع صدر الفاروق لابن عم خالد بن الوليد، وهو يذب عن خالد حتى وصل دفاعه إلى دعوى اتهامه للفاروق بالحسد، ومع ذلك ظل الفاروق حليماً( ).

4- وفاة خالد بن الوليد وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت:
دخل أبو الدرداء على خالد في مرض موته، فقال له خالد: يا أبا الدرداء، لئن مات عمر، لترين أموراً تنكرها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك. فقال خالد: قد وجدت عليه في نفسي في أمور، لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي، حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، ولكنه فعل ذلك بغيري من أهل السابقة، وممن شهد بدراً، وكان يغلظ علي، وكانت غلظته على غيري نحواً من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابته، فرأيته لا يبالي قريباً ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الذي ذهب عني ما كنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده، وما كان ذلك إلا على النظر: فقد كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهداً وكان غائباً، فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري( )، ولما حضرته الوفاة وأدرك ذلك، بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتّها وأنا متترس والسماء تنهل عليَّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي( )، وأوصى خالد أن يقوم عمر على وصيته وقد جاء فيها: وقد جعلت وصيتي وتركتي وإنفاذ عهدي إلى عمر بن الخطاب، فبكى عمر رضي الله عنه فقال له طلحة بن عبيد الله: إنك وإياه كما قال الشاعر:

لا ألفينَّك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زوّدتني زادي( )

فقد حزن عليه الفاروق حزناً شديداً، وبكته بنات عمه، فقيل لعمر أن ينهاهنَّ، فقال: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة، على مثل أبي سليمان تبكي البواكي( )


............يتبع











رد مع اقتباس
قديم 2012-08-01, 15:50   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي

الجزء 18



وقال عنه: قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة( )، وعندما دخل على الفاروق هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم، وكان هشام شاعراً، فقال له عمر: أنشدني ما قلت في خالد، فلما أنشده قال له: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضاً لمقت الله ثم تمثل بقول الشاعر:
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي
تهيأ لأخرى مثلها فكان قدِ
ولا موت من قد مات بعدي بمخلدي

ثم قال: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه ولقد مات فقيداً وعاش حميدا( )ً ولقد رأيت الدهر ليس بقائل( ) هذا وقد توفي ودفن بحمص ببلاد الشام عام 21هـ( ) رحمه الله رحمة واسعة وأعلى ذكره في المصلحين.
الفصل السادس
فتوحات العراق والمشرق في عهد عمر رضي الله عنه

المبحث الأول: المرحلة الثانية من فتوحات العراق والمشرق:
تمثل الفتوحات في عهد الصديق رضي الله عنه في العراق بقيادة خالد بن الوليد المرحلة الأولى من الفتوحات الإسلامية التي انطلقت نحو المشرق وقد تم تفصيلها في كتابي:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استكملت الخطة على مراحل هذه إحداها:

أولاً: تأمير أبي عُبيد الثقفي على حرب العراق:
لما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم، ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يدي خالد من معظم أرض العراق ومالهم هناك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي ثم تتابع الناس في الإجابة( )، وكان سليط بن قيس الأنصاري قد استجاب لنداء عمر بعد أبي عبيد الثقفي وقال: يا أمير المؤمنين إنما كان عن هؤلاء الفرس إلى وقتنا هذا شقشقة من شقاشق الشيطان، ألا وإني قد وهبت نفسي لله أنا ومن أجابني من بني عمي ومن اتبعني( )، فكان لكلام سليط هذا أثر قوي في تشجيع الناس ورفع معنوياتهم وزيادة رغبتهم في جهاد الفرس، وطالبوا الخليفة أن يوليَ عليهم رجلاً من المهاجرين أو الأنصار فقال عمر: والله ما أجد لها أحق من الذي ندب الناس بدءاً ولولا أن سليطاً عجولٌ في الحرب لأمرته عليكم ولكن أبو عبيد هو الأمير وسليط هو الوزير فقال الناس سمعاً وطاعة( )، وجاء في رواية: وأمّر على الجميع أبا عبيد ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم. ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله ، وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب( )،وقد جاء في وصايا عمر رضي الله عنه لأبي عبيد الثقفي ما يأتي: (( اسمع من أصحاب رسول الله  وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً، بل اتئد، فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث( )، الذي يعرف الفرصة، ولا يمنعني أن أُؤَمّر سليطاً إلاّ سرعته إلى الحرب، والسرعة إلى الحرب إلاّ عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمَّرته( )، ثم قال: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجَبْرية، تقدم على قوم تجرّؤوا على الشر فَعَلِموه، وتناسو الخير فجهلوه: فانظر كيف تكون؟ واحرز لسانك، ولا تفشين سرّك، فإن صاحب السرّ ما يضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكره، وإذا لم يضبطه كان بمضيعة( ) ثم أمر المثنى بن حارثة أن يتقدم إلى أن يلحقه الجيش وأمره أن يستنفر( )، من حسنت توبته من المرتدين، فسار مسرعاً حتى وصل الحيرة، وكان عمر رضي الله عنه يتابع جبهات العراق والفرس والشام ويمد الجيوش بالإمدادات ويرسل لهم التعليمات، والأوامر، ويضع الخطط للمعارك ويشرف بنفسه على تنفيذها.
سار المسلمون إلى أرض العراق وهم سبعة آلاف رجل، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق فجهز عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر، جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق فقدم الكوفة، فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها أزرميدخت وفوضت بوارن أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له رستم بن فرّخزاد على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى آل كسرى فقبل ذلك. وكان رستم هذا منجماً يعرف النجوم وعِلْمها جيداً فقيل له ما حملك على هذا؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك فقال: الطمع وحب الشرف( ).

ثانياً: وقعة النمارق، ومعركة السقاطية بكسكر ومعركة باروسما:
1- وقعة النمارق 13هـ :
وقد كانت هذه المعركة عقب وصول أبي عبيد وتوّليه قيادة الجيوش من العراق، وكأنما أراد منها الفرس أن يرهبوا أبا عبيد، أول من انتدب، حتى يقهروا في نفسه إرادة الظفر ورغبة النصر، فأعدوا لها القوى الداخلية، وعبؤوا الجند، ولقوا فيها المسلمين من خلفهم ومن بين أيديهم ومن أمامهم: وكتبوا إلى دهاقين السودان أن يثوروا بالمسلمين، ودسّوا في كل رستاق رجلاً ليثور بأهله، فبعثوا جابان إلى الببهقّباذ الأسفل، ونَرْسِي إلى كسكر، وجنداً ليواقعوا المثنى.. وبلغ المثنى ذلك، فضم إليه مسالحه وحَذِر وخرج الدهاقين وتوالوْا على الخروج، وثار أهل الرساتيق وتتابعوا على الثورة، ونزل أبو عبيد والمثنى بخفّان، وتعبَّى، ثم كان اللقاء في النمارق.. وكان قتالاً شديداً هزم الله فيه أهل فارس وأُسر جابان القائد ومردانْشاه، وكان على المُجَنَّبة، وكانا معاً هما اللذان توليا أمر الثورة( )، وكان الذي أسر جابان مطر بن فضة التميمي وهو لا يعرفه، فخدعه جابان حتى تفلَّت منه بشيء فخلَّى عنه، فأخذه المسلمون فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه قائد الفرس وأشاروا عليه بقتله فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد أمّنه رجل مسلم، والمسلمون في التّواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم فقالوا: إنه الملك يعني القائد قال: وإن كان، لا أغدر، فتركه( ).

• وهذا الموقف من أبي عبيد الثقفي يعتبر مثالاً على سماحة المسلمين ووفائهم بالعهود وإن أبرمها بعض أفرادهم، ولا شك أن هذه الأخلاق العالية كان لها أثر كبير في اجتذاب الناس إلى الدخول في الإسلام، فحينما يتسامع الناس أن المسلمين أطلقوا أحد قادة الفرس الذين كانوا أسرع الناس في عدائهم لمجرد أنه اتفق مع أحد المسلمين على الفداء فإنهم ينجذبون إلى هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال.
• ولا ننسى موقف المثنى بن حارثة الرائع حيث استلم الإمارة أبي عبيد مع أنه يَقْدمُ العراق لأول مرة، لأن أمير المؤمنين أمّره عليه، فكان نعم القائد ونعم الجندي، وهذه من سجايا المثنى فقد فعل ذلك مع خالد بن الوليد من قبل ولم يختلف عطاؤه للإسلام في حالي القيادة والجندية، وهكذا يكون عظماء الرجال( ).
- معركة السّقّاطية بكَسْكَر:
ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم وقد لجأوا إلى مدينة كَسْكَر( )، وهي لابن خالة كسرى واسمه نَرْسي، فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فلقيهم أبو عبيد في السقاطية( )، فقهرهم، وغنم منهم شيئاً كثيراً وأطعمات كثيرة جداً( )، وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، ووجدوا في خزائنه شيئاً عظيماً ولم يكونوا بشيء أفرح منهم بشجر النّرسيان لأن (نَرْسي) كان يحميه ويمالئه عليهم ملوكهم فاقتسموه فجعلوا يطعمونه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها وأحببنا أن تروها ولتذكروا إنعام الله وإفضاله( ).
وفي هذا الخبر إشارة إلى نوع من الأخلاق الرفيعة لدى المسلمين حيث رفعوا من شأن الفلاحين المحرومين فأطعموهم من طعام ملوكهم الذي كان محرماً عليهم، فكأنهم بهذا يقولون لهم: تعالوا إلى هذا الدين العظيم الذي يرفع من شأنكم ويرد عليكم كرامتكم الإنسانية( ).
وأقام أبو عبيد بكسكر وبعث قوات لمطاردة الفرس وتأديب أهل القرى المجاورة الذين نقضوا العهد ومالأوا الفرس، ورجحت كفة المسلمين في المنطقة بعد هذا الانتصار جاء بعض الولاة يطلبون الصلح، وقدّم واليان منهم طعاماً خاصاً
لأبي عبيد من فاخر أطعمتهم فقالوا: هذه كرامة أكرمناك بها، وقِرىً لك، قال أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون، فقال أبو عبيد: فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند، وهابوا وخافوا على أنفسهم. فقال أبو عبيد: ألم أعلمكم أني لست آكلاً إلا ما يسع من معي ممّن أُصبتم بهم قالوا: لم يبق أحد إلا وقد أُتِيَ بشبعه من هذا في رحالهم وأفضل. فلما علم قبل منهم، وأكل وأرسل إلى قوم كانوا يأكلون معه أضيافاً عليه يدعوهم إلى الطعام، وقد أصابوا من نُزُل فارس ولم يروا أنهم أتوا أبا عبيد بشيء فظنّوا أنهم يُدعون إلى مثل ما كانوا يُدعون إليه من غليظ عيش أبي عبيد، وكرهوا ترك ما أتوا به من ذلك، فقالوا له: قل للأمير، إنّا
لا نشتهي شيئاً مع شيء أتتنا به الدهاقين، فأرسل إليهم: إنه طعام كثير من أطعمة الأعاجم، لتنظروا أين هو مما أتيتم به( ).
وهكذا أكل هذا الأمير الكريم المتواضع بعد ما ردّ طعام الأعاجم مرتين لما علم في الثالثة أنهم أطعموا جميع الجند مثلما أطعموه وأفضل ومع هذا لم يرض أن يأكل وحده حتى دعا أضيافه وألح عليهم، حتى بعد أن علم أنهم أصابوا من طعام الفرس وعدّد لهم أصناف هذا الطعام ليرغبهم في مشاركته، وهذا لون من الكرم الرفيع، والكرم من أهم عناصر الزعامة، وإن هذه المواقف ترشدنا إلى مقدار ما بلغ إليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم، بإحسان من الرقي الأخلاقي والتقدم الحضاري( ).

2- معركة بارُوسْما سنة 13هـ :
ثم التقوا بمكان بين كَسْكَر والسَّقاطية يقال له بارُوسما، وعلى ميمنة نَرْسي وميسرته ابنا خاله، بندويه وبيرويه وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس فلما بلغ أبا عبيد ذلك أعجل نرْسي بالقتال قبل وصولهم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الفرس وهرب نرسي، فبعث أبو عبيد، المثنى بن حارثة وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور ونحوها ففتحها صلحاً وقهراً، وضربوا الجزية والخراج وغنموا الأموال الجزيلة ولله الحمد وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصرة جابان وغنموا جيشه وأمواله وفرَّ هارباً إلى قومه حقيراً ذليلاً( ).
وهكذا تم القضاء على ثلاثة جيوش للفرس في مدة وجيزة وكان بإمكان الفرس أن يوحدوا هذه الجيوش وأن يأتوا المسلمين من أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم، لكثرة عددهم، ولكن الله أعمى بصائرهم وكانوا لشدة خوفهم من المسلمين يتمنى كل قائد أن يكفيه الآخر مهمة المواجهة وإضعاف المسلمين ليظفر بالنصر عليهم بعد ذلك، وقد أفاد المسلمين سرعة تحركهم وبطء حركة جيوش الأعداء( ).


ثالثاً: وقعة جسْر أبي عبيد 13هـ:

لما رجع الجالينوس هارباً مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا على رستم فأرسل جيشاً كثيفاً عليهم ذا الحاجب بهمن جاذويه، وأعطاه راية كسْرى وتسمى دِرَفْش كابيان (الراية العظمى) وكانت الفرس تتيمَّن بها، وكانت من جلود النمور وعرضها ثمانية أذرع في طول اثني عشر ذراعاً، فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر وعليه جسر، فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: مرهم فليعبروا هم إلينا، فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا. ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله، والمسلمون في نحو عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفْيلَة كثيرة عليها الجلاجل لتذعر خيول المسلمين، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ولا يثبت منها إلا القليل على قَسْر، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفِيلة، ورشقتهم الفرس بالنبل فنالوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف( )، وقد جفلت خيول المسلمين من أصوات الأجراس المعلقة بالفيلة، وصار المسلمون لا يستطيعون الوصول إليهم والفيلة تجوس خلالهم، فترجل أبو عبيد وترجل الناس معه، وتصافحوا معهم بالسيوف، وفقد المسلمون خيلهم فأصبحوا رجَّالة يقاومون سلاح الفيلة والفرسان والمشاة من الفرس، إلى جانب الرماة الذي أضرُّوا بالمسلمين وهم يدفعون بخيولهم نحوهم فلا تندفع، فكان موقفاً صعباً أظهر المسلمون فيه من البسالة والتضحية ما يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ، وصمدوا للفرس رغم تفوقهم عليهم في كل وسائل القتال، وكانت الفيلة أشد سلاح واجهه المسلمون فقد كانت تهدُّ صفوفهم، فناداهم أبو عبيد بأن يجتمعوا على الفيلة ويقطعوا أحزمتها ويقلبوا عنها أهلها، وبدأ هو بالفيل الأبيض فتعلق بحزامه وقطعه ووقع الذين عليه، وفعل المسلمون مثل ذلك، فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، ولكن الفيلة استمرت في الهجوم لأنها كانت مدربة، فرأى أبو عبيد أن يتخلص منها، فسأل عن مقاتلها، فقيل له إنها إذا قطعت مشافرها تموت، فهجم على الفيل الأبيض، ونفح خرطومه بالسيف فأتقاه، الفيل بيده وأطاح به ثم داسه بأقدامه، وأخذ الراية أخوه الحكم بن مسعود فقاتل الفيل حتى أزاحه عن أبي عبيد ولكن وقع له ما وقع لأبي عبيد، فقد أراد الحكم قتله، فألقاه بيده، ثم داسه بأقدامه، وانتقلت راية المسلمين إلى الذين سماهم أبو عبيد، ومنهم أبناؤه الثلاثة وهب ومالك وجبر، إلى أن قتلوا جميعاً فانتقلت القيادة للمثنى بن حارثة مع آخر النهار، وكان بعض المسلمين قد عبروا الجسر منسحبين، واستمر الانسحاب من الميدان، فلما رأى ذلك عبد الله بن مرثد الثقفي بادر وقطع الجسر، وقال: موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاول منع الناس من العبور فأتوا به إلى المثنى فضربه من شدة غضبه من صنيعه وقال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا، وقد كان اجتهاده في غير موضعه لأن قطع الجسر أدى إلى وقوع بعض المسلمين في النهر وغرقوا بسبب شدة الضغط من الفرس، فكانت الفكرة المناسبة أن يحافظ المسلمون على بقيتهم بالانسحاب إن استطاعوا ذلك، وهذا هو ما قام به المثنى حيث أمر بعقد الجسر ووقف هو ومن معه من أبطال المسلمين فحموا ظهور المسلمين حتى عبروا وقال المثنى: يا أيها الناس إنا دونكم فاعبروا على هينتكم – يعني على مهلكم – ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم، وكان المثنى ومن معه من الأبطال من أمثال عاصم بن عمرو والكلج الضَّبِّي هم آخر من عبر، وقد كان بَهْمَن جاذويه حاول أن يجهز على بقية المسلمين ولكنه لم يستطع وفَوَّتَ عليه هذه الفرصة المثنى حينما تولى قيادة هذا الانسحاب المنظم ولا شك أن هؤلاء الأبطال الذي حموا ظهور المسلمين حتى انسحبوا قد بذلوا جهوداً جبارة في الصمود أمام الأعداء لقد انسحب خمسة آلاف من المسلمين وخلفوا وراءهم أربعة آلاف من الشهداء منهم عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم خاصة الذين رافقوا أبا عبيد من المدينة، وقد عاد ألفان ممن انسحبوا إلى المدينة وغيرها ولم يبق مع المثنى غير ثلاثة آلاف، أما الفرس فقد قتل منهم ستة آلاف بالرغم من الوضع السيئ الذي كان فيه المسلمون مما يدل على بسالتهم وقوة احتمالهم( ).

أهم الدروس والعبر والفوائد من معركة جسر أبي عبيد:
أ- رؤية صادقة:
كانت دومة امرأة أبي عبيد قد رأت رؤيا أن رجلاً نزل من السماء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد وابنه جبر في ناس من أهله فأخبرت بها أبا عبيد فقال: هذه الشهادة، وعهد أبو عبيد إلى الناس فقال: إن قُتلت فعلى الناس فلان حتى عد سبعة من ثقيف من أقاربه الذين ذكرتهم امرأته في الرؤيا، فإن قتل آخرهم فالقيادة للمثنى بن حارثة( ).

ب- غلطتان سببتا الهزيمة:
• مخالفة أبي عبيد لمن معه من أركان الجيش ووجوهه، لقد نهوه عن العبور فلم ينته، واستقل برأيه، لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعة وإقدام وحب للشهادة، لكنه لم يحسب للمعركة حسابها الكامل، ولم يدرس أرض المعركة بشكل كاف( )، ولقد أفلت من يد أبي عبيد عنصر الأمن بانحصاره في مكان ضيق المخرج وكأنه وضع جيشه في مصيدة دون عذر مقبول، وأفلت من يده عنصر التعاون بين الأسلحة المختلفة بخروج سلاح الفرسان من المعركة، فصارت قواته مشاة دون فرسان وكان عليهم أن يواجهوا مشاة الفرس وفرسانهم وأفيالهم، وفقدت المعركة كفاءة القيادة حتى تولاها المثنى أخيراً بعد سبعة سبقوه، وكما فقد ذلك فقد أيضاً عنصر الحشد بسبب ضيق المكان إذ لا فائدة من أعداد الجند إذا لم تسعفها طوبوغرافية الأرض، كما أنه فقد حسن اختيار الهدف وما يتفرع عنه من اختيار الأرض واختيار طريق الوصول إليه وطريق ضربه وما إلى ذلك، فوّته على نفسه، بل أتاح لعدوه أن يفرضه عليه( ).

• والذي زاد غلطة أبي عبيدة فداحة، غلطة زادت الغلطة الأولى أثراً وخسارة وفاجعة، إنها غلطة عبد الله بن مرثد الثَّقفي عندما قطع الجسر، كي لا يرتد أحد من المسلمين ولولا الله ثم ثبات المثنى بن حارثة ومن معه لهلك المسلمون عن آخرهم( ).
ت- قيمة القيادة الميدانية:
إن معركة الجسر أثبتت أهمية القيادة الميدانية المتمثلة في المثنى وأركان قيادته الذين معه، فعندما تنزل المحن بالجيوش يخرج القادة الذين يستطيعون أن يخرجوا بجيوشهم من تلك المحن( )، فقد تولى المُثنى مع مساعديه من الأبطال حماية الجيش الإسلامي، فكان آخر من عبر الجسر، وهذا لون رفيع من ألوان التضحية والفداء( ).

ث- المثنى يقوم برفع الروح المعنوية لجيشه:
انسحب المثنى بأربعة آلاف جندي من أصل عشرة آلاف، وقام بمطاردته قائدان فارسيان هما: (جابان)و(مردنشاه) باتجاه أليس (السماواة)، وجرهما المثنى وراءه مسافة حتى توغلا ولم يشأ أن يبدأ حملة مضادة إلا بعد مرحلة من الانسحاب وعند بلوغه السماواة شن هجوماً صاعقاً بالخيالة التي قاسدها بنفسه، فأنزل بهما هزيمة عجيبة، ويبدو أن هول المفاجأة وعدم تصورهم أن إنساناً قد أبيد معظم جيشه، يمكن أن يكون له مثل هذا العزم الذي يفل الحديد، ومن شدة ذهول القطعات الفارسية أنزلت بها خسائر كبيرة بحيث تمكن المثنى من أسر القائدين جابان ومردنشاه وأعدمهما المثنى، فكان لهذا النصر أثر كبير في تقوية معنويات البقية الباقية من الجيش، ورفعت الموقعة معنويات سكان المنطقة، ورفعت قيمة المثنى في نظر جنوده والقبائل المجاورة( ).

ج- كلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج قيض الله لهم الأسباب التي تخرجهم من ذلك الحرج:
بقي المثنى في العراق في عدد قليل لا يكفي حتى للاحتفاظ بالممالك التي استولى عليها المسلمون، ولقد كان بإمكان الفرس أن يلاحقوا بقية الجيش الإسلامي حتى يخرجوهم من العراق، وسيجدون ممن بقي على الوراء لهم من العرب من يتولى مطاردتهم في الصحراء ولكن الله تعالى مع هذه الفئة المؤمنة ومع المؤمنين في كل مكان، فكلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج يسر الله لهم الأسباب للخروج منه، فقد قيض المولى عز وجل أمراً صدّهم عن المسلمين حيث انقسموا إلى قسمين قسم مع رستم وقسم مع فيرزان، وأتى الخبر إلى قائد الفرس بهمن جاذويه فأسرع بالعودة إلى المدائن وكان ممن يُنظر إليه في أمور سياستهم وهكذا كفى الله المؤمنين القتال وأنقذهم من هذا المأزق الحرج وأخذوا فرصة كافية لتلقِّي الجيوش القادمة من دار الخلافة حتى تقوَّوا وأصبح لديهم جيش كبير( ).

ح- موقف عمر رضي الله عنه عندما تلقى خبر الهزيمة:
بعث المثنى بن حارثة بأخبار المعركة إلى الخليفة عمر رضي الله عنه مع عبد الله بن زيد الأنصاري فقدم على عمر وهو على المنبر فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس سراً( )، فما سمع لرجل حضر أمراً تحدث عنه أثبت خبراً منه( )، وقد تأثر عمر ومن حوله من الصحابة لمصاب الجيش الإسلامي في هذه المعركة وقال: اللهم كل مسلم في حلِّ مني، أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو فَفُظِع بشيء من أمره فأنا له فئة، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إليَّ لكنت له فئة( ).
وهذا الموقف يدل على أن عمر وهو الرجل القوي الحازم يلين ويواسي في مقام الرحمة والعطف( ).

رابعاً: وقعة البُوَيب 13هـ:
قام الفاروق بحشد الناس واستنفارهم وبذلك أرسل الإمدادات إلى جيش الإسلام في العراق فكان منهم جرير بن عبد الله البجلي في قومه وحنظلة بن الربيع، وأرسل هلال بن علقمة مع طائفة الرباب ومجموعة من قبائل خثعم بقيادة عبد الله بن ذي السهمين فأرسلهما أيضاً إلى العراق لمد جند الإسلام، وجاء كل من عمر بن ربعي بن حنظلة في قومه وربعي بن عامر بن خالد إلى الخليفة فأمد بهم كذلك جند العراق وهكذا أخذت أرتال الدعم والإمداد تسير نحو العراق بدون انقطاع وفي الوقت ذاته أرسل المثنى بن حارثة الشيباني إلى من في العراق من أمراء المسلمين يستحثهم فبعثوا إليه بالإمداد حتى كثر جيشه( ).
ولما علم قادة الفرس باجتماع جيش كبير عند المثنى بعثوا مهران الهمذاني بجيش من الفرسان لمواجهة جيش المثنى، ولما علم المثنى بذلك كتب إلى من يصل إليه من الأمداد أن يوافوه بالبويب وعلى رأس هؤلاء جرير بن عبد الله حيث كتب إليه المثنى يقول: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا فعجلوا اللِّحاق بنا وموعدكم البويب، فاجتمعوا بالبويب وليس بينهم وبين جيش الفرس إلا النهر، فأقام المثنى حتى كتب له مهران: إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران بجيشه، وكان ذلك في شهر رمضان من العام الثالث عشر للهجرة، فقام المثنى خطيباً وقال للمسلمين، إنكم صوام والصوم مَرَقَّة ومضعفة وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقوَّوا بالطعام على قتال عدوكم، قالوا: نعم فأفطروا، وكان المثنى قد عبأ جيشه وسار فيهم يحثهم على القتال، ويقول لأهل كل راية: إني لأرجو أن لا تُؤتَى العرب من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم قال الرواة: وأنصفهم المثنى في القول والفعل وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولاً ولا عملاً( ). وهذا دليل على حسن قيادته وسعة حكمته، حتى أصبح أفراد الجيش مطيعين له عن حب وقناعة، ولما رضي المثنى عن استعداد جيشه قال: إني مكبِّر ثلاثاً فتهيأوا ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبيرة، وليس من عادة الفرس هذا الاندفاع ولكن لعل ما حصلوا عليه في معركة الجسر من إصابة المسلمين خفف مما وقر في نفوسهم من هيبة المسلمين والرعب منهم، وهكذا بدأ الفرس بالهجوم وقد صمد لهم المسلمون واستمروا معهم في صراع شديد، والمثنى إلى جانب اشتراكه في القتال يراقب جيشه بدقة حتى إنه رأى خللاً في بعض صفوفه فأرسل إليهم رجلاً وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم: فقالوا: نعم واعتدلوا( )، فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال: يا أنس إذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لابن مردي الفهر مثل ذلك فأجابه، ثم حمل المثنى على مهران، فأزاله حتى أدخله في ميمنته واستمر المثنى يضغط على عدوه، فخالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار، والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المشركون ولا المسلمون، وقال مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين لجنده: إن رأيتمونا أُصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، إلزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم( )، وأصيب مسعود وقواد من المسلمين، ورأى مسعود تضعضع من معه لإصابته وهو ضعيف قد ثقل من الجراح. فقال: يا معسكر بكر بن وائل ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي. ويدرك المثنى مصرع أخيه فيخاطب الناس بقوله: يا معشر المسلمين
لا يرعكم مصرع أخي فإن مصارع خياركم هكذا، وقاتل أنس بن هلال النميري حتى أصيب فحمله المثنى وحمل أخاه مسعوداً وضمهما إليه، والقتال محتدم على طول الجبهة، ولكن القلب بدأ ينبعج في غير صالح الفرس، وأوجع قلب المسلمين في قلب المجوس، وقد دق فيه المثنى إسفينه، وكان فيمن تقدم في القلب جرير بن عبد الله ومعه بجير وابن الهوبر والمنذر بن حسان فيمن معهما من ضبة، وقاتل قرُط بن جماح العبدي حتى تكسرت في يده رماح وتكسرت أسياف، وقتل شهر براز من دهاقين الفرس وقائد فرسانهم في المعركة. واستمر القتال حتى أفنى المسلمون قلب المشركين وأوغلوا فيه( )، ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر الغبار، وقد فني قلب المشركين وقُتل قائدهم مهران والمجنَّبات قد هز بعضها بعضاً، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنباتهم على المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر، وأرسل إليهم من يقول لهم: عاداتكم في أمثالكم، انصروا الله ينصركم، حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وقطعه، وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطيء الفرات، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوا جثثهم أكواماً من كثرتها، حتى ذكر بعض الرواة أن قتلاهم بلغوا مائة ألف( ).

1- مؤتمر حربي بعد المعركة:
سكن القتال ونظر المثنى والمسلمون إلى عشرات الألوف من الجثث وقد غطت الأرض دماؤها وأشلاؤها، ثم جلس مع الجيش يحدثهم ويحدثونه ويسألهم عما فعلوا، وكلما جاء رجل قال له المثنى: أخبرني عنك فيروون له أحاديث تصور لقطات من المعركة وقد قال المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد عليّ من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد علي من ألف من العجم، إن الله أذهب مصدوقتهم، ووهّن كيدهم، فلا يروعنَّكم زُهاءُ ترونه – يعني هيئتهم – ولا سوادُ – يعني كثرتهم – ولا قسيُّ فُجّ – يعني قد باتت أوتارها – ولا ينالُ طوال إذا أُعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت( ).
وإن هذا القول في ذلك الوقت مناسب تماماً حيث عرض المثنى خبرته الجيدة في حربه مع الفرس في الوقت الذي دخل في حروب العراق أعداد كبيرة من المسلمين يشاركون في حرب الفرس لأول مرة، فجمع المثنى لهم بذلك بين المشاهدة في معركة من المعارك وبين وصف تجاربه في كل المعارك التي خاضها معهم قبل ذلك( ).

2- ندم المثنى في قطعه خط الرجعة على الفرس:
وقد ندم المثنى على قطعه خط الرجعة على الفرس، وأخذه بالجسر من خلفهم فقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها لمسابقتي إياهم إلى الجسر، وقطعه حتى أُحرجهم فإني عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلة،
لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع( )، فقد أبان المثنى في آخر هذا الكلام وجه الخطأ في هذه الخطة حيث قد لاحظ ببصيرته الحربية النافذة أن في منع الأعداء من الفرار إلجاءاً لهم إلى الاستماتة في القتال دفاعاً عن أنفسهم، فإنه حينما يشعر الإنسان بأنه مقتول يبذل كل طاقته في الدفاع عن نفسه، وهذا يكلف الجيش المقابل جهوداً ضخمة في محاولة القضاء عليه، ولكن الله تعالى وقى المسلمين شر هذه الخطة كما ذكر المثنى حيث ثبَّت المسلمين فكانت قوتهم أعلى بكثير من احتمال الأعداء وطاقتهم وألقى الله تعالى الرعب في قلوب الأعداء حتى فقدوا الطاقة والمقدرة على الدفاع عن النفس( )، وإن في اعتراف المثنى بهذا الخطأ، وهو الرجل الذي بلغ في هذه المعركة أوج النصر والشهرة لدليلاً على قوة إيمانه، وتجرده من حظ النفس، وإيثاره مصلحة الجماعة وهكذا يكون العظماء( ).

3- علم النفس العسكري عند المثنى:
إلى جانب ما ظهر لنا من عبقريات المثنى فقد شملت عبقريته عمقاً أخر يتصل بالحرب وهو علم النفس العسكري والتعامل مع إخوان الجهاد وزملاء السلاح، إنا لنجد روحاً من المحبة فياضة تربط المثنى بمن معه تشير إلى جانب عاطفي نحوهم ويبرز هذا في أحاديثه لهم وفي كلامهم عنه، نرى هذا في طوافه بفرسه الشموس على راياتهم راية راية، يحمسهم ويعطيهم توجيهاته ويحرك مشاعرهم بأحسن
ما فيهم ويقول لهم: والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم( )، فيجيبونه بمثل ذلك. يقول الرواة: فلم يستطع أحد أن يعيب له قولاً ولا عملاً( ) وعندما رأى صفوف العجم تهجم وقد علت صيحاتهم، يدرك ما لهذا من أثر في قتال الالتحام، لا سيما وذكرى معركة جسر أبي عبيد ماثلة في الأذهان فقال كلمة هادئة تساعد على الثبات وتدخل على النفوس لتبطل أثر تلك الهيعات فقال في هدوء يدعو إلى الإعجاب: إن الذي تسمعون فشل فألزموا الصمت وائتمروا همساً( )، وعندما أصيب أخوه مسعود إصابة قاتلة قال مقالة تستحق أن تكتب بماء الذهب، وبحروف من نور: يا معشر المسلمين لا يرعكم مصرع أخي، فإن مصارع خياركم هكذا( )، ولا يقل عن هذا قول أخيه نفسه وهو يجود بالنفس مستبشراً بالشهادة: ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي، وعندما قام المثنى بالصلاة على أخيه وبعض الشهداء قال: والله إنه ليهون على وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا، ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوُّز الذنوب( ) وكما كان المثنى محباً لجنده عطوفاً عليهم متفقداً لكافة أحوالهم فقد كان في نفس الوقت حازماً حاسماً آخذاً بما يطلق عليه العسكريون المحدثون (الضبط والربط) ( )، فعندما أبصر رجلاً في الصف يستوفز( ) ويستنتل( )، من الصف فقال المثنى: ما بال هذا قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر، وهو يريد أن يستقتل، فقرعه بالرمح، وقال: لا أبالك: الزم موقفك فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف( )، وكما كان المثنى متعاطفاً مع جيشه فلقد كان الشعور متبادلاً تماماً، ونرى ذلك جلياً في شعر المعركة الذي جرى على ألسنة جنودها فهذا الأعور الشني يقول:

هاجت لأعور دار الحي أحزاناً
وقد أرانا بها والشمل مجتمع
أزمان سار المثنى بالخيول لهم
سما لمهران والجيش الذي معه
ما أن رأينا أميراً بالعراق مضى
إن المثنى الأمير القرم لا كذب
واستبدلت بعد عبد القيس حَفّانا
إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
فَقَتَّلَ الزحف من فُرْس وجِيلانا( )
حتى أبادهمُ مَثْنى ووحدانا
مثل المُثَنَّى الذي من آل شيبانا
في الحرب أشجع من ليث بخفَّانا( )

فصاحب هذه الأبيات يفضل المثنى صراحة على خالد بن الوليد وعلي أبي عبيد الثقفي، ولقد كان الأعور من عبد قيس فهو لم يكن من بني شيبان ولا من بكر بن وائل حتى يقال إنَّه متعصب لقومه( ).
إن المثنى بن حارثة كان قائداً عميقاً في علم النفس العسكري قبل أن يخط أي أستاذ متخصص حرفاً في هذا العلم بقرون( ).



................يتبع










رد مع اقتباس
قديم 2012-08-01, 15:55   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي

الجزء 19



- موقف لنساء المجاهدين:
إن من المواقف التي ينبغي الإشارة إليها ما كان من نساء المسلمين لما أرسل إليهم قادة المسلمين بعض ما أصابوا من الطعام، وقد أرسلوه مع أحد زعماء النصارى من العرب وهو عمرو بن عبد المسيح بن بُقيلة في رجال معه، فلما رأتهم النساء تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعُمد، فقال: عمرو بن عبد المسيح: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش، وبشروهن بالفتح( ).
وإن هذا الموقف ليدل على حسن التربية الإسلامية وإبراز شخصية المسلم حتى لدى النساء، فإنهن قد تدربن على حماية الموقف فيما إذا خلا من الرجال، هذا وقد أطلق هذا النصر الحاسم يد المسلمين في العراق فيما بين النهرين وأرسل المثنى قواده يُخضعون البلاد لسلطان المسلمين، ويتقوَّون بما يفيء الله عليهم من الغنائم على جهاد عدوهم( ).
5- مطاردة فلول المنهزمين:
لم يقعد إغراء النصر بالمثنى عن غايته، فقد ندب الناس أثر المعركة وراء الجيش المنهزم وسألهم أن يتبعوهم إلى السيب فخرج المسلمون خلف فلول المنهزمين وكان من ضمنهم من حضر معركة جسر أبي عبيد، فأصابوا غنماً كثيراً وأغاروا حتى بلغوا ساباط ثم انكفأوا راجعين إلى المثنى، وتبدو قيمة معركة البويب، لا في استصلاح الأثر النفسي الذي كان بعد هزيمة الجسر، بل إن المسلمين أضحوا قادرين على السواد كله، فقد كانوا يحاربون من قبل لا يجتازون الفرات ثم حاربوا فيما بين الفرات ودجلة، أما بعد البويب فقد استمكنوا من كل هذه المنطقة التي تمتد بين الفرات ودجلة: فمخروها لا يخافون كيداً ولا يلقون فيها مانعاً( )، وكانت غزوة البويب نظير اليرموك بالشام( ).

خامساً: عمليات الأسواق:
استقام الأمر للمسلمين بعد معركة البويب، وانقاد لهم السواد وأخذ المثنى يجول هنا وهناك: وزّع القواد وأذكى المسالح، وأغار على تجمعات الفرس والعرب وكان من هذه الغارات غارته على الخنافس، وهي سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة ومضر يخفرونهم، فأغار عليها وانتسف السوق وما فيها وسلب الخضراء( )، ثم سار مسرعاً حتى طرق دهاقين الأنبار في أول النهار من نفس اليوم وهو يقول:

صبحنا بالخنافس جمع بكر
بفتيان الوغى من كل حيٍّ
أبحنا دارهم والخيل تُرْدي
نسفنا سوقهم والخيل رودُ
وحيا من قضاعة غير مِيلِ
تباري في الحوادت كل جيل
بكل سَمْيْدَع سامي التليل
من التطواف والشر البخيل( )

واستعان بدهاقين الأنبار وأخذ منهم أدلاء ورتب خطة لكسح سوق بغداد، وعبر دجلة وطلع على بغداد وسوقها مع أول ضوء النهار، فوضع فيهم السيف وقتل منهم وأخذ أصحابه ما شاءوا، وكان أمر المثنى لهم: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة،
ولا تأخذوا من المتاع لا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته( )، وهرب أهل الأسواق وملأ المسلمون أيديهم من الذهب والفضة والحُرُّ من كل شيء. ثم كروا راجعين حتى إذا كانوا بنهر السبلحين( )، على حوالي خمسة وثلاثين كيلو متراً من بغداد نزل وقال: أيها الناس انزلوا وقضّوا أوطاركم وتأهبوا للسير واحمدوا الله وسلوه العافية ثم انكشفوا قبيضاً( )، ففعلوا، لقد قطعوا نحواً من ستين كيلو متراً على ظهور الخيل تخللها غارة، كل ذلك في مرحلة واحدة منذ قاموا في آخر الليل إلى بغداد حتى عادوا، ورأى المثنى أنهم في حاجة إلى استراحة وكذلك خيلهم وكان المسلمون يدركون عمق ما أوغلوا وبينما المثنى يمر بينهم إذ سمع همساً. قال قائل منهم: ما أسرع القوم في طلبنا. فقال المثنى: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان .. انظروا في الأمور وقدروها (احسبوها) ثم تكلموا .. إنه لم يبلغ التدبر مدينتهم بعد ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تنتشر عليها يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على الجياد الغراب (الخيل الأصلية) وهم على المقاريف( )، البِطاء حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم: ولو أدركوكم لقاتلتهم لاثنتين، التماس الأجر، ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعدُّ منكم (أكثر عدداً) وسأخبركم عني وعن انكماشي( )، والذي أريد بذلك. إن خليفة رسول الله  أبا بكر أوصانا أن نقلل العْرجة (الإقامة) ونسرع الكرة في الغارات، ونسرع في غير ذلك الأوبة (الإياب( )).
هذا فهم المثنى للحروب والقتال، فقد كان يتحرك على حساب محسوب وتخطيط مرسوم وإيمان عميق، فكل معركة تضيف إليه دراية وتجربة وعلماً ومعرفة، وهي تكشف لنا عن عبقرية الصديق الحربية النادرة التي تتلمذ المثنى عليها أفاد منها رغم أنه لم يلقه إلا أقل من القليل( ).
نهض المثنى وأمرهم بالركوب، وأقبل بهم ومعهم أدلاؤهم يقطعون بهم الصحارى والأنهار حتى انتهى بهم إلى الأنبار، فاستقبلهم الدهاقين بالإكرام واستبشروا بسلامته، وكان وعدهم الإحسان إليهم إذا استقام لهم من أمرهم ما يحبون وقال أحدهم:

وللمثنى بالعَال معركة
كتيبة أفزعت بوقعتها
وشُجِّع المسلمون إذا حَذروا
سَهَّل نهج السيل فاقتفروا
شاهدها من قبيلة بَشَرُ
كسرى وكاد الإيوان ينفطر
وفي صروف التجارب العِبَرُ
آثاره والأمور تقتفر( )

ووسع المثنى غارته على شمال العرق حتى شمل من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، فأرسل غارته على الكباث وكان أهله كلهم من بني تغلب، فأخلوه وارفضّوا عنه، وتبعهم المسلمون يركبون آثارهم، وأدركوا أخرياتهم، وقتلوا وأكثروا، وأرسل غارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين( ).
وكان المثنى بن حارثة سيد هذه الغارات كلها بعد البويب، وكان على مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني وعلى مجنبَّته النعمان بن عوف بن النعمان ومطر الشيبانيان وقد حدث في إحدى غارات المثنى أن أدركت قواته مجموعات من الأعداء بتكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاءوا من النعم، حتى أصاب الرجل خمساً من النعم، وخمساً من السبي، وخمس المال، وجاء به حتى ينزل على الناس بالأنبار. وعاد المثنى إلى الأنبار فبعث فرات بن حيان وعتيبى بن النهاس إلى صفين وأمرهما بالغارة على أحياء العرب من تغلب والنمر – ثم استخلف على الأنبار والتي اتخذها قاعدة متقدمة – عمرو بن أبي سلمى الهجيمي واتبعهما. فلما اقتربوا من صفين افترق المثنى عن فرات وعتيبة، وفر أهل صفين فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا بها، وكانوا من قبائل النمر وتغلب متساندين فاتبعهم فرات وعتيبة حتى رموا بطائفة منهم في الماء، فكانوا ينادونهم (الغرق الغرق) وكان عتيبة وفرات يحضان الناس ويحرضانهم ويقولان (تغريق بتحريق) يذكرانهم يوماً من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضة من الغياض، ثم رجعوا إلى المثنى وقد أغرقوهم في الفرات، وبلغ خبر ذلك إلى عمر بالمدينة، فقد كانت له عيون في كل جيش تكتب له، فطلب فرأت بن حيان وعتيبة إلى المدينة وأجرى معهما تحقيقاً في هذا، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه أنه مَثَلٌ ولم يفعلاه على وجه طلب ثأر الجاهلية، فاستحلفهما فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام، فصدقهما عمر وردهما إلى العراق فرجعا إليه مع حملة سعد بن أبي وقاص( )، فقد كان الفاروق حريصاً على صيانة أخلاق الرعية وحياطتها من تسرب الفساد إليها( ).
لقد استغل المثنى النصر الرائع الذي أحرزه المسلمون يوم البويب وشن غارات منظمة على أسواق شما ل العراق وطبق مبدأ مطاردة الأعداء وقد استطاع بعد توفيق الله ثم بما أعطاه الله من صفات القائد العسكري أن ينفذه في قوة وعمق بلغ حوالي أربعمائة كيلو متراً أو يزيد شمالاً، خلاف ما تبحبحوا به شرقاً وجنوباً وغرباً على امتداد ذلك الخط( )، وقد طبق المثنى استراتيجية وتكتيكات الحرب الخاطفة في عملياته تلك،
ولا شك أن هذه العمليات قد وجهت إلى السلطة الفارسية الحاكمة في المدائن أكبر إهانة أمام شعبها، وأضعفت الثقة في قدرتها على القيام بالدفاع ضد هجمات قوم كان الفرس حتى وقتها ينظرون إليهم نظرة ملؤها الإهانة والازدراء( ).


سادساً: رد فعل الفرس:
لم تكن أحداث كالتي وقعت لتمر دون أن يكون لها رد فعلٍ في الدوائر الحاكمة في فارس واجتمع ساداتهم وقالوا لرستم ولفيرزان: أين يذهب بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم. والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم
يا معشر القواد، لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم، إنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي وأن تعرضها للهلكة، ما تنظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت، والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم( ).
وبعد ذلك ذهب رستم وفيرزان إلى بوران فقالا لها: اكتبي إلى نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى، وسراريهم، ففعلت وأخرجت لهم ذلك في كتاب، فأرسلوا في طلبهن فأتوا بهن جميعاً فسلموهن إلى رجال يعذبونهن ويستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عندهن منهم أحد، ولكن إحداهن ذكرت أنه لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهر يار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا، فأرسلوا إليها وأخذوها به يطلبونه منها، وكانت حين جمعهن عمه شيرويه في القصر الأبيض وقتل ذكور آل كسرى وهم وإخوته السبعة عشر حتى لا ينافسه أحد على عرش فارس، قد هربته وأخفته عند أخواله في إصطخر، وكان شيرويه قد قتل فيمن قتل أخاه شهريار بن كسرى برويز من زوجته المفضلة شيرين وهو والد يزدجرد هذا، فضغطوا على أم يزدجرد فدلتهم عليه، فأرسلوا إليه فجاؤوا به باعتباره الذكر الوحيد الباقي من بني ساسان، فملَّكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأن جميع الفرس لذلك، فتباروا في طاعته ومعونته، ورأوا في ذلك مخرجاً مما كانوا فيه( ) وبدأ يزدجرد الثالث يزاول سلطاته بمعونة رستم وفيرزان، فجدد المسالح والثغور التي كانت لكسرى وخصص جنداً لكل مسلحة فسمّى جند الحيرة والأنبار وجند الأبلة( ).

سابعاً: توجيهات الفاروق للمثنى:
بلغت المثنى أخبار تحركات يزدجرد الثالث وكانت عيونه تأتيه بتفاصيلها، فكتب بها وبما يتوقع من هجوم مضاد قوي إلى عمر رضي الله عنه، وصدق تقدير المثنى، فلم يصل كتابه إلى عمر حتى كفر أهل السواد وانتقضوا وتنكروا للمسلمين، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له، وعاجلهم الفرس، فزاحفوهم مع ثورة أهل الذمة، فلما رأى المثنى ذلك كان يدرك أنه أحرز من التقدم والاكتساح أكثر مما تسمح قوته بالاحتفاظ به، ومن شأن هذا ألا يدوم فخرج في حاميته حتى نزل بذي قار وأنزل الناس بالطف في عسكر واحد، وكان عمر رضي الله عنه أكثر حذراً فجاءهم كتابه: أما بعد، فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتنحوا إلى البر وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحداً، ولا مضر ولا حلفائهم أحداً من أهل النجدات، ولا فارساً إلا اجتلبتموه، فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجد إذ جد العجم، فلتلقوا جدهم بجدكم وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري( )،ونزل المثنى بذي قار ووزع المسلمين بالجُل وشراف إلى غُضَي( )، وفرّق القوات في المياه من أول صحراء العراق إلى آخرها، من غضي إلى القطقطانة مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً إن حدث شيء، في حالة ترقب وانتظار لحشد جديد، بينما عادت مسالح كسرى وثغوره واستقر أمر فارس وهم متهيبون مشفقون والمسلمون متدفقون في ضراوة كالأسد ينازع فريسته ثم يعاود الكر، وأمراؤه يكفكفونهم عملاً بكتاب عمر وانتظاراً للمدد، كان ذلك في أواخر ذي القعدة 13هـ يناير 635م( )،وقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب. ثم كان أول ما عمل أن كتب إلى عماله على الكور والقبائل، وذلك في ذي الحجة مع مخرج الحجاج إلى الحج، فجاءته أوائل القبائل التي طرقها على مكة والمدينة ومن كان على طريق العراق وهو إلى المدينة أقرب، توافوا إليه بالمدينة مع رجوع الحج وأخبروه عمن وراءهم أنهم يجدون أثرهم، أما من كان في إلى العراق أقرب فقد لحقوا بالمثنى، فلم يدع عمر رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سطوة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم( ).

المبحث الثاني: معركة القادسية:

لما علم الفاروق أن الفرس يعدون العدة ويتجمعون لاستئصال القوة القليلة من المسلمين المتبقية في العراق أمر بالتجنيد الإجباري ذلك أن الحالة تقتضي ذلك؛ ولذلك أمر المثنى أن ينظر فيما حوله من القبائل ممن يصلح للقتال ويقدر عليه فيأتي به طائعاً أو غير طائع وهذا هو التجنيد الإجباري الذي رآه عمر وكان أول من عمل به في الإسلام، وبهذا يسقط ما قاله محمد فرج: صاحب كتاب (العسكرية الإسلامية) من أن التجنيد الإجباري ظهر في الدولة الأموية، فها هو عمر الفاروق قد أمر به ونفذ الأمر فما وصل كتاب أمير المؤمنين للمثنى إلا وبدأ بتنفيذ ما فيه على الفور وطبق الخطة التي رسمها له في تحركاته، وأرسل الفاروق إلى عماله أن لا يدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا أرسلوه إليه، يأمرهم بالتجنيد الإجباري ويطلب منهم أن يرسلوا المجندين الجدد إليه ليرسلهم إلى العراق( )، لقد تغير الموقف في بلاد فارس مع مجيء يزدجرد للحكم فقد أصبح موقف الفرس كالتالي:
• استقرار داخلي تمثل في تنصيب يزدجرد واجتماعهم عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته.
• تجنيد عام شمل كل ما استطاع الفرس أن يجندوه، وتوزيع الفرق في كل أنحاء الأرض التي فتحها المسلمون.
• وأخيراً إثارة السكان وتأليبهم على المسلمين، حتى نقضوا عهدهم وكفروا بذمتهم وثاروا بهم( ).

وتغير موقف المسلمين وأصبح كالتالي:
• الانسحاب: خروج المثنى والقواد الآخرين على حاميتهم من الأرض التي فتحوها من بين ظهراني العجم.
• التراجع: والتفرق في المياه التي تلي الأعاجم على حدود الأرض العربية والأرض الفارسية، وقد نزل المثنى في ذي قار، ونزل الناس الطَّف؟ فشكلوا في العراق مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً عند الحاجة.
• مقابلة التجنيد الإجباري عند الفرس بالتجنيد الإجباري لدى المسلمين( ).

أولاً: تأمير سعد بن أبي وقاص على العراق:
وهذه المرحلة الثالثة في فتوحات العراق تبدأ بتأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على الجهاد في العراق سنة 14هـ، فقد استهلت هذه السنة الرابعة عشر وعمر رضي الله عنه يحث الناس ويحرضهم على جهاد الفرس، وركب رضي الله عنه أول يوم من المحرم في هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صِرَار( )، فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علياً بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وسادات الصحابة، ثم عقد مجلساً لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه ونودي الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشى إن كُسِرتَ أن تَضْعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة فاستصوب عمر والناس عند ذلك رأي ابن عوف. فقال عمر: فمن ترى أن نبعث إلى العراق؟ فقال: قد وجدته قال: ومن هو؟ قال: الأسد في براثنه، سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل إلى سعد، فأمّره على العراق( ).

1- وصية من عمر لسعد رضي الله عنهم:
لما قدم سعد إلى المدينة أمّره عمر رضي الله عنهما على حرب العراق وقال له: يا سعد سعد بني وُهَيب لا يغرنّك من الله أن قيل خال رسول الله ، وصاحب رسول الله  فإن الله عز وجل لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، فإن الله تعالى ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله  منذ بُعث إلى أن فارقنا فالزمْه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها كنت من الخاسرين( ).
وإنها لموعظة بليغة من خليفة راشد عظيم فقد أدرك عمر رضي الله عنه جانب الضعف الذي يمكن أن يؤتى سعد من قبله وهو أن يُدلي بقرابته من النبي  فيحمله ذلك على شيء من الترفع على المسلمين، بالمبدأ الإسلامي العام الذي يعتبر مقياساً لكرامة المسلم في هذه الحياة حيث قال الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فقوله: يتفاضلون بالعافية. يعني بالشفاء من أمراض النفوس فكأنه يقول يتفاضلون بالبعد عن المعاصي والإقبال على طاعة الله تعالى وهذه هي التقوى التي جعلها الله سبحانه ميزاناً للكرامة بقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  (الحجرات،آية:13)، وهو ميزان عادل رحيم بإمكان كل مسلم بلوغه إذا جَدَّ في طلب رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية ثم ذكره عمر في آخر الموعظة بلزوم الأمر الذي كان عليه رسول الله  وهذا يشمل الالتزام بالدين كله وتطبيقه على الناس( ).

2- وصية أخرى:
ثم إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى سعد بن أبي وقاص مرة أخرى لما أراد أن يبعثه بقوله: إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يُخلِّص منه إلا الحق، فعوِّد نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على
ما أصابك أو نابك تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشؤها الله إنشاءً، منها السر ومنها العلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامّه في الحق سواء، وأما السر فيُعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبب فإن النبييين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغَّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن يشرع معك في أمرك( ) وفي هذا النص عبر نافعة منها:

- إن لزوم الحق يخلِّص المسلم من الشدائد، وذلك أن من لزم الحق كان مع الله تعالى ومن كان مع الله تعالى كان الله معه جل وعلا بنصره وتأييده وإن هذا الشعور ليعطي المسلم دفعات قوية نحو مضاعفة العمل ومواجهة الصعاب والمآزق، إضافة إلى الطمأنينة النفسية التي يتمتع بها من لزم الحق قولاً وعملاً، بخلاف من حاد عن طريق الحق فإنه يشعر بالقلق والآلام المتعددة التي منها تأنيب الضمير والخوف من محاسبة الناس والدخول في مجاهيل المستقبل التي تترتب على الانحراف.
- وذكر عمر رضي الله عنه أن عُدة الخير الصبر، وذلك أن طريق الخير ليس مفروشاً بالخمائل، بل هو طريق شاق شائك، بتطلب عبوره جهاداً طويلاً، فلابد لسالكه من الاعتداد بالصبر وإلا انقطع في أثناء الطريق.
- وذكر أن خشية الله تعالى تكون في طاعته واجتناب معصيته ثم بين الدافع الأكبر الذي يدفع إلى طاعته ألا وهو بغض الدنيا وحب الآخرة، والدافع الأكبر الذي يدفع إلى معصيته، وهو حب الدنيا وبغض الآخرة.
- ثم ذكر أن للقلوب حقائق منها العلانية ومثّل لها بالمعاملة مع الناس بالحق في حالَي الغضب والرضى، وأن لا يحمل الإنسان ثناء الناس عليه على مداراتهم في النكول عن تطبيق الحق، ولا يحمله ذمهم إياه على ظلمهم ومجانبة الحق معهم.
- وذكر من حقائق القلوب السرّ، وجعل علامته ظهور الحكمة من قلب المسلم على لسانه، وأن يكون محبوباً بين إخوانه المسلمين، فإن محبة الله تعالى لعبده مترتبة على محبة المسلمين له، لأن الله تعالى إذا أحب عبداً حببه لعباده( )، فإذا كان سعد بن أبي وقاص المشهود له بالجنة بحاجة إلى هذه الوصية فكيف بنا وأمثالنا ونحن ينقصنا الكثير من فهم الإسلام وتطبيقه( ).

3- خطبة لعمر رضي الله عنه:

وسار سعد إلى العراق ومعه أربعة آلاف مجاهد، وقيل في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص( )، ثم قام في الناس خطيباً فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرّف لكم القول ليحيي به القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله من علم شيئاً فلينتفع به، وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهَيْن واللَّيْن، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسَّر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له، بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قِبَلَه حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً، واكتف بما يكفيك من الكفاف، فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء، وإني بينكم وبين الله وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهُوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يُبلِّغناها نأخذ له الحق غير مُتَعْتَع( ).

4- وصول سعد إلى العراق ووفاة المثنى:
سار سعد بجيشه حتى نزل بمكان يقال له ((زَرُود)) ( )، من بلاد نجد وأمدّه أمير المؤمنين بأربعة آلاف، واستطاع سعد أن يحشد سبعة آلاف آخرين من بلاد نجد، وكان المثنى بن حارثة الشيباني ينتظره في العراق ومعه اثنا عشر ألفاً.
وأقام سعد بزرود استعداداً للمعركة الفاصلة مع الفرس وانتظاراً لأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد كان عمر عظيم الاهتمام بهذه المعركة فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم( )، وبينما كان سعد مقيماً بجيشه في زرود مرض المثنى مرضاً خطيراً يقول الرواة: إن الجراحة التي جرحها يوم الجسر انتقضت عليه، واستشعر دنو أجله واشتد وجعه واستخلف على من معه بشير بن الخصاصية، وطلب المثنى أخاه المعنى وأفضى إليه بوصيته وأمره أن يعجل به إلى سعد، ثم أسلم المثنى الروح إلى بارئها فانطفأ السراج المضيء وأفلت هذه الشمس المشرقة التي ملأت فتوح العراق نوراً ودفئاً( )، وقد جاء في وصيته لسعد: أن
لا يقاتل عدوه وعدوهم – يعني المسلمين – إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مردة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى فاؤوا إلى فئة، ثم يكونون أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم، إلى أن يرد الله الكرة عليهم( )، فما أشبه لحظات المثنى الأخيرة باللحظات الأخيرة للخليفة
أبي بكر رضي الله عنهما، كلاهما ترك الدنيا وهو يفكر للمسلمين في هذه الفتوح ويوصي لها، توفي أبو بكر وهو يوصي خليفته عمر بندب الناس وبعثهم لفتح العراق، وتوفي المثنى وهو يورّث القائد الجديد لحرب العراق سعد بن أبي وقاص تجاربه الحربية ضد الفرس، فهو يجود بنفسه وهو يفكر ويدبر ويوصي سعداً( )، ولما انتهى إلى سعد رأيُ المثنى ووصيته ترَّحم عليه وأمّر المعنى بن حارثة على عمله، وأوصى بأهل بيته خيراً( )، ومما يلفت النظر في هذا الخبر أن المثنى قد أوصى بزوجته سلمى بنت خصفة التيمية إلى سعد بن أبي وقاص، وحملها معه المعنى، ثم خطبها سعد بعد انتهاء عدتها وتزوجها، فهل أراد المثنى أن يَبَّر زوجته بعد رحيله بضمها إلى بطل عظيم من أبطال الإسلام شهد له رسول الله بالجنة؟ إنه نوع من الوفاء نادر المثال، أم أنها كانت ذكية وعاقلة وقد تكون لديها خبرة من حروب زوجها، فأراد أن ينتفع المسلمون بها؟ كل ذلك محتمل، وهو غيض من فيض مما تحلى به ذلك الجيل الراشد من الفضائل وعظائم الأمور( )، ومما ينبغي الإشادة به الإشارة إليه، موقف قام به المعنى قبل إبلاغ هذه الوصية، وذلك أنه علم بأن أحد أمراء الفرس وهو الآزاذمر بعث قابوس بن قابوس بن المنذر إلى القادسية وقال له: ادع العرب فأنت علىمن أجابك وكن كما كان آباؤك – يعني المناذرة الذين كانوا ولاة الفرس – فنزل القادسية وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيداً، فلما انتهى إلى المعنَّى خبره، أسْرَى المعنَّى من
((ذي قار)) حتى بيَّته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار( ).

5- مسيرة سعد إلى العراق ووصية عمر رضي الله عنهما:
جاء الأمر من عمر أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما بالرحيل من ((زرود)) إلى العراق استعداداً لخوض المعركة الفاصلة مع الفرس وأوصاه بالوصية التالية: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله عز وجل أفضل العدة على العدو، وأقوى العدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منَّا ولن يسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سلط عليهم شرٌّ منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا، اسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لناولكم، وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشِّمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، جامِّ الأنفس والكراع( )، وأقم بمن معك كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة، يجمعون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونحَّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلنها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لهم،
ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح، وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعض، والغاش عين عليك وليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبثّ السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عورتهم، وانتق الطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد،لعلها (ولا تخص أحداً بهوى) فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعالجهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنيعته بك ثم أذك حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدوك وعدو الله، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان( )، فهذا خطاب عظيم يشتمل على وصايا نافعة ، يوضح لنا جانباً مهماً من عظمة عمر رضي الله عنه وهو خبرته العالية في التخطيط الحربي، وقد كان التوفيق الإلهي واضحاً في كل توجيهاته ووصاياه( )، ويمكننا أن نستخلص بعض المبادئ الهامة التي اشتملت عليها تلك الوصية منها:

- أمر الجيش بطاعة الله وتقواه في كل الأحوال، باعتبار أن هذا هو السلاح الأول، والتنبيه أن العدو الأول هو الذنوب، ثم المحاربون الكفار، ولفت النظر إلى أن ثمة رقابة دقيقة ودائمة، من الملائكة على أفراد الجيش الإسلامي، والإشارة إلى ضرورة الاستحياء من المعاصي، إذا لا يعقل أن يعصي المرء وهو في ساحة الجهاد في سبيل الله، والتأكيد على أنه من المجافي للصواب، اتخاذ سلوكيات العدو معياراً لتبرير سلوكيات الجيش الإسلامي واستحضار الحاجة الدائمة إلى معونة الله.
- أما المبدأ الثاني الذي أكدت عليه رسالة عمر إلى سعد فهو: رعاية الطرف الأول في العلاقة محل البحث ضد أي خطر، وتأكيد حرمة قرى أهل الصلح وتلمس أسباب تأمينها، وتأمين الصورة الإسلامية من أية آثار عكسية تؤثر على نجاح عملية الاتصال بين المسلمين وغير المسلمين، من جراء سلوكيات غير مستقيمة من جانب بعض العناصر الإسلامية، وسعياً لتحقيق متطلبات هذا المبدأ، أمر عمر أميره بمراعاة أسباب الحفاظ على معنويات الجيش، وإيصاله إلى أرض العدو، وهو قادر على المواجهة، فقال: ترفق بالمسلمين في سيرهم.. إلى أن قال يكون ذلك لهم راحة يجمعون بها أنفسهم، ويصلحون أسلحتهم، وأمتعتهم، وبعد التأكيد على أسباب صيانة وسلامة الأنفس والعتاد الحربي الإسلامي، نبه عمر إلى أن الوقاية خير من العلاج، وأن من أهم أسلحة الجيش الظهور بسلوكيات إسلامية، يوافق فيها القول العمل، فأمر عمر – كإجراء احتياطي – بإبعاد منازل الجيش عن قرى الصلح درءاً لإمكانية وقوع أية تجاوزات، تعود بالسلب، على العلاقة المراد إقامتها، وعدم السماح إلا لأهل الثقة بدخول قرى الصلح، والتأكيد على حرمة أهل الصلح ولزوم الوفاء لهم.

- ونصت رسالة عمر على مبدأ ثالث وهو: التنوع في أسلوب المعاملة حسب نوعية شريك الدور، والرفق بأهل الصلح، وعدم تحميلهم فوق طاقتهم، فلقد طلب عمر من أميره، ألا يظلم أهل الصلح بغية النصر على أهل الحرب، وأن يستعين بمن يثق به من أهل المناطق الجاري فتحها، على أن تكون دواعي الثقة المطلقة بمعنى: التحرز فيها كيلاً يؤتى من قبيل الإفراط في حسن الظن.
- أما المبدأ الرابع: فهو ضرورة جمع معلومات كافية عن العدو، فلقد نبه عمر إلى ضرورة إسناد أمر جمع المعلومات إلى طلائع استطلاع من أفضل عناصر الجيش، مع تسليحها بأفضل ما بحوزة الجيش من أسلحة، ذلك أن العدو قد يكشف بعضها فيكرهها على الدخول في قتال، ويجب بالتالي أن تكون من القوة بحيث تحدث الأثر النفسي المطلوب في العدو بإشعاره بقوة الجيش، وبتلمس أسباب الكف عن استخدام القوة.
- أما المبدأ الخامس، والأخير، في رسالة عمر، فهو: وضعه الرجل المناسب في المكان المناسب، واعتبار أن الغرض من جمع المعلومات عن العدو ليس التمكن من محاربته، بقدر ما هو التحرز من استكراه الطرف الثاني للمسلمين على القتال، ولذا يجب على المسلمين الكف بعد الأخذ بالأسباب، والتأهب ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً مع أخذ الحيطة والحذر البالغين( ).
6- الاستعانة بمن تاب من المرتدين:
إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يستعن في حروب الردة ولا في حركة الفتوحات بمرتد، وأما عمر رضي الله عنه فقد استنفرهم بعد أن تابوا وصلح حالهم وأخذوا قسطاً من التربية الإسلامية إلا أنه لم يول منهم أحداً( )، وقد جاء في رواية أنه قال لسعد بن أبي وقاص في شأن طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي: استعن بهما ولا تولينهما على مائة( )، فنستفيد من سنة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر( )، أن من ارتد عن الإسلام ثم تاب ورجع إليه فإن توبته مقبولة ويكون معصوم الدم والمال، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم غير أنه
لا يولى شيئاً من أمور المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، وذلك لاحتمال أن تكون توبته نفاقاً، وإذا كانت كذلك وتولى قيادة المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، فإنه يفسد في الأرض ويقلب موازين الحياة فيقرب أمثاله من المنافقين ويبعد المؤمنين الصادقين ويحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع تسوده مظاهر الجاهلية، فكانت هذه السنة الراشدة من الخليفتين الراشدين لحماية المجتمع الإسلامي من تسلل المفسدين إلى قيادته وتوجيهه، ولعل حكم هذه السنة أيضاً ملاحظة عقوبة المرتدين بنقيض قصدهم، الذين يرتدون من أجل الحصول على الزعامات والقيادات، إذا أظهروا التوبة، وعادوا إلى الإسلام يحرمون من هذه القيادات عقوبة لهم، وردعاً لكل من تسول له نفسه أن يخرج عن الخط الإسلامي، ويبحث عن الزعامة في معاداة الإسلام وموالاة أعدائه( ).



..............يتبع










رد مع اقتباس
قديم 2012-08-01, 15:59   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي

الجزء 20




- كتاب من أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص:
وصل إلى سعد بن أبي وقاص كتاب من أمير المؤمنين وهو نازل في شراف على حدود العراق يأمره فيه بالمسير نحو فارس وقد جاء في هذا الكتاب: أما بعد فسر من شراف نحو فارس، بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع – وإن كان سهلاً – كؤود لبحوره وفيوضه ودأدائه( )، إلا أن توافقوا غيضاً من فيض، وإذا لقيتم القوم أو أحداً منهم فابدؤوهم العتيد والضرب، وإياكم والمناظرة – لجموعهم – يعني الانتظار بعد المواجهة – ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة، أمرهم غير أمركم، إلا أن تجادوهم – يعني تأخذوهم بالجد – وإذا انتهيت إلى القادسية( )، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر( )، على حافات الحجر وحافات المدر، والجراع بينهما( )، ثم ألزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إن أحسوك انغضتهم رموك بجمعهم، الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن، وهذه الوصية في اختيار المكان الذي يستقر فيه الجيش تشبه وصية المثنى لسعد حيث اتفق رأي عمر والمثنى في اختيار المكان، وكانت تلك الوصية من المثنى نتيجة خبرة أكثر من ثلاث سنوات في حرب الفرس، وهذا دليل على براعة عمر رضي الله عنه في التخطيط الحربي مع أنه لم تطأ قدماه أرض العراق رضي الله عنهم أجمعين، وتتضمن هذه الوصية إبقاء الجيش بعيداً عن متناول الأعداء، ثم رميهم بالسرايا التي تنغص عليهم حياتهم وتثير عليهم أتباعهم حتى يضطر المسلمون إلى منازلتهم في المكان الذي تم اختياره( ).

8- من أسباب النصر المعنوية في رأي عمر رضي الله عنه:
كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد يذكره بأسباب النصر المعنوية وهي التي تأتي في المقام الأول، وقد جاء في كتابه: أما بعد فتعاهد قلبك وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما والصبر الصبر، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية والأجر قدر الحسبة، والحذر الحذر على ما أنت عليه وما أنت بسبيله واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) واكتب إليَّ أين بلغ جمعكم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجيلة وخف الله وارجه، ولا تُدِل بشيء، واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكل لهذا الأمر بما لا خُلف له، فاحذر أن تصرفه عنك، ويستبدل بكم غيركم( )، ففي هذا الكتاب يوصي عمر رضي الله عنه بتعاهد القلوب، فإن القلب هو المحرك لجميع أعضاء الجسم والحاكم عليها فإذا صلح صلح الجسم كله، ثم يوصيه بموعظة جنده وتذكيرهم بالإخلاص لله تعالى واحتساب الأجر عنده، ويبين أن نصر الله مترتب على ذلك، ويحذره من التفريط في المسؤولية التي تحملها وما يستقبله من الفتوح، ويذكرهم بوجوب ارتباطهم بالله تعالى وأن قوتهم من قوته ويوصي قائد المسلمين بأن يكون بين مقام الخوف من الله تعالى والرجاء لما عنده، وهو مقام عظيم من مقامات التوحيد وينهاه عن الإدلال على الله بشيء من العمل أو ثناء الناس ويذكره بما سبق من وعد الله تعالى بانتصار الإسلام وزوال ممالك الكفر، ويحذره من التهاون في تحقيق شيء من أسباب النصر، فيتخلف النصر عنهم ليتم على يد غيرهم ممن يختارهم الله تعالى( ).

9- سعد رضي الله عنه يصف موقع القادسية لعمر رضي الله عنه ورد عمر عليه:
كتب سعد إلى عمر رضي الله عنهما: يصف له البلدان التي يتوقع أن تكون ميداناً للمعركة الفاصلة، إلى أن قال: وأن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلي إلبٌ لأهل فارس قد خضعوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال له منهم، فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا، ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلّم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية( )، فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع حتى تقحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله( )، ومن خلال رسالة عمر يتبين أنه اتخذ القرار المناسب وهو:

- أن يثبت سعد في مواقعه فلا يبارحها.
- أن لا يبادر العدو بالقتال بل يترك له أمر هذه المبادرة.
- أن يعمد إلى استثمار النصر ويطارد العدو حتى المدائن، فيفتحها عليه( )، ومع الأخذ بالأسباب المادية التي لا بد منها في إحراز النصر لم يترك الفاروق الجوانب المعنوية وشن حرب نفسية على الخصوم في عقر دراهم، وعز ملكهم، وقوة سطوتهم، فأرسل إلى سعد: إني ألقي في روعي: أنكم إذا لقيتم العدو غلبتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان وإشارة أو لسان كان عندهم أماناً، فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم( ).
لقد كان عمر رضي الله عنه يعيش مع الجيش الإسلامي بكل مشاعره وأحاسيسه، ولقد تكاثفت عليه الهموم حتى أصبح لا يهنأ بعيش ولا يقر له قرار حتى يسمع أخبارهم، وإن في مثل هذا الإلهام من الله تعالى تخفيفاً من هذا العبء الكبير الذي تحمله عمر وتثبيتاً للمسلمين وتقوية لقلوبهم، ونلاحظ أن الفاروق رضي الله عنه ذكّر المسلمين بشيء من عوامل النصر المعنوية حيث حثهم على الالتزام بشرف الكلمة والصدق في القول والوفاء بالعهود، ولو كان من التزم بذلك أحد أفراد المسلمين، أو كان هناك خطأ في الفهم فلم يقصد المسلم الأمان وفهمه
العدو أماناً( ).

ثانياً: الفاروق يطلب من سعد أن يرسل وفداً لمناظرة ملك الفرس:
وقال عمر لسعد في رسائله: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله، وتوكل عليه وابعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه إلى الله فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم وفلجاً عليهم وطلب الفاروق من سعد أن يكتب له كل يوم( ) ، وشرع في جمع رجال من أهل النظر والرأي والجلد، فكان الذين وقع عليهم الاختيار من أهل الاجتهاد والآراء والأحساب.

1- النعمان بن مقرن المزني.
2- بسر بن أبي رهم الجهني.
3- حملة بن جويه الكناني.
4- حنظلة بن الربيع التميمي.
5- فرات بن حيان العجلي.
6- عدي بن سهيل.
7- المغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب( ).

واختار سعد نفراً عليهم مهابة ولهم منظر لأجسامهم ولهم آراء نافذة.
1- عطارد بن حاجب التميمي.
2- الأشعث بن قيس الكندي.
3- الحارث بن حسان الذهلي.
4- عاصم بن عمرو التميمي.
5- عمرو بن معدي كرب الزبيدي.
6- المغيرة بن شعبة الثقفي.
7- المعنى بن حارثة الشيباني( ).

فهم أربعة عشر داعية بعثهم سعد دعاة إلى ملك الفرس بأمر عمر رضي الله عنه وهم من سادات القوم كما أرادهم عمر رضي الله عنه، كي يستطيعوا دعوة يزدجرد بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولعل الله يهديه هو وجنده للإيمان وتحقن دماء الطرفين. لقد كان هذا الوفد المنتقى على درجة عالية من الكفاية والقدرة لما أوفد له، فالإضافة إلى ما يتمتعون به من جسامة وقوة ومهابة وحسن رأي، فلهم أيضاً سبق معرفة بالفرس، فقد كان منهم من عاركهم وعركهم ومارس معهم الحروب في حملات سابقة، ومنهم من وفد في الجاهلية على ملوك الفرس، ومنهم من يعرف اللغة الفارسية، فكأن سعد اختارهم لهذه الوفادة بعد أن اجتاز كل منهم كشفاً فنياً من حيث كفاءته وحسن رأيه، وكشفاً طبياً من حيث قوته وضعفه وكشف هيئة من حيث لياقته وجسامته( ). لقد كان الوفد يتمتع بميزتي الرغبة والرهبة التي تتوفر في جسامتهم ومهابتم وجلدهم وشدة ذكائهم( ).
وتحرك هذا الوفد الميمون بقيادة النعمان بن مقرن، فوصلوا المدائن وأدخلوا على ملك الفرس يزدجرد، فسألهم بواسطة ترجمانه: ما جاء بكم ودعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟
فتكلم عنهم النعمان بن مقرن، فقال: (إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خيري الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة قاربه منها فرقة، وتباعد عنه منها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ بمن خالفه من العرب، فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين مكره عليه فاغتبط( )، وطائع فازداد، فعرفنا جميعاً فضل
ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمر أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف. فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن، وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم).
فقال ملك الفرس يزدجرد : إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً
ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم:
ولا تطمعون أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد( )، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فقام المغيرة بن زرارة، فقال: أما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد وذكر من سوء عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي  .. مثل مقالة النعمان .. ثم قال: ((اختر إما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنج نفسك بالإسلام)).
فقال يزدجرد: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم استدعى بوقر( )، من تراب، وقال لقومه: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن فقام عاصم بن عمرو وقال: أنا أشرفهم وأخذ التراب فحمله وخرج إلى راحلته فركبها، ولما وصل إلى سعد قال له (أبشر: فوالله لقد أعطانا الله أقاليد( )، ملكهم)) ( ) .
ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل، مائة ألف أو يزيدون، من ساباط، فلما مر على كوش – قرية بين المدائن وبابل – لقيه رجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم، وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا قال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم: قال العربي: أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل( )، الإنس وإنما تجادل القدر!
فغضب منه رستم وقتله: فلما مرّ بجيشه على البرس – قرية بين الكوفة والحلة غصبوا أبناء أهله وأموالهم، وشربوا الخمور، ووقعوا على النساء! فشكى أهل البرس إلى رستم فقال لقومه: ((والله لقد صدق العربي! والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم حرب أحسن سيرة منكم)) ( ).
ولما علم سعد أمير جيش المسلمين خبر رستم، أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وطليحة بن خوليد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا سرح العدو منتشراً على الطفوف( )، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل سائراً حتى دخل جيش العدو وعلم ما فيه، فرجع إلى سعد وأخبره خبره وكان طليحة هذا من زعماء الردة.
وقد سمح الفاروق لمن ارتد وتاب من العرب بالاشتراك في الجهاد وكان الصديق رضي الله عنه يمنع ذلك، وكان الفاروق يمنع من خرج من زعماء أهل الرد بعد توبته إلى الجهاد أن يتولى إمارة ولم يولِّ منهم أحداً وحرص على أن يتربوا على معاني الإيمان والتقوى وأتاح لهم فرصة ثمينة ليعبروا فيها عن صدق إيمانهم وتقواهم وكان لطليحة الأسدي وعمرو الزبيدي مواقف مشهودة في حروب العراق والفرس.


ثالثاً: سعد بن أبي وقاص يرسل وفوداً لدعوة رستم:

وسار رستم بجيشه من الحيرة حتى نزل القادسية على العتيق – جسر القادسية – أمام عسكر المسلمين، يحول بينهم النهر، ومع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلاً، ولما نزل أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه.
فأرسل إليه: ربعيَّ بن عامر فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب: وبُسُط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب! فأقبل ربعيُّ على فرسه، وسيفه في خِرْقة( ) ورمحه مشدود بعِصَب( )، فلما انتهى إلى البساط وطأه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما: وجعل الحبل فيهما، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه؛ فقال: لو أتيتك فعلت ذلك بأمركم، وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويُقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البُسط، ثم دنا من رستم، وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بَعَثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومنْ ضيق الدُّنيا إلى سغنها، ومن جور الأدْيَان إلى عدل الإسلام، فأرسل لنا رسوله بدينه إلى خَلْقِهِ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة، أو الظَّفر( ).
فقال رستم قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ فقال: نعم، وإنَّ مما سَنَّ لنا رسول الله  ألاّ نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة( ) في اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، وأنا كفيل عن أصحابي.
فقال رستم أسيِّدهم أنت؟ قال: لا ولكنّ المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض، يُجِيزُ أدناهم أعلاهم.
ثم انصرف، فخلا رستم بأصحابه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه:
فقال رستم: ويلكم وإنما أنظر إلي الرأي والكلام والسيرة، والعربُ تستخف اللباس وتصون الأحساب.
فلما كان اليوم الثاني من نزوله، أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا هذا الرجل. فأرسل إليه حذيفة بن مِحْصَن الغلفاني، فلم يختلف عن ربعي في العمل والإجابة، ولا غرابة، فهما مستقيان من إناء واحد، وهو دين الإسلام.
فقال له رستم: ما قَعَد بالأول عنا؟ قال: (أميرُنا يَعْدل بيننا في الشدة والرّخاء، وهذه نوبتي). فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟ قال: إلى ثلاث، من أمس.
وفي اليوم الثالث أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً. فأرسل إليه المغيرة بن شعبة فتوجه إليه، ولما كان بحضرته جلس معه على سريره، فأقبلت إليه الأعوان يجذبونه! فقال لهم: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني: أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السِّيرة ولا على هذه العقول.
فقالت السوقة: صدق والله العربي، وقالت الدَّهاقين -زعماء الفلاحين- لقدر من بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه، قاتل الله سابقينا حيث كانوا يُصَغِّرون أمر هذه الأمة.
ثمّ تكلم رستم بكلام صَغَّر فيه شأن العرب، وضخَّم أمر الفرس، وذكر ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش( ).
فقال المغيرة: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف، فنعرفه
ولا ننكره، والدنيا دُول، والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما أتاكم الله لكان شُكركم قليلاً على ما أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشُّكر إلى تغير الحال وإن الله بعث فينا رسولاً، ثم ذكر مثل ما تقدم، وختم كلامه بالتخيير بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة( ).
فخلا رستم بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأوَّلان فجسراكم( ) واستخرجاكم( )، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقاً واحداً، ولزموا أمراً واحداً، هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرّهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء، فَلَجُّوا( ).


رابعاً: الاستعداد للمعركة:
لم ينتفع الفرس بدعوة الوفود، وتمادوا في غيهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فأجمع الفرس على القتال واستعد المسلمون لذلك وعبر الفرس نهر العتيق وعيّن رستم جيشه العرمرم على الشكل التالي:

- في القلب: ذو الحاجب (ومعه 18 فيلاً) عليها الصناديق والرجال.
- في الميمنة: مما يلي القلب: الجالينوس.
- في الميمنة: الهرمزان (ومعه 7 أو 8 أفيال ) عليها الصناديق والرجال.
- في الميسرة مما يلي القلب: البيرزان.
- في الميسرة: مهران (ومعه 7 أو 8 أفيال) عليها الصناديق والرجال، وأرسل رستم فرقة من خيالته إلى القنطرة لتمنع المسلمين من عبورها نحو جيشه، فأصبحت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان ترتيب الصفوف على الشكل التالي:

- الخيالة في الصفوف الأولى، يليها الفيلة، ثم المشاة، ونصب لرستم مظلة كبيرة استظل بها على سريره وجلس يراقب سير المعركة( )، وكان المسلمون على أهبة الاستعداد وعلى أحسن تعبئة للقتال، فقد عبأ سعد بن أبي وقاص جيشه مبكراً، وأمّر الأمراء، وعرّف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من أهل السابقة أيضاً ورتّب المقدمة والساقة والمُجنِّبات والطلائع، وقد وصل القادسية على تعبئة، وقد عبأ جيشه على الشكل التالي:
1- على المقدمة: زُهرة بن الحَويَّة.
2- وعلى الميمنة: عبد الله بن المُعْتمِّ.
3- وعلى الميسرة: شرحبيل بن السمط الكندي، وخليفته خالد بن عُرْفُطة.
4- وعلى الساقة: عاصم بن عمرو.
5- وعلى الطلائع: سواد بن مالك.
6- وعلى المجرّدة: سلمان بن ربيعة الباهلي.
7- وعلى الرَّجَّالة: حَمَّال بن مالك الأسدي.
8- وعلى الركبان: عبد الله بن ذي السهمين الحنفي.
9- وعلى القضاء بينهم: عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.
10- وكاتب الجيش: زياد بن أبي سفيان.
11- ورائده وداعيه: سلمان الفارسي وكل ذلك بأمر من عمر( ) هذا وقد خطب سعد بن أبي وقاص في الناس وتلا قول الله تعالى:  وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105)  (الأنبياء،آية:105). وأمر القرّاء أن يشرعوا في سورة الأنفال، فقرئت ولما أتموا قراءتها هشت( ) قلوب الناس وعيونهم، ونزلت السكينة وصلى الناس الظهر وأمر سعد جيشه أن يزحفوا بعد التكبيرة الرابعة وأن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله واستمرت المعركة أربعة أيام.
وقد كان سعد رضي الله عنه مريضاً بعرق النسأ، وبه دمامل لا يستطيع الركوب ولا الجلوس فكان مكبِّا على صدره وتحته وسادة ويشرف على الميدان من قصر قُدَيْس الذي كان في القادسية وقد أناب عنه في تبليغ أوامره خالد بن عرفطة، وقد أمر بأن ينادي في الجيش: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله، أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد( )، وقبل بدء القتال حصل اختلاف على خالد بن عرفطة نائب سعد فقال سعد: احملوني وأشرفوا بي على الناس، فارتقوا به، فأكبّ مطَّلعاً عليهم والصف في أسفل حائط قصر قُدَيْس يأمر خالداً فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه بعض وجوه الناس فهمَّ بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم، فحبسهم، ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر، وقال جرير بن عبد الله  مؤيداً طاعة الأمير  أما أني بايعت رسول الله  على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً. وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننتُ فيه سنة يؤخذ بها من بعدي( )، وقد قام فيهم سعد بن
أبي وقاص بعد هذه الحادثة خطيباً، فقال بعد أن حمد لله وأثنى عليه: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناؤه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي
الصَّالِحُونَ(105)  (الأنبياء،آية:105) إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج فأنتم تطعمون منها وتأكلون، وتقتلون أهلها وتجبرنهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة، عِزَّ من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم تُوبقوا آخرتكم( ).
وكتب سعد إلى الرايات: إني قد استخلفت فيكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبوب( )، فإني مُكبُّ على وجهي وشخصي لكم باد فاسمعوا له وأطيعوا فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأيي، فقُرئ على الناس فزادهم خيراً، وانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثُّوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرِّضى بما صنع( )، وقد بقي سعد بن أبي وقاص فوق القصر وأصبح مشرفاً على ساحة المعركة ولم يكن القصر محصناً وهذا يدل على شجاعة سعد رضي الله عنه، فعن عثمان بن رجاء السعدي قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصراً غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برُمَّته( )، فوالله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه( ).

- فزع رستم من الأذان:
لما نزل رستم النجف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندَّ منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون، فيفترقون إلى موقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحداً منهم يأكل شيئاً إلا أن يمصوا عيداناً لهم حين يُمسون وحين ينامون وقبيل أن يصبحوا، فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق( )، وافقهم وقد أذن مؤذن سعد الغداة فرآهم يتهيأون للنهوض، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتحشحشوا( ) لكم، قال عينه ذلك: إنما تحشحشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية وهذا تفسيره بالعربية: أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل( )، فلما عبروا تواقفوا وأذن مؤذن سعد للصلاة يعني صلاة الظهر فصلى سعد، وقال رستم: أكل عمر كبدي( ).
- رفع الروح المعنوية بين أفراد الجيش الإسلامي:
جمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجهاء المسلمين وقادته في بداية اليوم الأول من المعركة وقال لهم: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق لهم عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم، وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتُهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال، فساروا فيهم( ).

- فقال قيس بن هبيرة الأسدي: أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم له يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عاداته، فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظِّراب الخُشْن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.
- وقال غالب بن عبد الله الليثي: أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم، وادعوه يحيكم، يا معشر معدّ، ما علّتكم اليوم وأنتم في حصونكم يعني الخيل ومعكم من لا يعصيكم يعني السيوف؟ اذكروا حديث الناس في غد، فإنه بكم غداً يبدأ عنده، وبمن بعدكم يُثنَّى.
- وقال ابن الهذيل الأسدي: يا معشر معدّ، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كالأسود الأجم، وتربَّدوا لهم تربُّد النمور وادرعوا العجاج، وثقوا بالله، وغضوا الأبصار، فإذا كلَّت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
- وقال بسر بن أبي رهم الجهني: احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له، ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وآمنتم بنبيه ورسله، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا يكوننَّ شيء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتي من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم.
- وقال عاصم بن عمرو: يا معشر العرب إنكم أعيان العرب وقد صمدتم لأعيان من العجم، وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمراً تكونون شيئاً على العرب غداً.
- وقال ربيع بن البلاد السعدي: يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ(133)  (آل عمران،آية:133).
وإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل( ).
- وقال ربعي بن عامر: إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر راحة، فعوِّدوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعوّدوها الجزع فتعتادوه، وقد قال كلهم بنحو هذا الكلام، وتواثق الناس وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم( ).

1- يوم أرماث:
يطلق يوم أرماث على اليوم الأول من أيام القادسية وقد وجه سعد رضي الله عنه بيانه إلى الجيش قائلاً: الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئاً حتى تصلُّوا الظهر، فإذا صليتم الظهر فإني مكبِّر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يُعْطه أحد قبلكم، واعلموا أنّما أُعطيتموه تأييداً لكم، ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا، ولتسثتم عُدَتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا:
لا حول ولا قوة إلا بالله( ).
ولما صلى سعد الظهر أمر الغلام الذي كان ألزمه إياه عمر وكان من القراء أن يقرأ سورة الجهاد (يعني الأنفال) فقرأ على الكتيبة الذي يلونه سورة الجهاد، فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها( )، ولما فرغ القراء كبّر سعد، فكبَّر الذين يلونه بتكبيرة، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتحشحش الناس (يعني تحركوا) ثم ننَّى فاستتمَّ الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم فاعتوروا
الطعن والضرب( )، وكان لأبطال المسلمين من أمثال غالب بن عبد الله الأسدي، وعاصم بن عمرو التميمي وعمرو بن معديكرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي أثر ظاهر في النكاية بالعدو حيث قتلوا وأسروا عدداً من أبطالهم ولم يقتل من المسلمين أحد فيما ذُكر أثناء المبارزة، والمبارزة في عسير من فنون الحرب
لا يتقنه إلا الأبطال من الرجال، وهي ترفع من شأن المنتصرين وتزيد من حماسهم، وتخفض من شأن المنهزمين وتحط من معنوياتهم، والمسلمون الأوائل متفوقون في هذا الفن على غيرهم دائماً، ولذلك هم المستفيدون من المبارزة( )، وبينما الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة إذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد انهدوا فإنما سميتم نهداً لتفعلوا، فبعث خالد بن عرفطة، والله لتكفنّ أو لأوليِّن عملك غيرك، فكفَّ( ).

- رستم يأمر جانباً من قواته بالهجوم:
ولما رأى رستم تفوق المسلمين في مجالي المبارزة والمطاردة لم يمهلهم حتى يكملوا خطة قائدهم في المزيد من حرب المطاردة والمبارزة بل أمر جانباً من قواته بأن تهجم هجوماً عاماً على جانب جيش المسلمين الذي فيه قبيلة بجيلة ومن لفَّ معهم، وكان الهجوم ملفتاً للنظر لأن الفرس وجهوا ما يقرب من نصف الجيش إلى قطاع لا يمثل إلا نسبة قليلة من الجيش الإسلامي، وهذا يدل على محاولتهم المستميتة لقطع حرب المبارزة والمطاردة التي فشلوا فيها، وهكذا هجم الفرس على أحد جناحي جيش المسلمين بثلاثة عشر فيلاً وكل فيل يصحبه حسب تنظيم جيشهم أربعة آلاف مقاتل من المشاة والفرسان، ففرقت الفيلة بين كتائب المسلمين وكان الهجوم مركزاً على بجيلة ومن حولهم وثبت المشاة من أهل المواقف لهجوم الفرس.

أ- سعد يأمر أسد بالذّب عن بجيلة:
أبصر سعد رضي الله الموقف الذي وقعت فيه بجيلة فأرسل إلى بني أسد يقول لهم: ذَبِّبُوا عن بجيلة ومن لافَّها من الناس، فخرج طليحة بن خويلد وحَمَّال بن مالك، وغالب بن عبد الله والرّبيِّل بن عمرو في كتائبهم، يقول المعرور بن سويد وشقيق: فشدُّوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، فأخِّرت وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما لبَّث طليحة أن قتله، ولما رأت فارس
ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد رموهم بحدِّهم وبدر المسلمين الشَّدَّة عليهم ذو الحاجب والجالينوس وهما قائدان من قادة الفرس والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم، وقد كبَّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيلةس من الميمنة والميسرة على خيول المسلمين، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلح فرسانهم على المشاة ليدفعوا بالخيل لتُقدم على الفيلة.

ب- سعد يطلب من بني تميم حيلة للفيلة:
أرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي فقال: يا معشر تميم ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله، ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين لهم ثقافة يعني حذق وحركة فقال لهم: يا معشر الرماة ذُبُّوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل وقال: يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطِّعوا وضُنُها يعني أحزمتها لتسقط توابيتها التي تحمل المقاتلين وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذنابها وذباذب توابيتها يعني ما يعلق بها فقطعوا وضُنُها وارتفع عواء الفيلة فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أُعْريَ، وقتل أصحابها، وتقابل الناس ونُفِّس عن أسد، ورَدُّوا فارس عنهم إلى مواقفهم فاقتتلوا حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأُصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم يعني وبني تميم عادية الناس وحاميتهم وهذا يومها الأول وهو يوم أرماث( ).

ج- موقف بطولي لطليحة بن خويلد:
كان لأمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تأثير على بني أسد، فقد قال طليحة بن خويلد يومئذ: يا عشيرتاه إن المنوّه باسمه الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحداً أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدؤوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة فإنما سُمِّيتم أسداً لتفعلوا فعله شدُّوا ولا تصدوا، وكُرُّوا ولا تفروا، لله در ربيعة أيُّ فري يفرون، وأيُّ قِرنٍ يغنون، هل يوصل إلى موقفهم فأغنوا عن مواقفكم أغناكم الله، شدوا عليهم باسم الله( )، وقد كان لهذا الكلام مفعول عجيب في نفوس قومه حيث تحولوا إلى طاقات فعالة، وتحملوا وحدهم رحى المعركة إلى أن ساندهم
بنو تميم، وقدموا في هذا اليوم خمسمائة شهيد( )، وقد تأثرت القبائل من بطولة بني أسد فقال الأشعث بن قيس الكندي: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فر يفرون وأي هذٍّ يهذّون عن موقفهم فتحول موقف كنده من الدفاع إلى الهجوم فأزالوا من أمامهم من المجوس وردُّوهم إلى الوراء( ).

د- ما قيل في الشعر في ذلك اليوم:
قال عمرو بن شأس الأسدي:
لقد عَلِمَتْ بنو أسد بأنا
وأنا النازلون بكل ثغر
ترى فينا الجياد مسوّمات
ترى فينا الجياد مُجلجِّات
بجمع مثل سلم مُكْفَهِر
بمثلهمُ تلاقي يوم هيج
نفينا فارساً عما أرادت
أولوا الأحلام إذ ذكروا الحُلوما( )
ولو لم نُلْفِه( ) إلا هشيماً
مع الأبطال يَعْلُكْنَ الشَّكيما
تُنَهْنِه عن فوارسها الخُصوما( )
تَشَبّهُهُم إذا اجتمعوا قروماً( )
إذا لاقيت بأساً أو خصوماً
وكانت لا تُحاول أن تَرِيما

هـ- مستشفى الحرب:
كان موقع مستشفى الحرب في العُذيب حيث تقيم نساء المجاهدين الصابرات المحتسبات، فيتلقين الجرحى ويتولين علاجهم وتمريضهم إلى أن يتم قضاء الله فيهم ومع ذلك فإن لهن مهمة أعجب من ذلك يشترك معهن فيها الصبيان ألا وهي حفر قبور الشهداء، ولئن كان تطييب الجرحى وتمريضهم من المهمات القريبة المنال للنساء فإن حفر الأرض من المهمات الخشنة، ولكن الرجال كانوا مشغولين بالجهاد، فلتقُم النساء بمهمتهم عند الضرورة، وهنَّ أهل لذلك لما يتصفن به من الإيمان والصبر( )، وقد تم نقل الشهداء إلى وادي مشرِّف بين العذيب وعين الشمس في جانبيه جميعاً( )، وكان التحاجز بين المسلمين وأعدائهم تلك الليلة فرصة لزيارة بعض المجاهدين لأهلهم في العذيب( ).



.............يتبع











رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الجز15, شجرة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 21:29

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc