في غابة النخيل
ــــــــــــــــــــــ
التلال – اقصد المدن – محاطة بغابات من النخيل من كل جانب , فقد كان اول ما اجه اليه السكان بعد استقرارهم في الوادى البحث عن مصادر المياه ثم العمل على خزنها , ثم تقسيمها والاستفادة منها قبل ان تضيع في الصحراء , وكان على بقايا الدولة الرستمية اللجوء إلى مكان يصعب على غيرهم الوصول اليه , ولايغرى ندرة الماء فيه سواهم من العابرين , واختاروا قلة المياه مقابل الامان , كانت هذه مجرد البداية التى سريعا ماتطورت بالجهد المبذول في توفير المياه وتخزينها , ولذلك ليس لسدودها وآبارها وقنواتها ونظام توزيع المياه بها مثل في نواحى الصحراء الجزائرية كلها , فقد ابتكروا اساليب معمارية خاصة , والسدود القائمة هنا يعود تاريخ بعضها إلى سبعمائة او ثمانمائة عام , وتهدف إلى تخزين وتحويل مجرى المياه في الوادى إلى كروم النخيل , اما السدود الباقية الواقعة في نهاية الوادى فتهدف إلى نشر المياه وتوزيعها على المنطقة كلها لملء الآبار القائمة , وتبقى الاقنية جافة طيلة ايام السنة , بأستثناء بعض ساعات تنهمر فيها الامطار , واذا زادت تتحول إلى تهديد خطير , وكثيرا ما دمرت السيول القرى الصحراوية , ولهذا يخالط فرح الاهالى بهطول المطر قلق من تحولها إلى سيول .
كما احتاج توزيع الكميات المحدودة من المياه إلى معرفة جيدة بالاراضى واساليب ريها , ووضع نظام صارم يحقق عدالة توزيعها , وشاهدنا في نهاية كل غابة عند ملتقى شعاب الاودية واليابسة , سواقى مبنية تلتقى فيها مياه الامطار , وتوزع فتمر في سواقى عريضة في مدخل كل مزرعة , وتمر من خلال فتحة تضيق تتسع حسب مساحة أراضها في دقة وعناية وعدالة , ثم تنتهي تلك السواقي لتصب خلف سد , بعد أن تمر وتتخل حدائق النخيل جميعها , وتعود وتغذى الآبار ويستخرجها الفلاح من البئر , ويروى بها نخيله لعام أو عامين آخرين وحتى يهطل المطر من جديد , وقد اسطاعوا ان يحفروا في الوادي ما يزيد عن أربعة آلاف بئر , يتراوح عمقها بين 25 و 60 مترا , وغرسوا 170 ألف نخلة .
وروى لى احد أبناء الوادي , وهو يقف أمام بئر عتيقة قائلا : (( هذه البئر حفرت على مدى ثلاثة قرون , بداء العمل الجد وواصله الابن ثم الحفيد وابن الحفيد وكانت الآلة المستخدمة في الحفر لأتزيد عن قرن غزال ..)) وهى كلمات بسيطة تعكس شعور أهل مزاب بالجهد المبذول في حفر الآبار على مدى عدة أجيال ..
بنى يزقن
ــــــــــــ
وتجولنا طويلا في بنى يزقن , نموذج للمدينة المزابية كما كانت عليه منذ القدم , المدينة على شكلها الهرمي ترتفع صومعة المسجد المربعة عند القمة ..
السور ما زال على حاله يحيط بالبلدة , ويصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة أمتار , وتدخل إلى البلدة عبر بوابة يقف أمامها حرس خاص , ويبلغ طول السور ألفين وخمسمائة متر , التضامن والحاجة الملحة للشعور بالأمن هي التي أقامته .
ولا يفوتك ان تلحظ بعدا هاما في كل أرجاء مدن مزاب ألا وهو الاهتمام البالغ بالاستعدادات الدفاعية ,ليس في الأبراج والأبواب فحسب , بل في تخطيط المدينة ذاتها فالأزقة ملتوية التواء لا تستطيع أن تتبين متى ينتهي , والأبراج بنيت من أربعة أو خمس طوابق حتى يتبين رجال الحراسة الخطر وينذروا به الاهالى , وتمتد هذه الابراج على طول نقط متقابلة تنقل صيحات التحذير من واحد إلى آخر , وتحولت مع الوقت إلى إشارات ضوئية ثم إلى طلقات البندقية , والأمن هنا لا يقتصر على غارات البدو , بل ومواجهة خطر السيول والفيضانات , فطلقة واحدة عندما تبداء السيول وطلقتان عند هجوم العدو .. أليست هذه مدنا للإنتاج والدفاع معا ؟ وهو ما ينبغي مراعاته أمام الأخطار المتلاحقة التي تواجه المدن العربية في عصرنا الراهن .
ممنوع التدخين
وتدلف إلى بنى يزقن من بوابتها الضخمة , وأول ما تشاهده لافتة تتضمن مجموعة من التحذيرات باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية , تبداء بطلب الامتناع عن التدخين والامتناع عن تصوير المارة , وعدم دخول منازلهم , وارتداء ملابس(( الحياء )) وعد تقديم الحلويات للأطفال .
واتجول في المدينة التاريخية تشدنى وحدة الفكرة المعمارية وتناسقها , والتى قدمت الضرورى على الكمالى , ووحدة الفكر التى اقامت هذه العمارة والتى تؤكد انه اذا توجه المعماريون نحو البساطة وكانت البداية هى دراسة المنطقة التى يعملون بها , لتحققت هذه الوحدة , ويعود الجمال الغائب إلى العمارة الحديثة , البيوت متساوية الارتفاع تتراوح بين الوانها بين الابيض والازرق والاصفر , الابيض يعكس الحرارة , والازرق يحمى البيت من الحشرات خاصة البعوض والاصفر لون الصحراء.
وسيلة المواصلات هى هنا ركوب الحمير التى يمكنها وحدها الانتقال في هذه الازقة الضيقة , ويصادفك الباعة المتجولون ينتقلون في هذه الازقة وبضائعهم مكدسة فوق حميرهم , وحتى موزع البريد ينتقل في ازقة المدينة على حمار حكومى لتوزيع البريد.
وفى ساحة كبيرة سط المدينة يجلس الشيوخ بلحاهم البيضاء امام بيوتهم , ويعقد في هذه الساحة مزاد كل يوم ثلاثاء ساعة الغسق , يباع خلاله كل ما هو قديم , فمثلا هنا ينتقل الاناء او الموقد بين ايدى اكثر من اسرة خلال هذا المزاد الاسبوعى , مما يكشف الحس الاقتصادى والحرص الشديد الذي يتمتع به اهل الوادى , بل وعندما يشترك كل من في الساحة في المزد ..
ولا يمكن للاجنبى البقاء في بنى يزقن بعد الغروب , واذا صادف ولمحت احد نساء مزاب فن لتفات بعباءة بيضاء لايظهر منهن شىء , وحتى البئر تغطى كى تلجه المرأة ولا يتمكن الفضوليين من رؤيتها , وسمعت مثلا جزائريا يعبر عن كانة المرأة فى الوادي يقول(( للمزابى سبعة قبور وللمرأة قبر واحد)) ...رغم ان المرأة المزابية تتولى الأشراف على شؤون الأسرة فاغلب الرجال يسافرون بعيدا للعمل و للتجارة خارج الوادي , كما ساهمت المرأة إلى جانب الرجل في مواجهة الظروف التاريخية القاسية , وهى وحدها التى تصنع تلك المنسوجات الصوفية المختلفة , اذ تعيب التقاليد على الرجل المشاركة في نسجها , وتنتج مزاب اشكالا فنية بديعة , كانت تشتريها في الماضى القوافل , ويولع بها اليوم السياح الذين يدفعون فيها مبالغ طائلة .
٭٭حلقة العزابة
هذا عن مظاهر الحياة المختلفة التى لمستها في مدن مزاب , وهى لا تنفرد بالعادات والتقاليد والازياء فحسب , بل لديها نظام اجتماعى خاص . مازال يحكم علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية كل مدينة بها جماعة تقودها تسمى(( حلقة العزابة )) وهو نظام قائم منذ ما يزيد عن تسعة قروو وربما يمتد إلى ايام الدولة الرستمية ,(( والعزاب )) اى الذين يعزبون عن الدنيا عن الدنيا ومغرياتها , وينتقى لهذا المجلس صاحب صاحب المعرفة والسيرة الصالحة ويشترط ان يكون حافظا للقرآن الكريم وملتزما بأحكام الشريعة الاسلامية , ويتكون المجلس من 12 عضوا , وتقوم حلقة العزابة بالفتوى فيما يختلف عليه الاهالى , ووضع قواعد مقررة للمشاكل الجديدة , ويتولى مجلس العزابة الاشراف على تدريس القرآن لابناء المدينة , ورئيس الحلقة هو الشيخ او المفتى الذي يتولى التدريس والخطابة في الجامع , وتضم الحلقة ثلاثة معلمين لتعليم الصغار , ويفصل اعضاء العزابة في المنازعات في جلسات تعقد في صحن الجامع بين صلاتى الظهر والعصر , كما تقع على عاتقهم مسؤولية الحراسة داخل الاسوار وينظمون الاسواق والمسالخ , وسواقى المياه والسدود , ولا يتقاضى اعضاء مجلس العزابة اجرا على اعمالهم هذه .
ولاعضاء العزبة أيضا دورهم الاجتماعى , فلا يقع في مدن مزاب ما يقع في غيرها من اختلافات بين العروسين على المهر او الشبكة , فأعضاء العزابة وحدهم هم الذين يحددون المهر , مها تكن اسرة العروس او جمالها , ومهما كان غنى الزوج , ويترك لاسرة العروسين تحديد موعد الزفاف فحسب , اما اذا شاء الزوج ان يزيد , فليفعل ذلك بعد الاشهر الاولى من الزواج .
ويسود شعور بامكانية الاستغناء عن الحكومة المركزية , وبالفعل كان لاقامة مخفر للشرطة في بنى يزقن بعض اوجه المقاومة من الاهالى ... وهذه الحلقة تساعدها حلقتان فرعيتان احدهما للنساء اللاتى يقمن ببعض المسائل الاجتماعية مثل دفن الموتى من النساء , والحلقة الاخرى منظمة ((اروان )) اى الطلبة .
والدليل الحاسم على نجاح حلقة العزابة هو الغاء الامية في مزاب , ففى الجوامع يتعلم ابناء القرية مبادىء الكتابة واللغة العربية ويحفظون القرآن الكريم , وهى صورة فريدة , فالنجاح في القضاء على الامية حلم غال لم تنجح في الوصول اليه العديد من اصحاب النظريات الحديثة .
٭٭٭ مجلس عمى سعيد
ويشكل ممثلو حلقات العزابة في مدن مزاب مجلسا اعلى يسمى مجلس عمى سعيد وهو يضم عدد 16 عضوا عن بلده , وهذا المجلس يبحث المشاكل الطارئة , ويقوم بالصلح بين القبائل وهو هنا بالاصطلاح الحديث مجلس استئناف , واطلق عليه مجلس عمى سعيد لانه يجتمع بمسجد الشيخ عمى سعيد بن على الجربي , وتتلى قراراته على الناس في المساجد , اما من اين يستمد سلطته وهو الذي لا يملك وسائل السلطة المعروفة ..؟ انه يكتفى بالقوة المعنوية للمذهب واذا تمرد اى طرف على قراراته يقوم العزابة(( بالعصيان المدنى )) اى يمتنعون عن القيام بمهامهم ويعتصمون في المسجد , فيتحرك الرأى العام ضاغطا .
ويتوازى مع حلقة العزابة , ومجلس عمى سعيد مجلس رؤساء العشائر , وهذا المجلس يضعف شأنه ويقل تأثيره كلما زاد نفوذ مجلس عمى سعيد .
وهذه المؤسسة القديمة وما تصدره من قرارات ينبغى ان تكون محل دراسة مستفيضة من علماء الاجتماع العرب وخاصة ان الكثير من اعمالها مدونة .
٭٭ مملكة تاهرت
والآن حان الوقت لنستعرض القصة الكاملة للدولة الرستمية , ونقلب صفحات التاريخ لكى نستكمل ابعاد مانرى ...
قامت الدولة الرستمية بعد جهاد طويل , وهى امتداد لمحاولات شهدها المشرق العربي , فبعد زوال دولتهم في البحرين وحضر موت والطائف واليمن سنة 72هـ , وبعد ان لجاء اصحاب المذهب الاباضى إلى التنظيم والدعوة كبديل عن اعمال التمرد الفاشلة , تضمن هذا الاسلوب ارسال الدعاة إلى المناطق البعيدة عن حاضرة الدولة, الاسلامية هذا بعد تجارب عديدة , وبعد ان لجاء اباضية المشرق إلى اساليب الدعوة السرية والتنظيم السياسى بعد فشل حركة عبد الله بن اباضى التميمى في عهد مروان بن عمر الاموى , واخذوا يبعثون من مركزهم في ((البصرة)) دعاتهم إلى الامصار المتطرفة , ونجحت هذه الجهود في جنوب الجزيرة العربية في المغرب , وهذا ما يفسر التشابه القائم بين عمارة مزاب وعمارة كل من سيئون وشيئام في حضرموت , وقد سقطت دولة الكندى في جنوب اليمن سنة 130هـ , وتمركز المذهب في عمان والذى مازال قائما هناك حتى اليوم ...
انتشر الدعاة في المغرب واخذوا يدعون لمبادئهم التى تقود على العدل والحرية , وتعرضوا للاضطهاد بعد ان قامت مبادئهم على التحريض على الخروج ضد الامام الجائر , والاجماع على جواز الامامة لكل مسلم عالم بالكتاب والسنة بغض النظر عن اصله وجنسه ..
((واستقبلت هذه المبادرىء بالحفاوة مما تنطوى عليه من تمسك بالشريعة , وثورية في قوامها السياسى , وبساطة في جوانبها الفكرية , كما لقيت مناخا مواتيا في ظروف المغرب الاسلامى وطبيعة سكانه )),كما جاء في كتاب الدكتور محمود اسماعيل ((الخوارج في المغرب ))..
وتذكر المصادر الاباضية في كتاب سير الائمة واخبارهم ))لمؤلفه ابو زكريا يحى بن ابى بكر والذى تشرته وحققته المكتبة الوطنية في الجزائر : ((ان اول من جاء يطلب مذهب الاباضية ونحن بقيروان افريقيا سلمة بن سعيد ...)) واضاف ..قدم علينا من ارض البصرة ومعه عكرمة بن عباس على بعير )).
وادت تلك الجهود المتواصلة إلى نجاح عبد الرحمن بن رستم في تأسيس دولة تاهرت سنة 161هـ (777م) وامتد نفوذها لتضم اباضية المغرب , ويلاحظ انه في هذا الماضى البعيد غابت وسائل الاتصال الحديثة , ورغم ذلك كان العالم الاسلامى مترابطا , اذا انطلقت فكرة من البصرة على الخليج سرعان ما تجد صداها في اقصى المغرب , فقد سبق وتوجه عبد الرحمن بن رستم إلى البصرة مع عدد من المغاربة في حلقة ابي عبيدة مسلم بن ابي كريم سنة 135هـ , 752م وتلقى على يديه اصول المذهب وخطة العمل .
وعندما قامت دولته اختارتاهرت القديمة التى تعيش حولها قبائل البربر من هوارة ولواته ومكناسة ومزاته ولمايه لتصبح قصبة الدولة ومركز المذهب , ((في مكان جيد الهواء , كثير المياه , خصب الأرض , قابل للعمارة مأمون من العدو )). وقبل الامامة سنة 162هـ .. (( على سنة الله ورسوله وآثار الخلفاء الراشدين , وعاهده رؤساء المذهب على الطاعة فيما وافق الحق وطابقه )) .. واصبح اول أئمة الدولة الرستمية .
وتحكى المصادر الاباضية عن تلك الدولة الحلم تعدد مزاياها , ويكفى انها دولة ليس لها جيش نظامى او شرطة , اى ليس بها اية ادوات للقمع , يقول ابو زكريا : كانت خيول الاباضيين من ممتلكاتهم الخاصة , فبيت المال ليس تحت تصرفهم , ويكسبون رزقهم من عملهم , ولم يكن للامام حرس خاص , والقاضى يتعرض للاهانة –احيانا- من المتقاضين اذا م يوجد في القاعة من يتبرع بالدفاع عنه , كما تروى هذه المصادر بافاضة تتابع وصول الوفود المشاركة من المشرق واعجابهم بحكم الامام عبد الرحمن وما كان عليه من زهد وعدل وورع , وحرصه على اسشارة اهل الرأى في كيفية توزيع الاموال التىيحملونها لهم من المشرق , والتى كانت تنفق في ثلاثة اوجه ثلث في الكراع (الخيل ) وثلث في السلاح , وثلث توزع على فقراء المسلمين وضعفائهم )) , كما طبق الامام عبد الرحمن بصرامة تعاليم المذهب , في كل من نظام القضاء والاحتساب والجباية والصدقات , مع مراعاة بيئة السكان وظروفهم والذى يقول عنهم ماسكوراى ...(( قد كانوا سادة الصحراء ))
٭٭٭٭الايام دوال
ومرت تلك الدولة مثل سواها بدورتها الطبيعية , تبداء بالعنفوان والتطبيق الكامل للدعوة التى حملها مؤسسوها , ومن مرحلة الشباب إلى الشيخوخة , فمع الزمن دبت فيها الخلافات , وتحولت الامامة من الانتخاب إلى الوراثة , وتخلت عن سر قوتها وصلب دعوتها , وعادت الامور إلى سيرتها الاولى والى ذات النهج الذي سبق ودفعهم إلى الثورة .
ففى المرحلة الاولى اوصى الامام عبد الرحمن قبل وفاته بتعيين مجلس شورى وكل اليه اختيار الامام الجديد ومن بين اعضائه , ولم يمض الوقت حتى تغير الامر , بل ولم تنجح هذه الدولة سوى فترة قصيرة في التوفيق بين مطالب الحكم وبين الاعراف البدوية المختلفة , فطمعت القبائل في تولى السلطة , ونجح محمد بن سالة الهوارى في الاستيلاء على الحكم لمدة ثمانية اعوام , واخيرا سقطت مملكة تاهرت على يد ابي عبد الله سنة 297هـ (909م) دون قتال , بعد ان وصلت إلى ذروة ضعفها , وكما جاء على لسان ابن الصغير( ...وكان البلد قد فسد , وفسد اهلها واتخذوا للسكر اسواقا , والغلمان اضرانا ..(( وكانت قد تعرضت لضربة قاسية بسبب ما حل باباضية جبل نفوسه سنة 283هـ في موقعة مانو ( قلعة بين قابس تونس وطرابلس ليبيا ) , عندما اجهز الاغالبة على جيوش نفوسه , وامر ابو عبد الله باحراق المكتبة الرستمي ,المعصومة )) بعد ان انتقى منها الكتب المتعلقة بالحكم والفنون والرياضيات والصنائ , واخيرا اضرم النار في تاهرت .
وبعدما ختفت تاهرت قوى المذهب من جديد في صورة جاعات صغيرة , مشردة في المناطق الصحراوية , وانتقلت بعض هذه الجماعات إلى واحة وارجلان ( في الجزائر ) وعندما هجم المرابطون على الواحة فروا في منتصف القرن الرابع الهجرى – العاشر الميلادى – إلى سدراته وعندما دمرت سدراته كانت صيحتهم ((افترقا ولا تتجمعوا فما اجتمع منكم ثلاثة الا وطلبوا )). وانتهى بهم الحال إلى وادى مزاب ,كما بقى منهم تجمعات في كل من جزيرة ربه تونس , والساقية الحمراء , وتفيلالت ( المغرب ) وجبل نفوسه بليبيا , واصبح كان وادى مزاب مجموعة متلاحمة فخورة بتاريخها ...ويضاف إلى اسباب الاعتزاز القائم بدولتهم القديمة والمستمر حتى اليوم انها كانت آخر عواصم البربر , رغم ان عبد الرحمن بن رستم لم يكن واحدا منهم بل قدم من العراق , ولكن عناصر الدولة الرئيسية قامت على اكتافهم , وخاصة بعد ان عانى البربر طويلا بسبب التجزؤ الجغرافى وصعوبة المواصلات , وقلة الاراضى الصالة للزراعة وم ثنائية البدو والحضر , والتى استطاعت مملكة تاهرت وحدها ان تجاوزه جميعا.
وبقى ان من اسباب انهيار تلك الدولة ما يمكن ان يطلق عليه ((سياستهم غير سياسية )) فقد كانوا في حركتهم اقرب إلى المثالية سواء في خوض الحرو او معاملة الخصوم , فكانوا لا يشهرون الر على اعدائهم الا بعد اعلامهم واخذ الحجة عليهم , ولم يتبعوا المدبر او يجهزوا على الجرحى كما م يخربوا ازرع ولم يهدموا الحصون والاسوار , وتعففوا عن الغنائم من غير السلاح والعتاد , ولم يقتلوا الاطفال او يسبوا الزرارى , وطغت في اوقات كثيرة تعاليم المذهب على دوافع العصبية والعنصرية .
هذه هى القصة الكاملة للدولة الحلم جمعنا اطرافها من بين صفحات التاريخ , وجمعت كل ملاحظاتى وكل ما قرأت وذهبت إلى الشيخ صالح بازملال في مكتبة الشيخ الطفيش في بنى يزقن , والذى درس بجامع الزيتونة , وهو شيخ ضرير لحيته في لون(( جلابته )) يتهدج صوته عدا يتكلم , وعندما سألته حول صورة المجاهد سليمان البارونى التى صادفتها في العديد من الاماكن قال : (( انه اباضى من جبل نفوسه في ليبيا , وقد قرأ هنا عند الشيخ الطفيش – رحمه الله - , وقد قام بدور وطنى في مقاومة الايطاليين وتلاحقت اسئلتى .
· تعتبر العديد من الكتب ... الاباضية كأحد فرق الخوارج , فما رأيك ..؟
-(( لا علاقة بين الاباضية والخوارج سوى اتفاقهما في قضية واحدة وهى رفض كل منهما للتحكيم )).
*ما هو التركيب القبلى لابناء وادى مزب ..؟
-(( اغلب القبائل يعود اصولها إلى البربر , وبعض القبائل الاخرى تعود إلى قبائل عربية فمثلا انتسب انا إلى احداها إلى بنى عدى , وبعض اهل مزاب يمتد نسبه إلى الاشراف ,وكل شىء مسطور , فانساب ابناء المزاب مسجلة , وما زال نظام العشائر قائما ..))
*ما هو سر قائمة الممنوعات التى تواجه الزائر عندما يدخل من بوابة بنى يزقن ؟
- (( لا تجد هنا عادة او تقليدا الا ويعتمد على الكتاب , فالمسجد هنا هو الذي يسير المدينة , وهو قلبها وعقلها ..))
· اذن ما اصل منع تصوير الاهالى ..؟
- (( هذا جزء من الحرية الشخصية , فالاهالى لا يرحبون بالتصوير ..))
· وعدم تقديم الحلويات للاطفال .؟
- ..لكى لا يتعودوا على الحصول على اشياء بلا مجهود ..))
*وعدم وجود اى غريب في البلد بعد العشاء .؟
(( ليس في البلدة فنادق , فما هو مبرر وجوده عندما ياتى المساء اذا كان ضيفا على احد الاهالى فترحب به البلدة جميعا ..))
· يتردد ان مزاب هى المنطقة الوحيدة التى م تشترك في حرب التحرير , ولم تقدم شهيدا واحدا في هذه الحرب ..؟
(( عندما اطلقت رصاصة الثورة الاولى في عام 1954, وكنت في هذا الوقت في القاهرة , وحضرت اجتماعا لمناقشة ما يمكن ان يقوم ه اهل الوادى وكان الاجتماع في بيت السيد البشير الابراهيمى , واتفق خلال هذا الاجتماع على ان الوادى ليس به كهوف او مكان ناوى اليه اذا هاجمتنا قوات الاحتلال الفرنسى , كما ان لدينا جالية كبيرة تعمل في الشمال الجزائرى وكانت مشاركتنا الفعالة مادية بما كنا نبعث به إلى الثوار , وقد التحق البعض بالفعل بالثورة .
- وصمت برهة واضاف ...(( ولقد احبطنا المحاولات الفرنسية التى كانت تهدف إلى فصل الصحراء عن الجزائر عندما ارادوا ان يدقوا اسفينا بين سكان الصحراء وسكان الساحل ولكن الموقف الحاسم الذي اتخذناه واصرارنا على اننا جزء من التراب الوكنى الجزائرى احبط هذه المخططات )).
٭٭٭٭٭سيوه مزاب ..
وسالته: لقد لاحظت التشابة الشديد في العديد من الجوانب بين واحة سيوة في مصر وبين وادى مزاب في الجزائر , نفس طراز مساجد مزاب مع المسجد العتيق في سيوه , نفس لهجة الاهالى , العديد من التقاليد , فهل لديك تفسر لذلك ؟
قال( لقد سبق وزرت واحة سيوة , واهلها يتحدثون ذات اللغة , وهم على اتصال بأهالى جبل نفوسة في ليبيا , وتعود علاقتهما التاريخية إلى ايام الدولة الرستمية , والتى كانت تمتد في الداخل من طنجة وحتى الاسكندرية , ومازالوا متأثرين بتلك العادات والتقاليد ..)).
وسألته اخيرا عن المخطوطات في بنى يزقن , فقال : ان لدينا القليل منها , ولكن في جبل نفوسه ن كتب الاباضية ما هو اكثر وفرة واعرض شمولا ))..
رغم ان كتب التاريخ تحكى انه بعد ان فتح المرابطون وارجلان رحل اباضيتها بكتبهم وانتهوا إلى وادى المزاب , وان هذه الكتب مازالت محفوظة لدى مشايخ المذهب .
٭٭مزابيون في كل مكان
يلحظ زائر المدن المزابية العمل الشاق الذي بعث في هذا الوادى الحياة , واصبح الوادى مجتمعا مزدهرا يتمتع سكانه بعقل عملى , وبعد ان لقنتهم ظروفهم القاسية كيفية العمل والترحال , فرغم كفاءتهم العالية في زراعة الصحراء الا ان الزراعة وحدها لا تكفى لاستمرار حياتهم , فأضافوا إلى اعمالهم الجارة , واصبحت المحلات التى يمتلكها اهل مزاب منتشرة في كل المدن الجزائرية , وفى شمال افريقيا كلها , ووصلوا إلى البلدان الافريقية المجاورة مثل مالى والنيجر ,فبالاضافة إلى التجار الذين تراهم في غاردايه تحت اقواس السوق القديم , توجد الشاحنات التى يمتلكها المزابيون والتى تقطع طريق القوافل القديمة إلى افريقيا , ونمت تجارتهم من التجزئة إلى الجملة وانتقلت إلى الاستيراد والتصدير , وانتشروا في كل مكان حتى مرسيليا , وعرفوا بأنهم تجار حذقون مشهورون بالصرامة والجد . بل وعملوا بالصناعة , من صناعة الزرابى إلى صناعة النسيج ..
وكن كل من يرحل يعود في النهاية إلى الوادى , يعود ليتزوج وفى الوادى يشب اطفاله على ذات التقاليد التى اتبعها الآباء , وعندما يموت احدهم يدفن في محل ميلاده , وكثيرا ما ترسل رفاة من يموتون من مختلف الانحاء إلى الوادى بسيارات الاجرة .
ومن يرى مقبرة العطوف يرى إلى اى حد تختلط التقاليد مع البيئة مع العقيدة , فشواهد القور عمل معمارى جميل , وعمل تشكيلى فذ , وترى إلى جانب تلك الشواهد والاوانى والقدور التى تخص المتوفى وهى من العادات القديمة التى حافظوا عليها .
٭٭في ظل الاحتلال
حافظ اهل مزاب على علتهم مدة طويلة كمجموعة متلاحمة فخورة بتاريخها , وبعد سقوط الجزائر امام الاحتلال الفرنسى , وعندما وصل الفرنسيون إلى الاغواط البوابة الشمالية لمزاب – بعث ابناء مزاب وفدا إلى الاغواط , وهناك عقد الوفد مع الجنرال الكونت دى راندون اتفاقية عام 1852, وضع بمقتضاها الوادى تحت الاحتلال مع الحفاظ على نوع من الحكم الذاتى , وان يستثنى ابناء الوادى من الخدمة في الجيش الفرنسى ..
ويكمل الشيخ صالح بزمال هذه الرواية التاريخية بقوله ...(( كان الاتفاق يقضى بدفع اتاوة للفرنسيين مقابل عدم اشتراك ابناء مزاب في التجنيد..))
٭رياح التغيير
اما اليوم فيشهد مزاب تغييرا كبيرا , فرياح التغييرعاتية لا يمكن مقاومتها , وما شاهدته في مزاب يثبت انه لم يعد ممكنا في هذا العصر – ومع التقدم الهائل في وسائل الاتصال – ان يتمكن مجتمع من الحفاظ على عزلته , حتى لو كان في قلب الصحراء ويتمترس وراء مذهب تدعوا ظروفه التاريخية إلى التمسك بكل ماتركه الآباء . وها هو ذا الكثير من معالم الماضى يتغير , فمثلا وسائل حفر الآبار الحديثة وفرت المياه , واصبحت البلدة تحتاج إلى شبكة صرف حديثة , ولم تعد الجلسة في الغابة كما كانت بعد ان تزايد البعوض , واصبح طراز البيوت القديمة مهددا بأقامة مكان للسيارة , مما وضع امام رجال الآثار صعوبات كبيرة للحفاظ على آثار و طابع مزاب , ومن جانب آخر تحتاج هذه السيارات إلى شوارع واسعة ..
وقفزت إلى السطح مشاكل التغيير المختلفة , فمثلا المدارس الحكومية الالزامية التى تنتشر في كل انحاء الجزائر , مدارس مختلطة تضم البنين والبنات , ويصر اهل الوادى على منع الفتيات الصغيرات من الذهاب اليها ..
٭سجن الماضى
وتعمل الحكومة والحزب برفق وحكمة على احداث التغييرات الضرورية , وبدأت بالتجنيد الاجبارى لكل شباب الوادى , ولا يفوت الزائر ان يلحظ الشعارات التى تنتشر في كل مكان , واحدها يقول : (( ان العناية بالتاريخ لاتعنى بأى حال من الاحوال ان نكون سجناء الماضى او ان نقدسه حتى لا نميز بين ما فيه من ايجابيات وسلبيات )).